من كتاب “ثورة 26 سبتمبر : قراءة في الهوامش” للدكتور عرفات عبد الخبير الرميمية:
لقد رأى البعض في ثورة 26 سبتمبر ظلاً اعوجاً لثورة 23 يوليو وتقليداً غير أصيل لها ونسخة مشوهة منها، والسبب في ذلك التقليد، أن العديد من الضباط الذين قاموا بالثورة كانوا قد تشربوا الثقافة العسكرية المصرية وعاشوا فترات المد الناصري في القاهرة، وقد كان ذلك سبباً للتقليد لكنه لم يكن سببا كافيا ” ولعل السبب وجود نموذج ثوري سبق ثورة سبتمبر في اليمن وحاولت الثورة اليمنية العمل على غراره فقد عرف ثوار سبتمبر ثورة مصر واحسنوا القياس عليها ولم يتكشف لهم الفارق بين المجتمعين من حيث اختلاف الخلفيات ومن حيث الواقع الاجتماعي ومن حيث الحجم العسكري ” (1).
من المنطقي والطبيعي أن يكون هناك تأثير من السابق على من يأتي بعده وتأثر من اللاحق بمن أتى قبله ، لكن من الغير الطبيعي أن يصل التأثير والتأثر إلى درجة التقليد الاعمى الغير محسوب النتائج. وهذا ما فعله ثوار 26 سبتمبر مع ثورة 23 يوليو، فقد ظهر بوضوحِ حجم تأثير ثورة 23 يوليو على الثورة اليمنية في اليوم الذي قامت فيه الثورة، وحين تم إعلان أهداف الثورة السته، فإن ” أهداف سبتمبر جاءت نقلاً أو ترتيباً جديداً لأهداف 23 يوليو، ففي ظروف الشمال كان هذا أبعد غايات الجموح والثورة ” (2).
وهذا الواقع من التقليد الغير مدروس أعترف به الرأس المدّبر للثورة والدينمو المحرك للثوار وواضع الخطة لها يوم 26سبتمبر ـ بحسب ما ذكر في كتاباته عنها ـ المناضل عبدالله جزيلان قائلاً : ”إن مبادئ ثورتنا هي نفسها المبادئ الست التي اعلنتها ثورة 23يوليو 1952م مع تعديل بسيط يناسب ظروف اليمن المحلية ” (3).
وهذا الواقع الذي اتضح للجميع فيما بعد ، حاول تنظيم الضباط الأحرار إنكاره والتنصل منه واعتباره تهمة وليس واقعاً بحكم التأثير والتأثر” واتهمت ثورتنا في اليمن بأنها مصدرة من مصر وأن أهدافها الستة هي أهداف الثورة المصرية ” (4).
ويحاول البعض أن ينسب الاهداف الستة لثورة سبتمبر إلى نفسه مدعياً أنه من صاغها ونادى بها، وهذا ما قال عبدالرحمن البيضاني، مدعياً أنه من أعّد مسبقاً اهداف الثورة ونشرها في مجلة ( روز اليوسف )، قائلاً أنه : ” عندما سمعت البلاغ المتعلق بأهداف الثورة ارتاح فؤادي لأنه تضمن جوهر العناصر الأساسية ومعظم الكلمات والعبارات التي كانت ضمن الاوراق التي قمت بإعدادها بحضور الثوار اليمنيين حين اجتمعنا في القاهرة وأخذها معه الزميل عبدالغني مطهر والتي سبق أن نشرتها بروز اليوسف بتاريخ 23ابريل 1962وكررت اذاعتها من صوت العرب عدة مرات كان اخرها قبيل قيام الثورة ببضع ساعات لا تزيد وكانت هي الاهداف التي قامت من أجلها الثورة ” (5).
وعند قراءتي لما كتبه عبدالغني مطهر في كتابه ( يوم ولد اليمن مجده ) لم يُشر من قريب أو من بعيد لما ذكره البيضاني عن حمله لأهداف الثورة الستة من البيضاني.
لقد كان الاختلاف حول أصالة أهداف الثورة وعددها ومن وضعها واقعاً معاشاً بين الثوار انفسهم ،ذلك الواقع ـ أو التهمة إن صح لنا استخدام هذه الكلمة ـ هي ما دفع بعضاً ممن أرّخ لثورة 26سبتمبرللقول : أن المصريين هم من صاغوا تلك الأهداف وأملوها للثوار عن طريق الهاتف.
