اتفق العديد من الصحفيين على أن التقرير المتعلق بارتفاع أسعار الوقود الذي نشر في صحيفة الرؤية جيد ولم يتعدّ قوانين الصحافة الصارمة في الإمارات العربية المتحدة. لكن عاصفة ثارت في صحيفة الرؤية في دبي، فبعدها بأيام استجوب عدة محررين ورئيس التحرير، ثم بعد أسابيع فصل العشرات من الموظفين وأعلن عن حلّ الصحيفة.
وفقاً لشركة إنترناشونال ميديا إنفستمنتس ( آي إم آي) التي تتولى نشر الصحيفة، ومقرها أبوظبي، فإن إغلاق “الرؤية” نابع فقط من تحولها إلى منفذ أعمال جديد باللغة العربية لقناة سي أن أن.
إلا أن 8 اشخاص مطلعين مباشرة على حوادث الفصل الجماعي في الصحيفة قالوا، لوكالة أسوشييتد برس، إن عمليات التسريح جاءت عقب نشر المقال الخاص بأسعار الوقود في الإمارات العربية المتحدة. وأضافوا، شرط عدم كشف هوياتهم خشية الانتقام، أن حرية التعبير في الإمارات تخضع لرقابة وسيطرة قوية على وسائل الإعلام المحلية.
تنتشر الرقابة الذاتية بين الصحفيين المحليين حيث يتوقع تقديم أخبار سارة فقط عن الإمارات التي تفضل رسم صورة لنفسها كوجهة عالمية جذابة للسياح والمستثمرين وشركات الإعلام الغربية.
وقالت محللة أبحاث الشرق الأوسط في مجموعة فريدوم هاوس التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، كاثرين روث: “ترسم الإمارات صورة لنفسها باعتبارها بيئة أعمال ليبرالية منفتحة، بينما هي في الواقع تواصل القمع، فهناك رقابة واسعة النطاق على الإنترنت وغيره، ما يحد من قدرة الصحفيين على العمل”.
رفضت شركة آي إم آي التعليق على التقرير الذي نشر قبل أسابيع من إعلان إغلاق صحيفة الرؤية. وأكدت على خططها لإطلاق “سي أن أن العربية للأعمال”، في تتويج لمفاوضات مستمرة منذ شهور.
تأسست صحيفة الرؤية باللغة العربية عام 2012، وعدلت “آي إم آي” نشاطها قبل 3 سنوات، لتقديم الأخبار المحلية والعالمية للشباب العربي.
يشار إلى أن “آي إم آي” مملوكة للشيخ منصور بن زايد آل نهيان، الملياردير شقيق رئيس الإمارات الذي يمتلك أيضاً نادي مانشستر سيتي البريطاني لكرة القدم. وتشمل منافذ “آي إم آي” الإعلامية صحيفة ذا ناشونال الصادرة باللغة الإنكليزية، وقناة سكاي نيوز العربية.
وبينما التزمت صحيفة الرؤية بالخط الرسمي للحكومة، قدمت صفحاتها أخباراً وتحليلات اقتصادية عميقة. التقرير، الذي يقول العاملون إنه السبب وراء أزمة الصحيفة، نشر عندما كان ارتفاع الأسعار حديث المدينة، بعدما رفعت الإمارات دعم الوقود تدريجياً. وشعر المواطنون بضغوط معيشية، بعدما أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع أسعار النفط.
أجرت الصحيفة مقابلات مع مواطنين إماراتيين، وقال عدد قليل منهم من المقيمين قرب الحدود مع عمان، حيث أسعار الوقود نصف أسعاره في الإمارات بسبب الإعانات الحكومية، إنهم عبروا إلى عمان لملء سياراتهم. وقال بعضهم إنهم ركبوا خزانات وقود إضافية في سياراتهم.
انتشر التقرير كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي في 2 يونيو/حزيران، وخاصة الجزء الخاص بعمليات ملء الوقود عبر الحدود. وبعد ساعات، حذف التقرير من الموقع الإلكتروني، ولم يظهر في النسخة المطبوعة على الإطلاق.
استُدعي صحفيون على صلة بالمقال، وأوقفوا عن العمل، واستجوبوا من جانب ممثلي الإدارة ومن محام بشأن التقرير والصحفيين المشاركين في تحريره ونشره، وفق المطلعين على الحدث.
