نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة على صفيح ساخن في هذه الأيام، حيث شهدت المدينة الفلسطينية حالة عارمة من الغضب الشديد على جريمة اعتقال أجهزة الأمن الفلسطينية مطاردين اثنين من قبل قوات الاحتلال فيها، وما زال التوتر والغضب يسود نابلس التي خيم عليها الإضراب التجاري الشامل ردا على الأحداث التي شهدتها مؤخراً.
حيث إن التعاون الأمنيّ بين أجهزة السلطة الفلسطينيّة والاحتلال رفع من حالة الثورة في الضفة وخاصة في ظل الاعتداءات الإسرائيليّة الممنهجة بحق الأهالي منذ عام 1967، وتعيش المنطقة أوضاعاً متوترة للغاية في ظل مواصلة سياسة الاستيطان والقتل المروعين التي تنتهجهما الحكومة الإسرائيليّة بما يخالف القوانين الدوليّة والإنسانيّة، ما يشي باحتماليّة كبيرة لأن تفتح أبواب جهنم على السلطة الفلسطينية وتل أبيب التي اختارت تسخين الأحداث ورفع مستوى الإجرام.
شعلة ثورة ثالثة
“شعلة ثورة ثالثة” هكذا يمكن وصف ما يحدث في مدن الضفة الغربية التي انقلبت على السلطة الفلسطينيّة المتعاونة مع الاحتلال، بعد يوم من اعتقال أجهزة الأمن الفلسطينية للمطارد مصعب اشتيه، فيما تسود المدينة أوقات عصيبة ومواجهات عنيفة بين شبان ثائرين غاضبين وقوات من الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة رام الله على أكثر من محور ردا على التعاون مع الصهاينة، حيث يتوقع أغلب المحللين أن تنفجر الأوضاع في أي لحظة بسبب التمادي الإسرائيليّ في التصعيد الذي بات ملموساً على كل المستويات الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة.
ومع تأكيد السلطة الفلسطينية على استمرار التنسيق الأمنيّ مع العدو وملاحقة المقاومين في الضفة، وإعلانها المستمر استخدام منهج الخنوع الذي لم يجلب لها سوى الخيبة والهزيمة والاستحقار أمام الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، اعتبر ناشطون قيام جهاز الأمن الوقائي في المدينة باعتقال المطارد رقم واحد المحسوب على “كتائب عز الدين القسام” الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” بمثابة قنبلة انفجرت في المدينة وقادت إلى أحداث شغب وإطلاق نار ومهاجمة مقرات الأجهزة الأمنية وإغلاق الشوارع الرئيسية.
وبما أن قوات السلطة اعترضت وحاصرت سيارة كان يستقلها الشاب اشتيه وقامت باعتقاله ونقله إلى سجن الجنيد غرب مدينة نابلس، فهم الفلسطينيون كما الجميع أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يساهم بتطبيق مشاريع الكيان الغاصب التي تهدف إلى تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة من خلال التعاون اللامحدود مع الإسرائيليين.
حيث يعلم الجميع أنّ السلطة الفلسطينيّة سقطت سقوطاً مدويّاً من قلوب الفلسطينيين وباتت أداة رخيصة تستعمل ضد إرادة الشعب وتطلعاته، والدليل هو الاشتباكات المسلحة التي اندلعت في نابلس بين نشطاء وعناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وراح ضحية التعاون مع العدو فلسطيني يبلغ 53 عاماً توفى متأثرا بإصابته، في برهان جديد على أنّ السلطة الفلسطينيّة لن تكون في يوم من الأيام ممثلاً شرعيّاً لمطالب الفلسطينيين الذين يعيشون الويلات بسببها على أراضيهم المسلوبة.
وعقب تلك الأنباء، خرجت مجموعات من المتظاهرين إلى الشوارع واشتبكوا بالحجارة مع قوى الأمن ودارت اشتباكات مع قوات في أجهزة الأمن حضرت للمكان وتحديدا في منطقة دوار المنارة وسط مدينة نابلس، على الرغم من أنّ حكومة رام الله لم تحصّل على أيّ فائدة من العلاقات مع العدو واستمرارها بالتنسيق الأمنيّ معه، مقابل وقوفها في وجه توحيد الصف الفلسطينيّ لمنع تحدي الاحتلال الغاصب وعرقلة مقاومة التطبيع والتهويد والضم والاستيطان المتصاعد.