يقول الدكتور محمد عبدالملك المتوكل عن أهداف الثورة الستة ” سمعت أنها أرسلت من مصر ولاحظ كلمة ـ إزالة ـ في الهدف الأول من أهداف الثورة، قال المصري الذي كان يمليها بلهجته: ـ إذابة ـ فتخيلها المتلقي ـ إزالة ـ وكتبوها هكذا ولا يوجد شيء أصلاً اسمه إزالة الفوارق بين الطبقات، ممكن تذيب لكن لا تستطيع أن تزيل الفوارق ، هناك متفوقون في جوانب معينة فهل تريد أن تجعلهم سواء مع غيرهم من الكسالى وغير المتوفين “(6).
لكن الدكتور عبدالعزيز المقالح ـ أحد المشاركين في إعلان بيانات الثورة واهدافها ـ يرى أن ذلك الكلام غير صحيح وأن الأهداف كانت ” معدة وجاهزة من قبل الثورة بشهرِ على الأقل.. فقد كنت أشاهد كتابة هذه الأهداف وشاهداً على إعلانها في الإذاعة وما تزال نسختها الاصلية محفوظة حتى الآن وهي بخط الاستاذ محمد عبدالله الفسيّل وهناك اهداف أخرى أتى بها الدكتور البيضاني وأعاد أذاعتها من الإذاعة وحاول أن يمررها ولكن الأهداف الأولى التي كُتبت بأيدِ يمنية هي التي سادت وهي التي ما تزال تعتلي صدارة بعض الصحف ” (7).
كلام المقالح عن الأهداف التي أتى بها البيضاني وحاول فرضها ـ بحكم منصبه الذي تم فرضه على الثوار من قِبل انور السادات ـ يؤكده العديد من الثوار وهناك من الضباط الاحرار من أكد على أن عبدالرحمن البيضاني قد تجاهل أهداف الثورة الست وأتي بأهدافِ أخرى من لدنه وقال بأنه من رسم أهداف الثورة وأرسلها من القاهرة ” ولم يقف عند حد لكنه تطاول إلى تجاهل أهداف الثورة الستة التي أعلنت صبيحة يوم الخميس وأتى بأهدافِ أخرى بلغت بنودها سته عشر بنداً وجعل يعممها على المدارس وغير المدارس وكم تبجّح بالقول بأنه هو الذي رسم أهداف الثورة وأرسلها من مصر وأنه هو الذي حدد ساعة الصفر ” (8).
وهناك من الثوار من يؤكد أن أهداف الثورة كانت يمنية خالصة كتبها الثوار بالتعاون مع بعض المثقفين في ” بيت المناضل عبدالسلام صبرة كتبت أهداف الثورة.. التقى بعض الضباط مع بعض المثقفين.. وفي مقدمتهم الصديق العزيز / محمد عبدالله الفسيل .. ولدي شبه تأكيد هنا أنه هو الذي صاغ أهداف الثورة طبعاً بالاتفاق مع الحاضرين ومنهم مجموعة من ضباط الثورة الاحرار ” (9).
وهناك من يؤكد أن اهداف الثورة الرئيسة هدفان ـ وليس ستة أهداف ـ أما البقية منها فهي مجرد مبادئ فقط ” وأكد لي من أثق به أن اهداف الثورة هدفان.. أما البقية فكانت مجرد مبادئ .. وكان يمكن لها أن تكون أربعة أو ستة أو أكثر أو أقل من ذلك. إذاّ فقد كان للثورة هدفان ليس غير وهما 1 : ـ إسقاط النظام الملكي . 2 ـ إقامة نظام جمهوري ” (10).
ولا يهم الشعب اليمني من أين جاءت اهداف ثورته، لكن ما يهمه: هل كانت تلك الاهداف معبرة عنه وعن معاناته ؟ وهل حققت تلك الاهداف ما كان يصبو اليه ؟ والأهم من ذلك: هل تحققت تلك الأهداف على أرض الواقع ؟
وبالنظر إلى تلك الأهداف ، نلاحظ أن ما جاء في المبدأ الأول منها قد تضّمن: القضاء على الملكية وأعوانها والتحرر من الاستعباد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات ” والملفت للنظر أن بيان الثورة صدر تحت تأثير الثورة المصرية واهدافها الوطنية الستة وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تأثر الخطاب السياسي السبتمبري بالخطاب السياسي العلماني للناصرية ” (11).