بعد أسبوع، مُنح الصحفيون خياراً: إما الاستقالة مع منحهم مزايا، أو إنهاء الخدمة ومواجهة أي تبعات محتملة. وتم التعهد لمن وقعوا على استقالة بعدم الكشف عن أي سبب لفصلهم، وفق ما ورد في نسخة إحدى الرسائل التي اطلعت عليها “أسوشييتد برس”. وكان من بين الثمانية الذين أجبروا على الاستقالة محررون بارزون، وتراجعت المعنويات في المكان.
بعد أسبوع أو أكثر زار الرئيس التنفيذي لشركة آي ام آي، نارت بوران، غرفة التحرير لعقد اجتماع. لدى توجههم إلى الاجتماع، لم يكن لدى باقي الموظفين أي سبب يدعوهم للخوف على وظائفهم، وفق المطلعين على المناقشات الداخلية في الصحيفة الذين قالوا إن كبار مديري “آي إم آي” أكدوا للموظفين العام الماضي أن وظائفهم آمنة، بعدما تحول تركيز هيئة التحرير إلى تغطية الأعمال.
الا أن بوران أعلن حل صحيفة الرؤية، والانطلاق الوشيك لمنفذ ناطق بالعربية مع شبكة سي أن أن، خاص بالأعمال. وقال المطلعون على الاجتماع إن ما لا يقل عن 35 موظفاً فقدوا وظائفهم في يوم واحد، بينما قال آخرون إن عشرات غيرهم سُرحوا ومُنحوا مكافأة نهاية خدمة.
لم ترد “آي إم آي” على أسئلتنا المتكررة حول عدد الأشخاص الذين أقيلوا، إلا أن الملفات الشخصية على موقع لينكد إن للتوظيف تشير إلى أن نحو 90 شخصاً كانوا يعملون في “الرؤية” باتوا عاطلين عن العمل.
وقالت مصادر مطلعة إن الصحيفة احتفظت بعدد من الموظفين، لتحديث موقعها على الإنترنت حتى إطلاق موقع سي أن أن أعمال باللغة العربية. ورأت غروث من “فريدوم هاوس” أن “هذه القضية تبدو جزءاً لا يتجزأ من بيئة القمع العامة، ولها تأثير تقشعر له الأبدان”.
نشرت صحيفة الرؤية عددها الأخير في 21 يونيو/حزيران، تحت عنوان “وعد جديد، حقبة متجددة.. من المقرر إطلاق “سي أن أن” أعمال بالعربية بحلول نهاية العام”.
وصفت “آي إم آي” تحول موقع الرؤية إلى سي أن أن للأعمال بالعربية بأنه مخطط منذ فترة طويلة، وقالت إن هذا التحول “استلزم للأسف إجراء بعض التسريحات”. ونفت أن يكون إغلاق الصحيفة ”مرتبط بأي شكل من الأشكال بمخرجات التحرير في صحيفة الرؤية”.
ولدى سؤال المتحدث باسم “سي أن أن”، دان فولكس، عن الإقالات، أحال “أسوشييتد برس” إلى بيان “آي إم آي”، رافضاً الخوض في تفاصيل.
وقال رئيس مجلس إدارة جمعية الصحفيين الإماراتية المدعومة من الدولة، محمد الحمادي، إن المجموعة “قدمت الدعم المطلوب” للصحافيين المفصولين.
دبي صورة مختلفة عن الواقع
نشرت منظمة “مراسلون بلا حدود” تقريرها السنوي حول حرية الصحافة حول العالم لعام 2022، والذي أظهر تراجع الإمارات إلى المركز 138 من بين (180 دولة)، مقارنة بالمركز 131 في عام 2021.
ونشرت المنظمة التي تتخذ من باريس مقراً لها، تقريرها تحت عنوان “عصر الاستقطاب الجديد”، في اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يوافق الثالث من مايو.
ويشير تراجع الإمارات سبعة مراكز للوراء إلى زيادة الانتهاكات ضد الصحافة في البلاد، وقمع حرية الإعلام. وخلال السنوات الماضية اتخذت السلطات إجراءات وقوانين تهدف إلى فرض حصار على حرية الصحافة.
وقد استندت المنظّمة في تصنيفها إلى خمسة عوامل أساسية، هي (السياق السياسي لكل دولة، والإطار القانوني لعمل الصحافيين، والسياق الاقتصادي، والسياق الاجتماعي والثقافي، والأمان المتاح للصحافيين في عملهم).
وعن سبب تراجع تصنيف الإمارات، أكدت المنظمة أن الحكومة في البلاد تعمل على تكميم الأصوات المعارضة، وتكبح جماح الصحافة المستقلة، محلية كانت أم أجنبية.
