عبرت الولايات المتحدة الأمريكية والرعاة الدوليون للعدوان عن إصرارهم الواضح على إطالة معاناة الشعب اليمني واستخدام استحقاقات الإنسانية والقانونية كسلاح حرب وأداة ابتزاز من خلال اعتبارها “مطالب مستحيلة” الأمر الذي جاء بمثابة تأكيد جديد على انسداد أفق التهدئة المتعثرة، وتوجه الأمور نحو تصعيد وشيك، تؤكد صنعاء أنها جاهزة لخوضه بأبعاد استراتيجية وتكتيكية جديدة بعيدة المدى وواسعة التأثيرات.
ابتزازٌ أمريكي معلن
الموقف العدائي الذي أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية ومجلس الأمن قبل أيام من خلال وصفهما مطالب دفع المرتبات من إيرادات البلد، ورفع الحصار، بأنها مطالب “مستحيلة ومتطرفة” تترجم بشكل واضح تمسك الإدارة العليا لتحالف العدوان بمنهج المساومة والمراوغة في التفاوض من أجل كسب المزيد من الوقت وتقييد خيارات صنعاء وجرها إلى مربع مقايضة الثوابت بالاستحقاقات تحت عنوان “تهدئة” مزيفة أصبح واضحاً أن الغرب يدفع لتحويلها إلى حالة “لا حرب ولا سلام” طويلة الأمد، يتمكن فيها من مواصلة استهداف البلد لكن بدون تعريض مصالحه إلى أية أضرار.
توافق التصريحات الأمريكية وبيان مجلس الأمن لم يكن مصادفاً، لأنَّ هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها واشنطن إلى استخدام “الواجهة الدولية” لصناعة ضغوط على صنعاء وهو عادة سلوك يعبر عن مأزق كبير يعيشه البيت الأبيض بين الحاجة إلى عدم عودة التصعيد لأنه سيؤدي إلى تداعيات مزعجة للغاية بدءاً من الأضرار الفعلية وصولاً إلى التأثيرات السلبية على مستوى الوضع الداخلي في الولايات المتحدة فيما يتعلق بالانتخابات، وبين الإصرار على استمرار الحصار والحرب الاقتصادية التي يعتبرها العدوّ آخر “أسلحته”.
مأزق يبدو أن الولايات المتحدة تحاول إجبار صنعاء على مراعاته -بشكل مثير للسخرية- لأن اعتبار استحقاقات الرواتب ورفع الحصار “مطالب متطرفة ومستحيلة” لا يعبر فقط عن سوء تقدير لموقف صنعاء، بل أيضاً عن “عقدة” استكبار وتعنت وصلت بالإدارة الأمريكية إلى حدّ الانفصال عن الواقع ومعطياته، إذ يبدو بوضوح أن الولايات المتحدة لا زالت تعول على “ترهيب” صنعاء بعد كلّ ما حدث!
هذا أَيضًا ما أكّده التهديد الذي أطلقه المبعوث الأمريكي إلى اليمن تيم ليندركينغ، والذي جاء فيه: “إما العودة إلى الهدنة (يعني وفق اشتراطات العدوّ) أو الحرب”، وهو تهديد لفت الانتباه فقط من حيثُ كونه صادر عن الطرف الذي يمكن أن يجد نفسه في خضم مشاكل وتداعيات خطيرة ومتسارعة إذا استأنفت صنعاء استهداف أرامكو فقط، فضلاً عن بقية التطورات التي ستحدث، الأمر الذي دفع ببعض المراقبين إلى اعتبار تصريحات المبعوث مجرد “استعراض” دعائي للتغطية على سوء موقف العدو الذي لو كان فعلاً يرى أنه يستطيع تحمل الحرب لما هرول هو إلى الهدنة في المقام الأول.
على كلّ حال، فقد جاءت الردود من صنعاء منسجمة مع موقفها الثابت الذي لا تؤثر فيه التهديدات ولا الضغوط، والذي ينطلق من موقع قوة ملموسة، حيث أكّد نائب وزير الخارجية حسين العزي أن: “شروط صنعاء ليست صعبة ولا تعجيزية كما يقول تيم ليندركينغ،
إنها تبدو كذلك فقط لأن تحالف العدوان والمجتمع الدولي المتواطئ تعودوا على سلب حقوقنا حتى ظنوا أننا شعب بلا حقوق وأن ثرواتنا الوطنية ملكية خاصة لمن يبيعون وطنهم على الرصيف وهذا غير صحيح”، وأضاف: “احترام حقوق شعبنا مرتكز العبور نحو السلام” وهي رسالة واضحة بأن محاولة التأثير على موقف صنعاء والاستحقاقات التي تتمسك بها، لن تنجح مهما كان حجم الضغوط.
هذا أَيضًا ما أوضحه عضو الوفد الوطني عبد الملك العجري، الذي كتب أن: “فاتورة المرتبات، حتى قبل العدوان، كانت تعتمد على إيرادات النفط والغاز وبما أن دول العدوان ومرتزقتهم من يتحكمون بإنتاج وتصدير النفط فهم ملزمون بتوريد استحقاقات الموظفين في كلّ المحافظات، أو تسند إدارة إنتاج النفط لحكومة الانقاذ وهي جاهزة لتسليم مرتبات الموظفين في كلّ محافظات الجمهورية”.