وقد أشارت المصادر الفلسطينية إلى أن أربعة أشخاص آخرين، على الأقل، أصيبوا بجروح ووصفت حالة أحدهم بالخطيرة خلال الاشتباكات التي اندلعت في عدة مناطق في نابلس، حيث إن انخراط السلطة في المعركة ضد الفلسطينيين، هو ما شجع جنود الاحتلال والمستوطنين على العربدة والتغول في أراضي الفلسطينيين من خلال القتل الميداني ومخطّطات العدو الاستيطانيّة الرامية لإنهاء الوجود الفلسطينيّ السياسيّ والسكانيّ في الضفة الغربيّة ومدينة القدس.
“عرين الأسود”، مجموعة فرضت التطورات الجديدة في الضفة الغربية تشكيلها، وهي مجموعات تضم المقاومين في البلدة القديمة في نابلس ولا تنتمي لأي فصيل محدد، ومجموعات مسلحة في مخيم بلاطة ومخيم جنين وطالبت بإطلاق سراح اشتية، الذي اعتقتل في نفس التوقيت مع عميد طبيلة وكلاهما مطلوبين لأجهزة الأمن الفلسطينية حسب مصادر محلية، وإنّ المتحكم الوحيد بهذا الأمر –كما يقول الشعب الفلسطيني- هو العدو القاتل والسلطة الفلسطينيّة ليس أكثر من “حجر شطرنج” على طاولة السياسية الإسرائيليّة الخبيثة.
فالضفة الغربيّة لو لم تكن مرهونة بقرارات السلطة المتعاونة مع العدو العنصريّ، لما وصل الإجرام والاستخفاف الصهيونيّ بأرواح الفلسطينيين لهذا الحد، وإنّ حركة “فتح” ترتكب وفقاً لغالبية الفلسطينيين “خطيئة تاريخيّة” لا تغتفر من خلال اعتقادها بأنّ وجود علاقة مع الكيان الإرهابيّ ربما تصب في مصلحتهم، في الوقت الذي يثبت فيه التاريخ والواقع أنّ الصهاينة يتمادون أكثر فأكثر في عدوانهم الذي لا يمكن أن يوقفه إلا القوة والوحدة والمقاومة.
كذلك، عقد مسلحون مؤتمرا صحافيا في ساعة متأخرة من الليل طالبوا خلاله بإطلاق سراح اشتيته والكف عن مطاردة المقاومين في جنين ونابلس، مؤكّدين أنّ “الخطف مقابل الخطف”، أي أنّه في حال استمرت الأجهزة الأمنية بسياسة خطف المقاومين فإنه سيقابلها سياسة خطف عناصر وقادة الأجهزة الأمنية.
فيما أوضحت مجموعة “عرين الأسود” في نابلس أنّ الأجهزة الأمنية هي من قامت بقتل فراس يعيش، ودعت جماهير المدينة لإعلان الحداد والالتزام بعدم فتح محلاتهم التجارية حدادا على روح الشهيد وتلبية لمطلب المقاومين وتعبيرا عن الغضب للحال الذي وصلت إليه الحالة الفلسطينية، مشدّدين على أنّ الفلسطيني بات يقتل على يد أجهزته الأمنيّ’ التي يفترض أن تكون الدرع الحامي له وفيما يعتقل المطاردون الذي عجز الاحتلال الإسرائيلي عن اعتقالهم على أيدي الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة.
موقف هزيل من “فتح”
يجمع الفلسطينيون تقريباً على مواقع التواصل الاجتماعي أنّ موقف حركة فتح كان هزيلاً للغاية، حيث قال القيادي في حركة فتح عباس زكي إن الحركة تتابع بقلق ما يجري في نابلس، متناسياً أنّه كان من الأجدر بحركة فتح أن تردع الكيان وتوقفه عند حده بسبب عدوانه الإجراميّ المتزايد بحق الأبرياء، وقضمه الجنونيّ لأراضي الفلسطينيين وتهجيرهم.
حيث إنّ أكبر دليل على “الغباء السياسيّ” للسطلة العميلة هو نص إعلان الدولة الإسرائيليّة المزعومة، والذي يدعي أنّ أرض فلسطين هي مهد الشعب اليهوديّ، وفيها تكونت شخصيته الروحيّة والدينيّة والسياسيّة، وهناك أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضاريّة ذات مغزى قوميّ وإنسانيّ جامع، وأعطى للعالم كتاب الكتب الخالد، ويزعم الإعلان أنّ اليهود نُفيوا عنوة من بلادهم، ويعتبرون أنّ الفلسطينيين هم ضيوف في “إسرائيل” وأنّ الجرائم التي يرتكبونها بحقهم بمثابة استعادة لحرياتهم السياسيّة في فلسطين، فَعن أيّ استقرار يتحدث داعمو الاحتلال.
