بعد أن فشلت عمليات التطهير العرقيّ والتهجير القسريّ للسكان الأصليين الفلسطينيين من بلادهم مع بدء قيام الكيان الغاصب، يتحدث الإسرائيليون بكثرة في الفترة الأخيرة عن مصير مجهول تسير نحوه الدولة اليهوديّة -المزعومة-، في وقت يؤكّد فيه محللون أنّ العدو انتقل بشكل واقعيّ من العنصريّة المقيتة إلى الفاشيّة الشدّيدة، وبات الحديث عن نكبةٍ ثانيةٍ للشعب العربيّ-الفلسطينيّ في الأوساط السياسيّة والإعلاميّة والأكاديميّة التابعة للكيان مشروعاً، وليس خارجًا عن قاعدة الإجماع الصهيونيّ كما تقول الوقائع.
ويتفاقم الجدل والنقاش المترافق مع حالة الهلع والفزع مما يسمونه “الخطر الديمغرافيّ”، وتكاثر العرب في أرضهم التاريخيّة، التي يُطلق عليها الإسرائيليون “أرض الميعاد” أوْ “إسرائيل الكبرى”، ولا يُخفي صُنّاع القرار الصهاينة خشيتهم العارمة من هرب الإسرائيليين الذين جُلبوا من أصقاع الأرض سابقاً إلى القارة الأوروبيّة، في حين يعتقِد كثيرون أنّ الحلّ الوحيد والنهائيّ للمعضلة يتمثّل في طرد العرب من أرضهم للحفاظ على “يهوديّة كيان الاحتلال”.
فشل إسرائيليّ
“إسرائيل تمضي في الطريق لتحاصر ما بين الجديرة والخضيرة”، جملة قالها سابقاً وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس، معتبراً أنّ الكيان سيحاصر ضمن مدن في الداخل الفلسطينيّ المسلوب، في وقت يكثر فيه الحديث من قبل الإسرائيليين قبل غيرهم عن نهاية “إسرائيل”، إضافة إلى حديث مستشرقين صهاينة مختصين بما يُسمى “الصراع العربيّ – الإسرائيليّ” أن الكيان الذي اعتمد عدداً من الاستراتيجيات، فشل في تحقيق وتجسيد الحلم الصهيونيّ على أرض فلسطين المحتلة، وأنّ الدولة اللقيطة تواصل السير في طريق فقدان هذا المشروع.
وفي الوقت الذي يرى العدو الصهيونيّ أنّ التهديد السكاني هو التهديد الأول لـ”إسرائيل”، كشف الإعلام التابع للكيان المجرم النقاب عن أنّ البروفسور أرنون سوفير، أستاذ قسم الجغرافيا في جامعة حيفا، وسيرجيو ديللا فرغولا رئيس قسم الجغرافيا والإحصاء لليهود في الجامعة العبريّة في القدس والذي يعتبر من أوائل وأنشط “المحاربين” على الجانب الديمغرافي ضدّ الفلسطينيين في الأراضي التي سلبتها العصابات الصهيونيّة.
والذي زرع في أذهان الوزير السابق دان ميريدور ومن بعده رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق، أرئيل شارون، وبنيامين بن أليعيزر وزير حربه، زرع ضرورة التصدّي العاجل لخطر القنبلة الديمغرافية الفلسطينيّة، أنّ الأخير كان يحتفظ بدراسة “سوفير” في مكتبه في الوزارة ويقوم بتطبيقها بناءً على أوامر من رئيسه شارون الذي سرعان ما اتّخذ مبادرة بناء الجدار العازل غير مكترث بأحدٍ في هذا العالم، ولاسيما بقرار المحكمة الدولية في لاهاي والذي جاء معلنًا بطلان شرعية هذا الجدار، ودعا الحكومة الإسرائيلية إلى التراجع عنه وهدم ما بُني منه على الفور.
