تزايدُ حرارة العلاقة بين “الكيان الصهيوني” والسعودية يدلّ على إعداد الأرضية لحدث التتويج الكبير في مسيرة التدرج بالتطبيع، سيعلن عنها مع أبعاد اقتصادية وأمنية وسياسية واستراتيجية غير عادية في العلاقة.
فضيحة جديدة فجّرها صهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومستشاره في البيت الأبيض جاريد كوشنر عن قيام ولي عهد السعودية محمد بن سلمان بمنحه ملياري دولار من أموال صندوق الثروة السيادي السعودي لمصلحة شركاته الخاصة، والسماح له باستثمارها في الشركات الصهيونيه.
ما كشف عنه كوشنر يأتي بعد فضيحة لم يمضِ عليها الكثير من الوقت. السماح لشركات الطيران الصهيونيه بالتحليق في الأجواء السعودية بشكل فعلي، يعد إشارة فعلية إلى بدء التطبيع العلني مع “الكيان”، إذ ترسَّخ ذلك منذ زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة للمنطقة، والانطلاق بطائراته الخاصة من مطار بن غوريون الصهيوني إلى مطار جدة بشكل مباشر، وللمرة الأولى، في فعلةٍ لم يقدم عليها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في فترة ولايته.
الكشف عن التطبيع السعودي مع “الكيان الصهيوني” عبر بوابة الاستثمار يثير أسئلة مهمة عن دلالات الكشف والتوقيت ومدى رضا السعودية عما كشفه كوشنر، فهل ما كشف عنه يهدف إلى ابتزاز السعودية أو جاء بغفلةٍ منها لتحقيق مآرب أخرى؟ وبعد أن أصبحنا أمام كلّ هذه المتغيرات المتدرجة من قبل السعودية، ما الذي تبقّى لإعلان التطبيع السعودي الرسمي مع “الكيان الصهيوني”؟
التطبيع عبر الاستثمار بهذا الكم من المليارات السعودية فيه إطالة واضحة في عمر “الكيان”. وعندما تستخدم أموال السعودية لإنعاش اقتصاد “الكيان الصهيوني”، فهذا يعني أيضاً أن الأموال السعودية تستخدم في طاحونة الحرب الصهيونيه المتواصلة على الشعب الفلسطيني. وبناءً عليه، تسقط كل المواقف المعلنة التي تطلقها السعودية بين الحين والآخر بأنها لن تطبع مع “الكيان الصهيوني” حتى تعود الحقوق الفلسطينية للفلسطينيين.
من المعروف أنه لا توجد علاقات دبلوماسية رسمية بين “الكيان الصهيوني” والسعودية، لكن العلاقات السرية التي يبلغ عمرها سنوات تطورت في السنوات الأخيرة، وأصبحت علاقات علنية تمرّ بحال من الانتعاش غير المسبوق، في وقت أصبح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يرى، وبشكل متزايد، أن “الكيان الصهيوني” شريك استراتيجي في المنطقة.
ثمة احتمالان لا ثالث لهما لتفسير ما كشفه جاريد كوشنر عن منح السعودية شركاته الخاصة هذه المليارات والسماح باستثمارها مع “الكيان الصهيوني”، إذ إنَّ السياسة الأمريكية لإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تجاه السعودية كانت تتمثل بسياسة “البقرة الحلوب” في مقابل الوعود بحماية النظام السعودي في المنطقة:
الأول: أن يكون هذا الكشف في مثل هذا التوقيت سياسة ابتزاز للسعودية، سيكون لها ما بعدها على صعيد مصير الاستثمارات من جهة، والموقف من السعودية أمام دول المنطقة من جهة أخرى.
الثاني: أن يأتي هذا الكشف بغمز من السعودية، في إطار دفع سياسة التدرج التي تنتهجها إلى الأمام تجاه الاقتراب من “الكيان الصهيوني” أكثر، باعتبارها تعيش مرحلة التطبيع المتدرج، وصولاً وتتويجاً بالإعلان عن التطبيع مع “الكيان”، بما لا يحدث رد فعل كبيراً في المنطقة، وهذا ما يريده “الكيان الصهيوني” في تطبيع السعودية، وهو ينسجم تماماً مع ما كشف عنه نائب وزير خارجية الكيان الصهيوني في الآونة الأخيرة تجاه ملف التطبيع مع السعودية بشكل خاص.
إن تصريح كوشنر تجاه تمتين العلاقات العربية الصهيونيه، ومنها السعودية، أمر ليس جديداً أو مستغرباً. ثمة حقيقة لا جدال فيها في أن هناك تطبيعاً سعودياً قائماً منذ زمن، ولا تفسير للسلوك العملي للسعودية إلا بهذه النتيجة، وإلا كيف يمكن أن نفسر زيارة بنيامين نتنياهو ورئيس الموساد آنذاك يوسي كوهين أواخر عام 2020، إلى جانب مسؤولين الكيان الصهيوني آخرين ووزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو، إلى السعودية، ولقاءهم ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، وهي الزيارة الأولى لوفد رفيع المستوى بهذا المستوى!
لم تنتهِ المشاهد عند هذا الحد، فقد سمحت السعودية بزيارة حاخامات دينية يهودية، وزيارات أخرى لرجال أعمال الصهاينه لتطوير العلاقات الاقتصادية معها، وهذا ما كشفته تقارير صهيونيه عن تطبيع اقتصادي غير معلن بين الرياض و”تل أبيب”.
تمثل ذلك عبر زيارات وفود من رجال الأعمال الصهاينة ممن يحملون جنسية مزدوجة أميركية صهيونية، وذلك من بوابة جزيرتي تيران وصنافير، وصولاً إلى طائرة الكيان الصهيوني الأولى التي حلقت في الأجواء السعودية متجهةً إلى جنوب أفريقيا، وهو ما يجسد اختراقاً جديداً غير مسبوق في مسار التطبيع السعودي الصهيوني.
من حيث السياسة الفعليّة، السعودية في عهد محمد بن سلمان أقرب إلى “الكيان الصهيوني” منها إلى الفلسطينيين، وضخّ هذه الأموال يكشف أنَّ السعودية ليست معنية بفلسطين ولا بقضيتها ولا بشعبها، بل هي التي تعتقل كلّ من يدعم فلسطين وقضيتها، والسجون السعودية شاهدة على ذلك، ما يعري ويكشف زيف الموقف السعودي تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
تزايدُ حرارة العلاقة بين “الكيان الصهيوني” والسعودية على أكثر من مستوى يدلّ على إعداد الأرضية لحدث التتويج الكبير في مسيرة التدرج بالتطبيع، سيعلن عنها مع أبعاد اقتصادية وأمنية وسياسية واستراتيجية غير عادية في العلاقة.
مثل هذا الانزلاق السعودي في مستنقع التطبيع، وإن كان تدريجياً، وأصبح سلوكاً مكشوفاً، لا تبرير له بأي حال كان، لكنه يعد في الوقت ذاته انهياراً جديداً في الجدار العربي الَّذي يعيش مرحلة الهوان والتراجع والابتعاد عن قضية فلسطين، والاقتراب من “الكيان الصهيوني” أكثر، فيما تبقى القضية الفلسطينية بعد التخلي السعودي عنها الغائب الأكبر.