“في كل مرة تطرح فيه القضية الفلسطينية على الصعيد العربيّ أو يترب الفلسطينيون من تحقيق المصالحة أو تبحث فيه القضية الفلسطينية في أروقة الأمم المتحدة يظهر لنا حدث خلق فتنة داخلية وهو أمر مرتبط بتحقيق حلم إسرائيل بأن تبقى القضية في مكانها تأكلها الخلافات الداخلية التي لا مبرر لها”.
كلامٌ منطقي للغاية لو لم تكن السلطة الفلسطينيّة قد خذلت الشعب الفلسطينيّ بشكل كامل وأعادت غرز خنجر الحقد الصهيونيّ والخيانة العربيّة في ظهر قضيّتهم من خلال تنسيقها الكبير مع الأجهزة الأمنيّة التابعة للعدو لمنع إطلاق يد المقاومة وعرقلتها في لجم العدوان الصهيونيّ على الشعب الفلسطينيّ، ومنع توجيه البنادق باتجاه العصابات الصهيونيّة المعتدية، ثأراً لدماء شهداء فلسطين وحماية لأبناء الضفة الغربيّة المحتلة والمستهدفة، بيد أن جنود الاحتلال المجرم لا يتوقفون عن استهداف وقتل وتهجير الفلسطينيين ونهب أراضيهم، وماتزال السلطة الخانعة تحدثنا عن “سلام الجبناء” الذي لم ولن يجلب سوى العار والموت على طريقة العدو.
اقتتال فلسطينيّ داخليّ
بات واضحاً للقاصي والداني، أن ما جرى ويجري في نابلس ومدن الضفة الغربية يعكس حديث قادة الاحتلال المتكرر حول ضعف السلطة والتلويح باجتياح المدن وهو أمر كان هدفه الوصول إلى هذه النتيجة التي عاشتها المدينة مؤخراً، حيث تحولت العلاقات بين السلطة الفلسطينيّة والعدو الصهيونيّ المُستبد، إلى معضلة في في وجه حالة الإجماع الوطنيّ الرافضة للتسوية والمفاوضات مع عصابات الاحتلال.
خاصة أن تل أبيب بكل ما أوتيت من قوّة خلق أمر واقع على الأرض لإقامة الدولة العنصريّة المزعومة على أراضي الفلسطينيين، مع تمسك شديد من قبل الفصائل الفلسطينية باستمرار وضوح منهجهم، ويرتكزون في ذلك بالفعل على مصلحةَ الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة، لإنهاء الانقسام والاتفاق على استراتيجية وطنية ناظمة للعلاقات الفلسطينية – الفلسطينية، ولطبيعة المواجهة مع سالبي الأرض وسارقي التاريخ وقاتلي الأبرياء.
“دخول السلطة الفلسطينية في مواجهة مع الشعب هذا ما يطلبه الإسرائيليّ، وهو أمر يجعل من الفجوة تتسع والتناقض الداخلي يحتدم”، هذا ما يشير إليه محللون ألقوا باللوم على السلطة الفلسطينية التي تعترف بالعدو الصهيونيّ القاتل، وتنسيق أمنيّاً معه، بما يشكل ضربة لأيّ شراكة عمل وطنيّ في عمقه ويناقض التفاهمات الداخليّة، انطلاقاً من أنّ الأمة تُسلب إرادتها وتنهب ثرواتها ليصبح الكيان الصهيونيّ سيداً في المنطقة، والدليل أنّ تل أبيب مستمرة في غيها وتغول كيانها من خلال منهجها العدوانيّ في أكثر من ملف.
ووفقاً لمصادر إسرائيلية، فإنّ الاجتماع الثامن من الشهر الجاري بين قادة أمن الاحتلال مع حسين الشيخ، وهو مسؤول التنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي، وماجد فرج رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية فإن العدو الإسرائيلي طلب من القيادة الفلسطينية بضرورة العمل من أجل السيطرة على الأرض، وتحديدا مدينة نابلس، وهذا تحديداً ما لطّخ أيدي القوات الأمنية بدماء الأبرياء واعتقال المقاومين.
فيما يعترف الإسرائيليون دائماً بعدم رغبتهم بالسلام أو حتى التفاوض مع السلطة، كما يفرض العدو واقعه الاحتلاليّ في مناطق الضفة والعاصمة الفلسطينيّة المحتلة القدس ويحاصر قطاع غزة ويزيد من جرائمه الشنيعة وخطواته التصعيديّة الكثيرة بدءاً من جنايات القتل والإعدام الميدانيّ ومروراً بطرد الأهالي من ديارهم وحرمانهم من لقمة عيشهم وليس انتهاءاً عند الاعتداء على المقدسات والنشاطات الاستيطانيّة المخالف للشرعيّة الدوليّة.