أيضاً يقول سوفي أنّ “إسرائيل فقدت الأكثرية اليهوديّة، وهذه المعضلة لا تتصدّر الأجندة، وفقدان الأكثريّة لم يبدأ اليوم، بلْ في العام 1967، كما أنّه وفقًا لتقديرات مكتب الإحصاء المركزيّ الحكوميّ الإسرائيليّ فإنّ عدد سكُان أرض إسرائيل (فلسطين التاريخيّة) سيكون في العام 2065 سيكون 31 مليون”، وذلك في ظل تزايد عدد السكان الفلسطينيين داخل أراضي عام 1948، ما يمثل تهديدًا ديموغرافيًا فعليًا يمكن أن يهدد بقاء الكيان الصهيونيّ وبنيته الطائفيّة (اليهودية).
حيث تشير تقديرات إسرائيلية إلى أن عدد الفلسطينيين عام 2050 سيصل إلى ما لا يقل عن 10 ملايين بالضفة وغزة، وتتحدث أنّ عدد المهاجرين اليهود سيصل إلى ما يقارب 10.6 مليون يهودي في الأراضي الفلسطينيّة المسلوبة و3.2 مليون عربي بالعام ذاته، وهذا ما يدفع الإسرائيليين ومحلليهم للقلق بشأن التفوق الديمغرافي الفلسطينيّ في المنطقة ما بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن (أرض فلسطين التاريخية) في ظل غياب أيّ رغبة إسرائيليّة للحل السياسيّ.
أكثريّة مفقودة
بالاستناد إلى أنّ التزايد السكاني للعرب يفزع الإسرائيليين، بالتزامن مع تعويل العدو الغاصب على استقدام المهاجرين ورفع اعداد المتدينين مع توقعات انخفاض معدل الخصوبة بين الفلسطينيين لا يبدو أنّه جاء بنتيجة في هذه القضية، تؤكّد صحيفة (هآرتس) العبريّة، أنّ عدم الاهتمام فيما يتعلّق بفقدان “الأكثرية اليهوديّة” في فلسطين المحتلة سببه أولئك الذين يعتقدون بحسب المعتقدات الدينيّة اليهوديّة أنّ اليهود سيبقون الأكثرية إلى الأبد، وأنّ حلّ المشكلة يتّم عن طريق “طرد العرب”، أمّا القسم الثاني من السُكّان، أيْ العلمانيين والمُتعلّمين، فإنّهم يُخططون للهروب من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة.
وعلى الرغم من أنّ القوانين التابعة للعدو تشجع هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى الأراضي الفلسطينيّ التي نهبوها ولكنه يرفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ممتلكاتهم وعقاراتهم التي هُجروا منها، تنخفض نسبة اليهود في الميزان نتيجة الزيادة الطبيعية الأسرع بين السكان الفلسطينيين، ويجد الصهاينة دون جدوى أنّ هذا الأمر أيّ النمو السكاني يجب أن يلقى اهتمامًا خاصًا، مع وجود دراسات تتحدث أنّ “التحدي الديموغرافي السياسيّ” كان أحد الاعتبارات التي أقنعت رئيس وزراء العدو السابق إسحاق رابين بالتوقيع على اتفاقيات “أوسلو”، فيما كان الاعتبار الديمغرافيّ أيضًا ذا أهمية خاصة في قرار شارون بالانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة عام 2005.
وفي ظل الرغبة الإسرائيليّة الداعمة بإيجاد مبررات لطرد أصحاب الأرض والمقدسات من بلادهم، بات العدو وعصاباته يؤمنون أكثر من أي وقت مضى بنهايته المؤكّدة، حيث يشير الإعلام العبريّ إلى أنّ الإيمان الدينيّ باستمرار تواجد اليهود وتوقفهم من ناحية العدد، لا ينسحِب فقط على الشعب البسيط، بلْ على الكثير من صُنّاع القرار في الكيان، والذين يشغلون مناصب عالية ووازنة في التخطيط وقوى الأمن وفي وزارة الزراعة وغيرها من الوزارات الحساسّة، إضافة إلى أنّ الجهات التي تؤمن بأبدية الأكثريّة اليهوديّة هي الأقليّة، ولكنّها عمليًا هي التي تُقرر الأجندة الوطنيّة، على حدّ وصف الإعلام العبريّ.
