مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي أصرّ في الأسابيع الأخيرة علی حل البرلمان بأي وسيلة ممكنة، صدم العراق مرةً أخرى بإعلان اعتزاله لعالم السياسة.
مقتدى الصدر، الذي كان حتى يوم أمس يكافح من أجل العودة إلى السلطة، أعلن فجأةً في بيان أنه لن يتدخل في الشؤون السياسية بعد اليوم، ومن الآن فصاعدًا سينسحب تمامًا من الساحة، وأعلن أنه سيغلق جميع المكاتب المتعلقة به باستثناء الضريح والمتحف والمعهد التراثي لعائلة الصدر.
على الرغم من أن الصدر كان ينظر إلى هذا السلوك في البداية على أنه نهج إيجابي من أجل إنهاء المأزق السياسي، إلا أنه في غضون ساعات من إصدار هذا البيان، انقلبت الصفحة، ومع تواجد المتظاهرين الموالين للصدر في الشوارع، عادت الفوضى إلى بغداد ومدن أخرى. وبمعنى آخر، كان موقف الصدر الجديد أشبه بصبّ البنزين على النار، مما زاد من حدة التوتر.
أنصار الصدر، الذين احتلوا مبنى البرلمان في الأسابيع الأخيرة وطالبوا بإغلاق مجلس القضاء الأعلى، داهموا على الفور المنطقة الخضراء في بغداد لإعلان دعمهم لمقتدى الصدر.
وفي هذا الصدد، دخلت عناصر “سرايا السلام” التابعة للتيار الصدري القصر الرئاسي واحتلوه. وكانت القوات الأمنية التي تسامحت مع المحتجين خلال احتلال مبنى البرلمان، تصرفت هذه المرة بحدة ونجحت في إخراج أنصار الصدر من القصر الرئاسي والسيطرة الكاملة عليه.
كما أعلن المتظاهرون في المنطقة الخضراء دعمهم لمقتدى الصدر بترديد هتافات، وحاولوا الاستيلاء على بعض المباني الحكومية.
ورداً على أعمال الشغب هذه، أصدرت القوات الأمنية العراقية بياناً أعلنت فيه حظر التجول في مدينة بغداد، وأكدت أن هذا الحظر يشمل السيارات وجميع المواطنين. وشددت هيئة الأركان المشتركة للجيش العراقي على ضرورة التزام جميع المواطنين بحظر التجول، وتجنب الإشاعات المتحيزة.
دخول قوات مكافحة الشغب على الخط
عقب هذه الاضطرابات، عقدت قيادة العمليات المشتركة العراقية اجتماعاً عاجلاً وطالبت أنصار الصدر بمغادرة المنطقة الخضراء. لكن أنصار الصدر لم يلتفتوا إلى هذا البيان، وتدحرجت الأمور نحو دخول قوات مكافحة الشغب على الخط وتفريق المشاغبين باستخدام الغاز المسيل للدموع.
كما أرسلت القوات العراقية معدات عسكرية إلى المنطقة الخضراء لهذا الغرض.کذلك، تم إرسال عدد كبير من القوات الأمنية إلى المنطقة الخضراء من مناطق متفرقة في بغداد. وزعمت بعض المصادر أن 8 أشخاص قتلوا في هذه الاحتجاجات، رغم أن المسؤولين العراقيين لم ينشروا إحصائيات عن عدد القتلى أو الجرحى.
كما تشير بعض التقارير إلى قيام عدد من المتظاهرين بمهاجمة منزل نوري المالكي. ومع بدء الاحتجاجات في المنطقة الخضراء ببغداد، يشعر عدد من السفارات الأجنبية بقلق بالغ إزاء هذه القضية. وطالبت الحكومة الإيرانية، في بيان، الزوار الإيرانيين بالامتناع عن التنقل داخل المدن العراقية، وخاصةً في المدن الحدودية العراقية.
وبالتزامن مع اقتحام أنصار الصدر القصر الرئاسي، أفادت قناة صابرين نيوز علی تلغرام أن مثيري الشغب تجمعوا أيضاً في محافظة البصرة. حتى أن هؤلاء الأشخاص هاجموا المحلات التجارية، ولهذا السبب طالب عدد من أصحاب المحلات التجارية في هذه المناطق بتدخل قوات الأمن.
كما قام أنصار الصدر بأعمال شغب في محافظتي ميسان وذي قار، واحتلوا مبنى مجلس المحافظة. وعلى الرغم من انتشار انعدام الأمن في جميع أنحاء العراق، ولکن لم يتفاعل الصدر مع الأحداث، وفتح صمته الطريق أمام المحتجين لمواصلة تمردهم.
بعض العناصر الداخلية والخارجية ترکب موجة الأحداث
على الرغم من أن أنصار الصدر في الظاهر يعتبرون احتجاجاتهم سلميةً ودعماً لزعيمهم الروحي، إلا أن أعمال الشغب هذه وفرت فرصةً جيدةً لبعض التيارات المؤثرة داخل العراق، وكذلك بعض الجهات الأجنبية ووسائل إعلامها، لإشعال الحرب في العراق من خلال رکوب موجة الاحتجاجات.
وزعم بعض المسؤولين المقرّبين من التيار الصدري، أن مواقع وقنوات وهمية أخرى تعرّف نفسها على أنها تنتمي إلى هذا التيار، تحاول جعل الوضع في هذا البلد حرجًا من خلال تحريض أنصار التيار على أعمال شغب في بغداد وعدة محافظات عراقية.
