“نحن أمام ظروف صعبة، أمام ضغوطات كبيرة.. لكن لنا تاريخ مملوء بالشجاعة والبطولة والانتصارات، لنا من تاريخنا المعاصر نماذج من أمثال الشهيد أحمد قصير، ونخاف؟” الأمين العام السابق لحزب الله، الشهيد السيد عباس الموسوي.
في 6 تشرين الأول/أوكتوبر عام 2012، أرسل حزب الله من لبنان، طائرة مسيّرة عبرت مئات الكيلومترات فوق البحر الفلسطيني المحتل ثم التفت ودخلت جنوباً وحلّقت فوق منشآت إسرائيلية حساسة من ضمنها “ديمونا”، قبل أن يكتشفها سلاح الجو الإسرائيلي ويسقطها بعدما حلّقت كل هذه المسافة.
وصف حزب الله ما جرى حينذاك، بأنه “عملية نوعية جداً، ومهمة جداً، في تاريخ المقاومة في لبنان والمنطقة”. كان اسم الطائرة المسيّرة “أيوب” تيمناً -وفق الحزب- بـ”نبي الصبر والتأني والفوز والنجاح، أيوب”، وتخليداً لاسم الشهيد حسين أيوب.
مرّت 10 سنوات على الحادثة تلك، 3 طائرات مسيّرة تابعة لحزب الله، تعبر البحر في لحظة واحدة باتجاه منصات الغاز في “كاريش”، وتنجز مهمتها المطلوبة.
ما الذي تغيّر في 10 سنوات؟ وما الذي راكمه حزب الله في 40 عاماً؟
المسارات الـ 3
عندما تحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، منذ حوالى شهر، عن “إمساك المقاومة باللحظة التاريخية لإنقاذ لبنان”، بما يتعلق بمسألة ترسيم الحدود وثروات الطاقة، كانت دائرة كلامه تنحو في 3 مسارات: الأول، يتعلق بالمقاومة وقدراتها. والثاني، بموقع المقاومة في الإقليم وعلى الساحة الدولية، والثالث بالتغيرات التي يشهدها النظام الدولي.
انطلق السيد نصر الله في حديثه هذا، من حقوق لبنان في مجال الطاقة على صعيد التنقيب والاستخراج، والاستفادة في وقتٍ لاحق. وفي هذا الأمر تحديداً، كان الاحتلال الإسرائيلي هو المعني المباشر بالأمر، لكن خلف المشهد فإن حزب الله يستثمر بإنجازاته وما راكمه على مدى 40 عاماً لفرض قواعد ومعادلات جديدة، تؤثر في لبنان أولاً، وتفرض حضوراً أكبر للمقاومة في الإقليم يمكن تجييره تباعاً في المواجهة مع الأميركي، الذي يبقى خروجه من المنطقة واسترجاع سيادتها من ضمن أهداف حزب الله المعلنة دائماً ضمن محور المقاومة.
مسألة الإمساك باللحظة التاريخية ضمن مساراتها الــــ 3 لم تكن في كثير من الأحيان نتيجة خيارٍ بين خيارين، بل هي نتيجة لتعامل حزب الله على مدى 40 عاماً مع تهديدات وجودية استطاع تحويلها إلى فرصة للمراكمة والتقدم.. والاستثمار العملي في وقتٍ لاحق.
وكان حزب الله في قراراته يتحرك ضمن معيارين أساسيين: الأول، يرتبط بحدود توظيف قدراته للوصول إلى أهدافه، وهذا يتعلّق بالردع وتطوره كمفهوم أمني وسياسي. والثاني، يرتبط بحدود مساحة التحرك في الإقليم، وتوسيع حدود الجبهات من ناحية الدعم المباشر أو غير المباشر، مع ضرورة الحفاظ على كفاءة المرحلة السابقة.
صدقية الردع.. أهم من الردع
في اللحظة التي اتخذ فيها الأمين العام الجديد لحزب الله السيد حسن نصر الله عام 1992 قرار استهداف المستعمرات الإسرائيلية في شمالي فلسطين المحتلة أول مرة، كرد على تقدم الاحتلال نحو قرى جنوبية، كان التاريخ حينذاك يسجّل منعطفاً أساسياً في مسار المواجهة بين المقاومة الإسلامية و”إسرائيل”.
كان هناك قرار لدى قيادة المقاومة قضى بالاشتباك المباشر والعنيف مع القوات الإسرائيلية المتقدمة نحو بلدة ياطر، وهذا في المبدأ “تحصيل حاصل” نظراً إلى عمل المقاومة الميداني. لكن، يجب اتخاذ قرارٍ آخر بهدف “الضغط” على الاحتلال وإجباره على التراجع. وهنا، لم يكن قرار استهداف المستعمرات الإسرائيلية متدحرجاً، بمعنى أنه بدأ بالتهديد ثم انتقل إلى الفعل، وهذا يعود إلى سببين: الأول أن “إسرائيل” تقوم بأمر يُلزم ردعها عنه سريعاً. والثاني، أن نطاق تحرّك المقاومة في ذلك الحين ضيق جداً بين الاشتباك المباشر واستهداف المستعمرات، أو الاثنين معاً للضغط في أبعد حدود المواجهة.