كذلك، ووفقاً للرؤويّة الصهيونيّة إنّ هذه الأقليّة تتجاهل وتنفي وتفرِض على الأرض وقائع لا عودة منها، وتقود الإسرائيليين إلى كارثة لن يتمكنوا حتى ولو أرادوا من التراجع عنها وتغييرها، وتحت شعار التمسّك بالضفّة الغربيّة، فإنّ هذه الجهات المهمّة والمسؤولة في الكيان تقود إلى فقدان الأكثرية في الجليل، القدس والنقب، والنتيجة ستكون فقدان “أرض إسرائيل كلّها”، كما أكّد البروفيسور سوفير، حيث إنّ لدى الإسرائيليين إجماع شبه تام على أنّ المشكلة الديمغرافية هي الخطر الأعظم الذي يتهدد أسس “الدول العبرية” المزعومة.
طرد الفلسطينيين
في تأكيد آخر على مدى قذارة ووحشيّة وعنصريّة هذا الاحتلال المقيت، يتحدث محللو الإعلام العبريّ عن القضيّة الديمغرافيّة بخرية وتهكّم حيث يقول سوفير إنّه “لا بأس من أن نُبقي حاجتنا من الفلسطينيين لجهة استخدامهم في جمع القمامة والعمل في البنية التحتية الرثة، وكذلك في توفير الخضار والفواكه لنا وكذلك الخدمة في المقاهي والمطاعم”، في برهان كبير على منهج الفصل العنصريّ داخل المنطقة الجيوسياسيّة (جيوسياسيّة: السياسة المتعلقة بالسيطرة على الأرض وبسط نفوذ الدولة في أي مكان تستطيع الوصول إليه) التي تحكمها حكومة الكيان الصهيونيّ، وتوصف حتى من قبل منظمات إسرائيليّة بأنّها “أبرتهايد” أي نظام فصل عنصريّ بين النهر والبحر.
حيث إن معظم الإسرائيليين لا يعتبرون الجرائم بحق الفلسطينيين ظلماً، ويرفضون وصفهم بمصطلح “أبرتهايد”، لأنهم يؤمنون بالفعل أن التمييز أمر مشروع، وجزء من الدفاع عن النفس، وخاصة أنّ المجتمع اليهوديّ غُذي بسرد تاريخيّ منفصل عن الواقع، وهو أن فلسطين كانت إلى حد كبير صحراء غير مأهولة بالسكان قبل أن يستوطنوها، وهو ما يُطلقون عليه “حرب الاستقلال الإسرائيلية”، وهذا الاصطلاح محضُ دجل لا أكثر، لأنّ الاستقلال هو التحرر من أيّ سلطة أجنبيّة بالوسائل المختلفة، أما الاحتلال فهو استِيلاءُ دولة على بلاد دولة أُخرى أَو جزءٍ منها قَهْراً، وهذا ما تم بالفعل عام 1948 عند نشوء الدولة المزعومة.
وفي ظل تسارع المخططات الاستيطانيّة الصهيونيّة في الضفة الغربيّة المحتلة والقدس من أجل محاولة وسم هوية مدينة القدس كعاصمة يهوديّة لكيان الاحتلال القاتل واغتيال أيّ مساعٍ فلسطينيّة أو دوليّة لإقامة دولة فلسطينيّة في الأراضي المحتلة عام 1967 من جهة أخرى وفي الوقت الذي لا يكف فيه جنود الاحتلال المجرم عن استهداف وقتل وتهجير الفلسطينيين ونهب أراضيهم، يقترح الإسرائيليون استيعاب أكثر من 200 ألف يهودي كل عام، والأمر برأيهم يتطلّب بسرعة كبيرة اتخاذ قرارات سياسيّة، صعبة ولا رجعة عنها، بدءاً مثلاً من الطرد الجماعيّ للشعب الفلسطينيّ.