كما أن وسائل الإعلام السعودية التي تصطاد في المياه العکرة دائما، تصرفت هذه المرة بكل قوتها، وبنشر صور ومقاطع فيديو مزيفة تتعلق بأحداث السنوات الأخيرة في العراق، زعمت أن بغداد أصبحت غير مستقرة، وبهذه الأخبار الكاذبة تحاول تحريض العديد من العراقيين للانضمام إلى المتظاهرين.
السعودية والولايات المتحدة، اللتان تدعمان دائماً الفوضى السياسية وعدم الاستقرار في العراق، لا تمانعان في الاستفادة من هذه التطورات لتحقيق أهدافهما الشريرة.
من ناحية أخرى، يمكن أن تكون الاحتجاجات الخارجة عن السيطرة فرصةً جيدةً لتنظيم داعش الإرهابي، الذي يبحث عن فرصة لإحياء نفسه، لتعزيز خططه من خلال جعل المدن العراقية غير آمنة.
رد فعل العراقيين على فوضى أنصار الصدر
أثارت المعركة السياسية الجديدة للصدر وأنصاره، غضب التيارات السياسية العراقية الشديد. حيث ألغى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي اجتماعات مجلس الوزراء يوم الاثنين، وطلب مساعدة مقتدى الصدر في إخراج المحتجين من المؤسسات الحكومية في المنطقة الخضراء.
وأعلن الكاظمي أن تطورات خطيرة مثل هجوم المتظاهرين على المنطقة الخضراء والمنظمات الحكومية التي تحدث في عراقنا العزيز، تشير إلى خطورة الأخطار الناجمة عن استمرار الخلافات السياسية وتراكمها.
بدوره دعا رئيس جمهورية العراق برهم صالح في بيان أشار فيه إلى الظروف الصعبة التي يمر بها البلد، إلى التزام الهدوء وضبط النفس ومنع التوتر. كما شدد الإطار التنسيق الشيعي على ضرورة عودة التيار الصدري إلى طاولة الحوار. وتم التأکيد في البيان الصادر عن هذه اللجنة، “أننا نعلن دعمنا للحكومة ومؤسساتها، وعندما تتعرض المؤسسات الحكومية للهجوم، لا يمكننا البقاء على الحياد تحت أي ظرف من الظروف.”
كما أكد الإطار التنسيقي على ضرورة قيام الحكومة والمؤسسات الأمنية بواجبها الوطني، في دعم المؤسسات الحكومية والمصالح العامة والفردية. وطالب “كل المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية بالتدخل والعمل لدرء الفتنة، وتغليب لغة العقل والحوار ومنع المزيد من الفوضى وسفك الدماء.”
من جهته انتقد ائتلاف “دولة القانون” النيابي بشدة أعمال الشغب التي أثارها أنصار الصدر، وشدد على وجوب معاقبة مرتكبي هذه الفتنة.
في الأسابيع الأخيرة، طلبت جميع الفصائل السياسية العراقية من مقتدى الصدر الانضمام إلى عملية الحوار في اجتماع الحوارات الوطنية، حتى يتمكنوا من حل الأزمة السياسية بالتعاون، لكن التيار الصدري لم يلتفت لأي من هذه الطلبات وأصر على مطالبه.
في البداية، شدد مقتدى الصدر على ضرورة حل مجلس النواب وتمهيد الطريق لإجراء انتخابات مبكرة. وبينما لم يوافق العراقيون بعد على هذا الطلب، قدّم يوم الأحد طلبًا يتجاوز القانون، وطالب جميع الفئات السياسية العراقية بعدم المشاركة في الانتخابات المقبلة.
وبهذا الطلب غير المعقول، أظهر الصدر أنه يريد العراق لتياره فقط، ولا ينبغي أن تكون حركات سياسية أخرى حاضرةً فيه. لذلك، فإن الشخص الذي كان حتى يوم أمس يكافح من أجل العودة إلى السلطة، قرر الآن فجأةً اعتزال السياسة، مما يدل على أن هناك أهدافًا أخرى وراء هذه السياسة.
هناك تكهنات بأن الصدر يريد أن يظهر للعراقيين ثقله السياسي ومكانته الشعبية، من خلال الانسحاب رمزياً من الأنشطة السياسية، والتلميح إلى أنه إذا اختار العزلة في النجف فلن يرى العراق السلام والاستقرار، والعراقيون بحاجة إليه بأي حال من الأحوال.
ورغم أن الصدر يبدو غير مهتم بالسياسة ظاهريًا، إلا أن هدفه الرئيسي هو إجبار الجماعات السياسية، وخاصةً الإطار التنسيقي الشيعي، على الانصياع لمطالبه، وهي حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة. لأن الصدر أدرك جيداً أن الطريقة الوحيدة للعودة إلى الهيكل السياسي، هي من خلال الانتخابات.
قد يعتقد البعض في العراق أن قرار الصدر هو وفاء للشعب، وأنه ضحى بنفسه من أجل العراقيين، لكن تجربة سلوكه في الماضي أظهرت أن كلام الصدر لا يمكن الوثوق به.
لأنه في يوم استقالة نواب التيار الصدري في يونيو، وصف مقتدى ذلك بأنه تضحية للشعب وقال إنه لم يكن معنياً بالسلطة والسياسة، وعلى الرغم من عدم وجوده في الهيكل السياسي، إلا أنه سيبذل قصارى جهده لحل الخلافات بين المجموعات السياسية. لكن بعد أسابيع قليلة، ومع جرّ أنصاره إلی الشوارع، أظهر أن كل هذه الأقوال كانت مجرد كلمات، وعمليًا تم تنفيذ ما يخالف ذلك تماماً.