ويبدو التأثر واضحاً أيضا بأهداف ثورة 23 يوليو بشكلِ لافتِ من خلال الهدف السادس الذي نص على : (احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الايجابي وعدم الانحياز والعمل على اقرار السلام العالمي وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الامم ) فهذا النص ” لا يمكن فهمه هدفاً من اهداف الثورة يجب أن يظل اليمنيون يسعون لتحقيقه وإنما يندرج في اطار تأثير ثورة يوليو ونظام الرئيس عبدالناصر تحديداً “(12).
لكن هناك من يرى أن الهدف السادس بصيغته تلك ، كان قاسماً مشتركاً بين جميع ثورات العالم ، و لا ينطوي على ما ” ورائيات تاريخية لأنه اعتيادي كانت تعلنه كل ثورة من ثورات العالم ،لإثبات اعترافها بالقوانين الدولية ، ولتبين اتجاهها السياسي وعدم انتمائها إلى أحد المعسكرين ” (13).
ولقد كان تقليد الثوار لأهداف ثورة يوليو في صياغتهم لأهداف سبتمبر سبباً في تجاهلهم لضرورة تضمين تلك الاهداف المطالبة بإصدار الدستور الذي ينظم شكل الجمهورية المستقبلي ومضمونها ، فمن ” الملفت أن يخلو البيان الأول وكذا الاهداف الستة الشهيرة من الإشارة إلى ضرورة إصدار الدستور والقوانين اللازمة لتنظيم حياة الناس الجديدة ” (14).
وقد أستدعى ذلك التأثر بمبادئ ثورة يوليو دخولاً مباشرا للجيش المصري ساحة الصراع في اليمن وتدّخلاً مباشراً في املاء القرارات التي جعلت من ثوارَ سبتمبر أتباعاً لثورة يوليو لا قادة لثورة سبتمبر كما يؤكد العديد من الثوار من المعارضين للدور المصري في اليمن بعد الثورة.
ولا يُهمنا هنا عدد أهداف الثورة ولا من صاغها بقدر ما اهتمامنا بالسؤال عن تطبيقها وظهورها في أرض الواقع لأنها المحك الحقيقي على صدق ثورية أي ثورة ، فالثورة كانت سبباً ومقدمة لتحقيق أهدافها وعندما لا تؤدي المقدمات إلى النتائج فهذا يعني وجود خطب ما أدى إلى ذلك أو أن المقدمات لم تكن صحيحة لأنها لم تصل إلى النتائج المتوخاة منها.
ومن الامور الهامة التي أهملها الكثير من الثوار عند كتابتهم لتاريخ الثورة وظلت هامشاً لا يكاد يُرى ـ مع أن نتائجه كانت وخيمة ـ هو إهمال ما تضمّنه البيان الأول للثورة الذي أعلن صباح يوم السادس والعشرين من سبتمبر عن أهداف الثورة وقد جاء في المبدأ الأول ” القضاء على الملكية وأعوانها ” لقد شكّل ذلك المبدأ بصيغته تلك مبرراً للقتل والانتقام غير المبرر.
لكن قيادة الثورة حاولت تدارك الموقف في اليوم الثاني للثورة مباشرة وغيروا صيغة المبدأ الأول بعبارة (إنهاء الحكم الملكي ) بدلاً عن ( القضاء على الملكية وأعوانها ) وذلك لما في العبارة الأولى من اطلاقية وتوسع تجعل من كل متعاونِ ومتعاطف مع الملكية حتى بالقول تحت طائلة الاعدام والاستيلاء على ممتلكاته ” وأهمية تبدّل هذه الصيغ في العبارات يحمل في طياته معاني سياسية نبيلة تنبئ عن مبادئ الرحمة التي ستتعامل بها الثورة مع بقايا الملكيين في الجمهورية العربية اليمينة ” (15).
لقد كان ذلك المبدأ ـ بصيغته الاولى كارثياً ـ لأنه اسُتغل استغلالاً كارثياً من خلال تنفيذ جملة الإعدامات التي طالت أعوان الملكية من دون محاكمات وهو المبدأ الوحيد من مبادئ الثورة الذي تم تطبيقه وتنفيذه بحذافيره وبنية صادقة لكنها كانت غير وطنية وغير اخلاقية ايضاً وهذا ما سنعرفه في الصفحات التالية.
إقرا أيضا :
مما خفي عنا عن ثورة 26 سبتمبر.. استقراء البردوني لأهداف 26 سبتمبر تحت أضواء ثورة 21 سبتمبر