ونوهت المنظمة بأن الصحفيين الإماراتيين خارج البلاد قد يتعرضون للمضايقات أو الاعتقالات، بل ويتم تسليمهم لسلطات بلدهم في بعض الأحيان.
وأشار تقرير المنظمة إلى أن معظم وسائل الإعلام الإماراتية في ملكية مؤسسات مقربة من الحكومة وتتبنى توجهاتها، كما أن الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية، لها تأثير كبير في أوساط القراء كذلك.
وأكدت أن المجلس الوطني للإعلام تنظيم الذي يتولى عمل المؤسسات الإعلامية، لا يتوانى عن فرض الرقابة على المحتويات التي تنتقد قرارات الحكومة.
رقابة صارمة
إذ إن وسائل الإعلام الإماراتية تخضع لإدارة ورقابة صارمة من جهاز أمن الدولة “حارس البوابة” الذي يناضل لتبقى كلمته هي السائدة والوحيدة في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
وبما أن وسائل الإعلام الرسمية تخضع لرقابة جهاز أمن الدولة يلجأ المواطنون للتعبير عن آرائهم على شبكات التواصل الاجتماعي.
لكن الإمارات تشارك بشكل منتظم في المراقبة على الإنترنت للصحافيين والناشطين الذين غالباً ما يقعون ضحية لقانون الجرائم الإلكترونية لعام 2012 وهو ما جعلهم عرضة للخطر.
وينص القانون في الإمارات على عقوبات بالسجن وغرامات مالية كبيرة بحق كل من ينتقد سياسة الدولة أو يطالب بإصلاحات عبر الإنترنت، وهو الانتقاد الذي يطلقه ناشطون حقوقيون، أشاروا إلى أن الرقابة المفروضة من قبل السلطات الإماراتية على شبكة الإنترنت والصحافة تضاعفت. كما أنها كثفت جهودها لإسكات المعارضين، والحد من حقهم في حرية التعبير.
وحسب هذه القوانين فعلى المؤسسات الإعلامية أن تلتزم بالأنظمة والضوابط التي تصدر عن المجلس كما تلتزم بتقديم المعلومات والبيانات التي يطلبها المجلس لتحقيق أغراضه في انتهاك للحق في المحافظة على سرية المصادر الصحفية والإعلامية التي كفلتها المعايير الدولية ذات الصلة.
ورسم مجلس وزراء دولة الإمارات قرار رقم 23 لسنة 2017 في شأن المحتوى الإعلامي لتبسط بذلك سلطات دولة الإمارات سيطرتها ورقابتها المطلقة على طباعة أو تداول أي محتوى إعلامي.
وفرضت على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وأي شخص يقوم بطباعة أي مطبوع داخل الدولة على الحصول على إذن وترخيص مسبق طبقا للمادة 6 من القرار. حتى تضمن بذلك رقابتها المسبّقة على كل محتوى إعلامي وعلى غيره من المطبوعات وللمجلس وقف أو حظر أي مطبوع غير حاصل على الإذن وتوقيع الجزاءات على المخالف.
ويشمل الترخيص والإذن المسبق معارض الكتب وعلى إدارة معارض الكتب تزويد المجلس بقائمة عناوين المطبوعات قبل عرضها كما يشمل الإذن كذلك الأفلام السينمائية قبل عرضها في دور السينما.
خطوط حمراء حكومية
كما وضعت سلطات الإمارات ضمن المادة 4 من خلال القرار المذكور خطوطا حمراء يحظر على كل مطبوع أو منشور أن يخرقها.
ومن الخطوط الحمراء وقائمة الممنوعات نجد احترام نظام الحكم في الدولة ورموزه ومؤسساته والمصالح العليا للدولة وللمجتمع وعدم نشر ما يسيء للوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي واحترام توجهات وسياسات الدولة وعدم الإساءة للنظام الاقتصادي والقضائي والأمني في الدولة وعدم نشر أو تداول ما من شأنه الإساءة للعملة الوطنية أو الوضع الاقتصادي في البلاد.
وتعمدّت سلطات الإمارات صياغة جملة الممنوعات والمحظورات بشكل فضفاض حتى يسهل لها السيطرة على المحتوى الإعلامي وتعقب المدونين والناشطين الحقوقيين والإعلاميين والصحفيين الأحرار.
تدعي الإمارات بأنها واحدة من آخر معاقل الاعتدال والاستقرار في المنطقة، لكن تحت قشرة ناطحات السحاب في دبي ذات الجدران المرصعة بالنجوم وفنادق الخمس نجوم، فإن هناك واحدة من الأنظمة المستبدة القليلة المتبقية في العالم التي لا تتسامح مع الصحافة.