بذلت الولايات المتحدة وحلفاؤها، الذين أدركوا دور ومكانة المرجعية الشيعية العراقية في محاربة داعش، جهودًا مضاعفة في هذه السنوات لتقليص نفوذ المرجعية بين العراقيين، لكن مرور الوقت أظهر أن هذه الجهود لم تذهب إلى أي مكان، فالعلاقة بين الناس والدين ورجال الدين في العراق لا تنفصم.
رغم أن علماء الدين العراقيين دائما ما يبتعدون عن القضايا السياسية ولا يتدخلون في شؤونها، لكن عندما تتحول الخلافات السياسية إلى أزمة أمنية وتتعرض المصالح الوطنية للخطر، فإنهم يتخذون الإجراءات الحكيمة لحل المشكلة، وهذه المرة أيضا عندما حاول البعض جر العراق إلى حرب أهلية، تدخل هؤلاء العلماء وقاموا بمساعدة العراقيين لإخماد هذه الفتنة.
دخول المرجعية إلى قلب الأزمة
علق آية الله محمد تقي المدرسي، من مراجع العراق، اليوم الثلاثاء، على تصاعد الصراعات الدموية في بغداد، وحذر من انجرار العراق إلى هاوية الحرب الأهلية، وطالب كل أبناء الشعب العراقي بالتوجه إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته (ع) لانقاذ العراق من عواقب هذه الحرب.
وشدد على أنه “يتعين على جميع السلطات المسؤولة ممارسة أقصى درجات ضبط النفس والبحث بجدية عن حلول لتحييد النزاعات غير المرغوب فيها”. هذا العالم العراقي حذر من أن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو إجراء محادثات جادة مع إنكار الذات وتجنب بعض المصالح الضيقة الأفق.
وشدد آية الله المدرسي على أننا في نفس السفينة وإذا غرقت فلن ينجو أحد منا. كما دعا آية الله سيد حسين صدر، أحد علماء الدين البارزين في العراق، جميع الأطراف إلى إلقاء أسلحتهم والحوار وإطفاء شعلة الفتنة. وأشار آية الله الصدر إلى أن كل المتورطين الآن هم من نفس البلد والدين وأولاد نفس الوالدين وإخوة، والحرب بين الإخوة غير عقلانية ولا إنسانية ولا مكان لها في الدين، ودعاهم جميعًا للحوار والهدوء وإطفاء الفتنة وقال إن لم يكن هناك سبيل آخر فالسكوت أفضل والبقاء في البيت خير وأقرب إلى التقوى.
ورغم أن التطورات الأخيرة في العراق كانت بمثابة ضربة مريرة للمجموعات السياسية لعدم إطالة أمد الانسداد السياسي، إلا أن هذه الفوضى أظهرت مرة أخرى دور الدين ومكانة المرجعية الشيعية في حل الأزمات. مثلما أطاع العراقيون أثناء احتلال العراق من قبل إرهابيي داعش فتوى آية الله سيد علي السيستاني المرجع الأعلى لشيعة العراق، وذهبوا إلى ساحات القتال وأزالوا هذا التهديد.
وهذه المرة أيضاً كانت السياسة الحكيمة لعلماء الدين والكشف في الوقت المناسب عن المكائد وخدع الأعداء، وطلبوا من السياسيين أن يختاروا الطريق الصحيح في هذا البلد وعدم إعطاء ذريعة للعناصر المشاغبة وبعض الأطراف الخارجية الذين يتربصون لجعل العراق غير آمن، وعلى هذا النحو، وتحت راية علماء الدين، نشأت وحدة بين جميع الفئات الشعبية للتعامل مع الفوضى.
لم يكن للتطورات التي حدثت يوم الاثنين في بغداد وعدد من المدن العراقية أي شيء مشترك مع الاحتجاجات السلمية للتعبير عن المطالب السياسية التي نفذها أنصار مقتدى الصدر على الأقل في الأسابيع الأخيرة، وكانت موجهة منذ بدايتها في خلق الفوضى والفتنة. لم يكن احتلال المباني الحكومية وحمل السلاح من قبل المليشيات ومهاجمة مقرات الحشد الشعبي هو مما يمكن وصفه بالاحتجاج السلمي.
الفوضى التي أحدثتها المعارضة في بغداد كانت تهدف إلى جر العراق إلى حرب أهلية، وقد فهمت كل الجماعات والسلطات العراقية هذه القضية جيداً، ولهذا السبب لم تسمح لهذه الفتنة أن تستمر أكثر من ذلك.
كما قال الشيخ أكرم الكعبي، الأمين العام لحركة النجباء العراقية، إن الأعداء يعتزمون بدء حرب أهلية في العراق وأجهزة المخابرات العبرية والعربية والغربية والعناصر التابعة لها داخل العراق، بما في ذلك البعثيون ومقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية من أجل إحداث إرباك للأمن في العراق، وكان لديهم خطة للقضاء على هذا البلد ونظامه السياسي.
لكن هذه المؤامرة تم إخمادها في أقل من 24 ساعة بحكمة وحنكة المرجعية العراقية ويقظة مقتدى الصدر. لذلك، إذا لم تتحرك القوات الأمنية والقيادات العراقية في الوقت المناسب، وخاصة المرجعية، واتخذت موقفًا سلبيًا تجاه هذه التطورات، فسيتم تمهيد الطريق أمام المشاغبين وداعميهم الأجانب لتنفيذ سيناريوهاتهم الهدامة بسهولة.