وأضاف العجري أن: “الاتفاق على حرمان أي موظف من راتبه هي -حقاً- فكرة شريرة” مؤكداً أن: “هناك خيارين إما دفع مرتبات الموظفين أو يتحمل العدوّ مسؤولية عودة الحرب” في رد واضح على تهديد المبعوث الأمريكي، مع فرق أن حديث صنعاء عن عودة الحرب ليس مجرد تهديد دعائي، لأنه ينطوي على معادلة قتالية مرعبة وواسعة كانت العروض العسكرية الأخيرة وما كشفته من قدرات وإمكانات متطورة وجهوزية عالية، جزءاً بسيطاً من معطياتها التي لم يعد العدوّ يستطيع مواجهتها أو احتواء أضرارها وخصوصاً فيما يتعلق بمسار الردع الاستراتيجي العابر للحدود.
إنذارات أخيرة: أهداف عالية الحساسية ستتعرض للقصف
وزير الدفاع اللواء الركن محمد ناصر العاطفي، وضح الصورة أكثر أمام الولايات المتحدة ودول العدوان من باب إكمال الحجة، وإعادة ضبط المشهد الذي تحاول قوى العدو أن تتجاهل طبيعته الحقيقية، حيث أكّد في تصريحات جديدة أن القوات المسلحة “لن تتردد في قصف أهداف غاية في الحساسية تم وضعها في بنك الضربات القادمة والمحددة وهي تحت مرمى النيران وليس فقط في العمقين السعودي والإماراتي لأن ذراع قوة الردع الاستراتيجية اليمنية تستطيع الوصول إلى أبعد من ذلك بكثير”
وأضاف: “لقد أعددنا قدراتنا وقواتنا على هذا القرار العسكري الاستراتيجي فلا تختبروا صبرنا وقد أعذر من أنذر” مؤكداً أن “عويل المعتدين سيصل إلى أبعد مدى ولن نقبل أي تباك من أي كان، فلا خطوط حمراء ولا موانع ستقف أمام سطوة الصواريخ والطائرات اليمنية براً وبحراً وجواً” وأن “صنعاء بعد الهدنة غير صنعاء قبلها”.
تأكيدات أقرب إلى إنذارات أخيرة منها إلى مجرد رسائل، خصوصاً وأن القوات المسلحة قد وجهت قبل أيام تحذيرات ملفتة جدًّا للشركات الأجنبية والمستثمرين في دول العدوان، وهو ما يعني أن التصعيد الأكبر مرهون الآن فقط بتوقيت وحسابات صنعاء ومراعاتها الاختيارية لجهود الوسطاء (على الرغم من أنها تبدو جهودا ذات اتجاه واحد فقط) وليس بأية حسابات أخرى يظن العدو أنه قادر على التحكم بها أو الاطمئنان إليها، لأن الهدنة التي يتحدث عنها قد انتهت بالفعل ولا مجال للعودة إليها.
وفي هذا السياق حرص اللواء العاطفي أَيضًا على توضيح تفاصيل المشهد للتأكيد على أن السلام لا زال بعيداً وأن الهدنة لم تغير شيئاً يذكر، وأن الوضع الراهن على الميدان هو وضع حرب بكل المقاييس، حيث ذكّر بأن “قوى العدوان عمدت خلال فترات الهدن السابقة إلى إعادة ترتيب أوضاع أدواتها الداخلية سياسياً وعسكرياً ووسعت من انتشار القواعد العسكرية الأجنبية في البوابة الشرقية والمناطق الحيوية الاقتصادية لنهب واستنزاف ثروات الشعب اليمني”
واشار إلى أن “هذا الانتشار يأتي في إطار خطة عدائية تتضمن إبقاء الجمهورية اليمنية في حالة اللا سلم واللا حرب واستمرار الحصار الخانق وبما يحقق نوايا قوى العدوان ويزيد من معاناة الشعب اليمني المعيشية”
وأضاف: “هذه الممارسات العدائية تتعارض مع إرادة شعبنا وهويته وخياراته الوطنية في الحرية والسيادة والوحدة والاستقلال والعزة ولا يمكن استمرارها وينبغي إزالتها سريعاً سلماً أو حرباً”.
ومرة أخرى، أكّد العاطفي على أن المعركة البحرية ستكون جزءاً رئيسياً من تصعيد ما بعد الهدنة، إذ أوضح أن “على الأعداء أن ينصاعوا طوعاً أو كرهاً لتولي اليمن مهمة حماية الممرات البحرية في جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب وبحر العرب وصولاً إلى البوابة الشرقية للمحيط الهندي وأرخبيل سقطرى” مشيراً إلى أن “التهديدات الغربية والصهيونية في مياه اليمن الإقليمية تعد تدخلاً عسكرياً سافراً” وأن “القوات المسلحة اليمنية ملتزمة بالعمل وفقاً للقوانين والمواثيق والعهود الدولية التي تكفل للجميع سيادة أوطانهم وكرامة شعوبهم، وتمنع الهيمنة والوصاية على الآخرين”.
إجمالاً، تبدو صنعاء حريصة على استغلال ما تبقى من وقت الهدوء النسبي في توضيح ملامح التصعيد القادم الذي أعدت العدة له، وبالرغم من عدم وجود آمال يمكن تعليقها على تعقل تحالف العدوان، أو حتى على إدراك رعاته الدوليين للخطر المحدق بمصالحهم، يظل هذا الأسلوب أحد الأساليب التي تمنح موقف صنعاء قوة وتجعله أكثر تأثيراً، لأنه يسد كلّ الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها العدوّ لمواصلة ألاعيبه، ويجعل من قرار التصعيد نقطة تحول لا مجال للعودة إلى ما قبلها لا فيما يتعلق بموازين المعركة، ولا حتى على طاولة التفاوض.
صحيفة المسيرة