وفي دليل آخر على أنّ الكيان الصهيونيّ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يتوقف عن إجرامه وقضمه لأراضي الفلسطينيين وتهجيرهم، بالاستناد إلى نص إعلان الدولة المزعومة، والذي يدعي أنّ أرض فلسطين هي مهد الشعب اليهوديّ، وفيها تكونت شخصيته الروحيّة والدينيّة والسياسيّة، وهناك أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضاريّة ذات مغزى قوميّ وإنسانيّ جامع، وأعطى للعالم كتاب الكتب الخالد، ويزعم الإعلان أنّ اليهود نُفيوا عنوة من بلادهم، ويعتبرون أنّ الفلسطينيين هم ضيوف في “إسرائيل” وأنّ الجرائم التي يرتكبونها بحقهم بمثابة استعادة لحرياتهم السياسية في فلسطين.
يقول الإعلام العبريّ: “إذا كانت إسرائيل قد قامت إيديولوجيتها على مبدأ طرد السكان العرب وإحلال يهود مكانهم، فإنّ مخازنها اليهودية في الخارج بدأت بالنضوب لجهة إمدادها بالصهاينة الراغبين في العودة إلى ما يُطلقون عليها أرض الميعاد، الأمر الذي جعل سوفير وأصدقاءه يعلنون تعويم الترانسفير الجديد وطرد كل من فلسطينيي 1948 ومعهم فلسطينيو غزة والضفة الغربية أيضًا إلى الأردن والعراق وتوطين الفلسطينيين حيث هم في الدول العربية ودول العالم كافة”.
ويعترف الصهاينة وإعلامهم أنّ الكيان الغاصب سيواجه خلال الـ 15 عامًا المقبلة مخاطر انهيار داخليّ مريع يتهدده أكثر من القنبلة النوويّة الإيرانيّة والجيوش العربية مجتمعةً بحسب توصيفهم، يتمظهر ذلك في فقدان السيطرة على أطرافه وفي إطار اختزال تمركز ذاتها في كيان تل أبيب”، ولا يمكن لأحد أن ينسى الجملة التي يرددها الإسرائيليون دوماً وهي: “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”، وهذا الموضوع يقُضّ مضاجع صنّاع القرار بالكيان اللقيط الذي قام منذ ولادته بني على مبدأ التطهير العرقيّ والتاريخيّ من خلال المجازر التي ارتكبتها عصابات الصهاينة ضد أصحاب الأرض ومقدساتهم إضافة إلى عمليات بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة كأدلة ثابتة وواضحة على ممارسات الصهيونيّة الاستعماريّة.
نتيجة لكل ما ذُكر، يدرك الإسرائيليون بشدّة أنّه لا مستقبل لهم في فلسطين، فهي ليست أرضاً بلا شعب، كما كذبوا، بعد أن وافق الصهاينة على إنشاء وطنهم اليهودي على أرض فلسطين العربيّة تاريخيّاً، وزعموا أنّ فلسطين هي “أرض الميعاد” وأنّ اليهود هم “شعب الله المختار”، وأنّ القدس هي “مركز تلك الأرض”، وأنّها “مدينة وعاصمة الآباء والأجداد”، و”مدينة يهوديّة بالكامل”، بهدف الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الفلسطينيين بأقل عدد ممكن منهم، وقد شجعت الحركة الصهيونيّة بشكل كبير جداً، هجرة يهود أوروبا الجماعيّة إلى أرض فلسطين خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ولا يخفي الإعلام العبريّ ولا المسؤولين الصهاينة ولا المحللين والمتابعين بأنّهم يواجهون أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حلّ معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال، ما يعني أنّ الإسرائيليين فهموا بشكل كامل الخداع الذي تحاول الآلة الإعلانية للكيان زرعه في عقولهم، والدليل وجود عدد وإن كان قليلاً من الإسرائيليين يرفضون الروايات الإسرائيليّة، ويطلقون حملات نشطة من أجل تحرير فلسطين من نظام الفصل العنصريّ والمقاطعة العالمية، والتاريخ علم اليهود أنّه لا يمكن لدولةً يهودية أن تستمر لأكثر من ثمانين عاماً، وهذا أشدّ ما يُقلهم مع تلك الوقائع.