وفي الوقت الذي تحارب فيه السلطة التي يرأسها محمود عباس فصائل المقاومة والناشطين لمنعهم من القيام بدورهم في لجم العدوان الصهيونيّ على الشعب الفلسطينيّ، وصفت الصحافة التابعة للعدو ما جرى في نابلس بـ”حرب أهلية”، حيث إطلاق نار كثيف على مباني حكومية في جنين وإضراب، كان رد فعل حاد وغير معتاد على اعتقال الناشط الفلسطينيّ.
وعلى الرغم من أنه من حماس إلا أن أعضاء فتح هم الذين يقودون الاحتجاج، حيث إنّ الجرائم التي يرتكبها العدو والسلطة في الضفة المحتلة ستكون دائماً وقوداً لثورة الشعب الفلسطينيّ التي لن تتوقف إلا برحيل المحتل عن كامل الأراضي الفلسطينيّة، كما أنّ رد الشعب الفلسطينيّ على هذه الجرائم سيكون بالفعل مقاومة جديدة وانتفاضة متواصلة، وفقاً لوجهة نظر المقاومين.
اتفاق على إنهاء التصعيد في نابلس
بالتزامن مع مطالبات “إسرائيل” السلطة الفلسطينية بالتحرك ضد النشطاء المسلحين في كل من نابلس وجنين لضبط الأوضاع الميدانية، أعلنت لجنة “التنسيق الفصائلي” في مدينة نابلس، الأربعاء الفائت، عن التوصل لاتفاق يُنهي حالة التوتر والتصعيد، وذكر نصر أبو جيش منسق لجنة التنسيق الفصائلي في نابلس والتي تضم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، أن حالة التوتر في المدينة قد انتهت، باتفاق وتوافق مع جميع الأطراف، أي بين ممثلين عن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وقادة الأجهزة الأمنية، ومحافظ نابلس إبراهيم رمضان، ووجهاء من المدينة.
“العمل على إنهاء ملف المعتقل مصعب اشتية بصورة مُرضِية، وتشكيل لجنة من المؤسسات والفعاليات وشخصيات مدينة نابلس للعمل على زيارته، ومتابعة ظروف احتجازه، والعمل على وضع سقف زمني للإفراج عنه”، هذا ما نص عليه الاتفاق الفلسطينيّ، حيث إن المسؤولية الوطنية تستوجب حماية الشعب ومقاوميه في الضفة الغربية، والحفاظ على مسار المواجهة ضد الاحتلال.
وتشهد الضفة الغربية التي احتلتها “إسرائيل” عام 1967، مواجهات بين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية بشكل منتظم، وتنفذ قوات العدو بين الحين والآخر اقتحامات تحت مبرر “اعتقال مطلوبين”، ويعيش في الضفة المحتلة حوالى 3 ملايين فلسطينيّ، بالإضافة إلى نحو مليون محتل إسرائيليّ في مستوطنات يُقر المجتمع الدوليّ بأنّها “غير قانونية”.
نتيجة لكل ذلك، إنّ نقطة الاتفاق الأهم، كانت اعتبار حالة المطلوبين للاحتلال الإسرائيلي بمثابة (حالة وطنية) دون العمل على ملاحقتها بدواعٍ أمنية (من قِبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية)، الشيء الذي يقطع على الاحتلال طريق شق الصفوف وزرع الفتنة والاقتتال بين الفلسطينيين الذين يعانون من انقسام سياسي وجغرافي.
حيث تسيطر “حماس” على قطاع غزة، في حين تُدار الضفة الغربية من طرف الحكومة الفلسطينية التي شكلتها حركة “فتح” بزعامة الرئيس عباس، والتي باتت بما لا يترك مجالاً للشك شريكة بشكل كبير في الجرائم التي ترتكبها القوات الإسرائيلية، وقد لبّت دعوات تل أبيب في تدخل أجهزة الأمن الفلسطينيّة وارتكبت ما ارتكبه الاحتلال تماماً، فيما تمنع إطلاق يد المقاومة لتقوم بدورها في لجم العدوان الصهيونيّ على الشعب الفلسطينيّ، وتستمر بهراء الاستسلام والخضوع للعدو الغاصب، لتبقى الضفة الغربية عنوان المرحلة القادمة التي ستغير كل المعادلات على الساحة الفلسطينيّة المستعمرة من العصابات الصهيونيّة وبعض المتخاذلين.