على الرغم من أن الولايات المتحدة حاولت إظهار نفسها على أنها داعم للحكومة العراقية وضد عدم الاستقرار في هذا البلد، إلا أن الأمريكيين دائمًا ما يستغلون الفوضى وانعدام الأمن في هذا البلد، وهم من المؤسسين الرئيسيين لمثل هذه الأزمات. حاولت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة جعل البلاد غير آمنة من خلال إثارة الاحتجاجات في الشوارع وتحقيق خططهما الهادفة إلى ضرب قوى المقاومة وتقليص نفوذها في العراق، لكن هذه المخططات باءت بالفشل حتى الآن. وبسعة الحيلة التي أظهرها العراقيون ضد أعمال الشغب في بغداد، اصطدم سهمهم هذه المرة بالحجر.
يقظة الصدر وترحيب العراقيين
ورغم أن مقتدى الصدر حاول تحقيق مطالبه السياسية من خلال احتجاجات الشوارع في الأسابيع الأخيرة، إلا أن الاضطرابات التي اندلعت في بغداد وبعض المدن يوم الاثنين دفعته إلى اتخاذ موقف متشدد تجاه هذه التطورات. وأعرب الصدر عن براءته من الأشخاص الذين أرادوا الشغب وتبرأ من العناصر التي لم يكن لها غرض سوى إثارة الفتنة.
واعتذر مقتدى الصدر للشعب العراقي وأمر أنصاره بوقف أعمال الشغب. يقظة الصدر وتصريحاته النارية كانت كالماء على نار المشاغبين الذين دخلوا الميدان بحجة الدفاع عن الصدر لإدخال العراق في أزمة جديدة.
وقال الصدر بحزم ان من حمل السلاح واستمر في الاحتجاج في الشارع بعد ذلك ليس من التيار الصدري. كما أكد الصدر استقالته واعتزاله عن السياسة وخاطب أنصاره في المنطقة الخضراء ببغداد قائلاً: “عليكم الانسحاب ولا أريد حتى المظاهرات السلمية بعد الآن”. كانت كلماته بمثابة إنذار نهائي للمتظاهرين، وإذا استمر أي شخص في الاحتجاج بعد ذلك، فلن يكون لهم أي علاقة بحركة الصدر، وسيعتبرون مثيري شغب، ويمكن لقوات الأمن العراقية التعامل معهم بصرامة، وعاد السلام الى العراق.
ورحب سياسيون عراقيون حاولوا الحصول على رأي مقتدى الصدر في الأسابيع الماضية للانضمام إلى عملية المحادثات الوطنية لحل الأزمات السياسية بموقف الصدر. وشدد على ضرورة الانسحاب الفوري لجميع المسلحين من المنطقة الخضراء وشوارع العراق، وقال، الآن لا يوجد مبرر للحكومة للوقوف بلا رد فعل أمام المسلحين والمراقبة. وخاصة بعد خطاب مقتدى الصدر بهدف سحب من يزعمون تأييدهم لهذه الحركة، وهو ما تم اليوم بفضله.
وقال همام حمودي رئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي في بيان إن مقتدى الصدر اثبت انه من ابناء مدرسة عائلة الصدر. عائلة ضحت بحياتها من أجل الدين والوطن. كان موقفه موقفا شجاعا ومسؤولا من أجل عراق يتمتع بالكرامة والإصلاحات والازدهار. كما قال هادي العامري رئيس ائتلاف “الفتح” في بيان ان مبادرة الصدر لانهاء العنف المسلح كانت مبادرة شجاعة تستحق التقدير والثناء وهذه المبادرة جاءت في لحظة حرجة كان الأعداء فيها يراهنون على محاولة توسيع حالة الحرب وقتل الأشقاء.
كما أكد نيجيرفان بارزاني رئيس إقليم كوردستان العراق أننا نرحب بموقف مقتدى الصدر ومطالبته بإنهاء التوتر وسحب أنصاره من المنطقة الخضراء في بغداد. إننا نؤيد هذا العمل الوطني المسؤول ونأمل أن يعم الأمن والاستقرار في عموم البلاد. كما أكد رئيس تحالف السيادة خميس الخنجر أن خطاب مقتدى الصدر أعاد الأمن للبلاد والوطن وخنق الفتنة في مهدها. ودعا قيس الخزعلي الامين العام لعصائب اهل الحق العراقيين الى تشكيل حكومة جديدة في اقرب وقت بعد اخماد نيران الاحتجاجات.
مع لباقة المرجعية العراقية وموقف الصدر لقمع الفتنة، أصبحت اللعبة السياسية الآن في أيدي التيارات السياسية لتشكيل حكومة جديدة في أسرع وقت وإنهاء الإنسداد السياسي، ولن يقبل العراقيون بعد ذلك أي أعذار. كما أنه مع الجهد الوطني الذي ظهر بين العراقيين في الأيام الأخيرة، إضافة إلى حل الأزمات السياسية، تم تمهيد السبيل لحل المشاكل الاقتصادية في هذا البلد.