منذ إطلاق أول صاروخ كاتيوشا نحو المستعمرات الإسرائيلية وقتذاك، أرادت المقاومة إيصال رسالة بالنار إلى “إسرائيل” مفادها أن عدوها (حزب الله) مستعد لجميع الخيارات في المواجهة، وأن قواعد الردع لديه ليست للتهديد والوعيد وحسب، وأنها ذات صدقية عالية. حزب الله عام 1992- 1993 لم يهدّد بقصف حيفا و”وتل أبيب” ولا بالتحرك نحو الجليل لإرغام “إسرائيل” على التراجع، بل أطلق الكاتيوشا على المستعمرات الشمالية، وتحت وطأة الضربات والاشتباكات تراجعت قوات الاحتلال.
كان لزاماً سرد تلك الأحداث لتوضيح ما ألزم حزب الله نفسه به في قوة الردع والمواجهة عندما تحدث عن اللحظة التاريخية. يعلم الإسرائيلي جيداً وضمن التجربة أن حزب الله لا يتكلم ليردع وحسب، ولكن ليثبت إمكانيات الردع التي يمتلكها أمام الجميع، وهذا في ذاته رفع منسوب مصداقية الردع بشكل غير مسبوق على مستوى المنطقة.
لذا، عندما هدد حزب الله عام 2006 باستهداف “حيفا وما بعد بعد بعد حيفا” أو استهداف “تل أبيب” في حال ضرب العاصمة بيروت، فإن الإسرائيلي كان يعلم جيداً أنه يتعامل مع طرف لا يمكن أن يهدد خارج حدود إمكانياته، وإلا لهدّد الحزب عام 1996 خلال عدوان “عناقيد الغضب” باستهداف “تل أبيب” ولكان هناك إمكانية كبيرة أن يتراجع الاحتلال تحت “التهديد” فقط من دون أن يلمس الفعل.
الآن، يهدد حزب الله بأن منشآت استخراج الطاقة على امتداد البحر الفلسطيني المحتل، كلها لن تكون آمنة، في حال لم يستطع لبنان الاستفادة من ثرواته. اللحظة التاريخية، التي ذكرها السيد نصر الله في جزء أساسي منها تتعلق بتاريخ صدقية الردع بين حزب الله “وإسرائيل”.
السيد، وضع 40 عاماً، من قدرات الردع وصدقيتها لدى الاحتلال قبل غيره، في سياق ضرورة استفادة لبنان من ثرواته. وهنا، الخيارات أمام الإسرائيلي ضيقة جداً، لا سيما أنه اختبر صدقية حزب الله في استعراض قوته، واستخدامه جميع خيارات تلك القوة مهما كانت عند حدوث المعركة، إضافة إلى ما يراكمه ويبني عليه من قوة وخبرة بعد المعركة، من كاتيوشا عام 1993 على مستعمرات الجليل، إلى صواريخ دقيقة قادرة على إصابة منشأة بحرية بعيدة مئات الكيلومترات عن الساحل اللبناني، وفي أبعد مسافة داخل فلسطين المحتلة عام 2022.
الصدقية في الردع هذه، كانت أهم من الردع نفسه. ما سيردع “إسرائيل” أو يجبرها، هي وأميركا من خلفها، على تحقيق المطالب المعلنة من قبل حزب الله حالياً، ليس قوة الأخير وحسب، بل في واقع الحال، أنه سيستخدمها في الوقت الملائم، كما عوّد عدوّه دائماً.
الحضور في الإقليم.. والتأثير في الساحة الدولية
لم يكن مفهوم الردع والصدقية في استخدام القوّة، ليأخذا هذا الحيّز، لولا ارتباطهما بالمساحة التي تحرّك بها حزب الله، خارج الجغرافيا الضيقة التي انطلق منها. وفي هذه المسألة، جاءت التغيرات الدولية مع الحرب في أوكرانيا، لتضع الحزب أمام مفترق قرارٍ جديد يرتبط بما أنجزه في العقد الماضي.
لم تصدر عن حزب الله تصريحات تهتم بما يحدث في أوكرانيا، على أنه حدث أوروبي أو غربي–روسي، ويجب الاصطفاف مع طرف ضد آخر. ما يعني حزب الله في هذه الحرب، هو موقع مصالح لبنان فيها، ومحور المقاومة عموماً، وذلك في المعركة مع “إسرائيل” والوجود الأميركي في المنطقة.
ولأن ساحات المواجهة مع العدوين “إسرائيل” والولايات المتحدة مترابطة في المعنى الإستراتيجي، فإن الإشارات الصادرة من صنعاء في الأشهر الأولى من الحرب في أوكرانيا كانت كفيلة بفهم أهمية المنطقة ضمن تلك الحرب.
دخل اليمن في هدنة مع تحالف العدوان السعودي، دفعت الولايات المتحدة في اتجاهها، بعد ضربات متتالية استهدفت منشآت الطاقة في السعودية، مخافة أن تؤثر تلك الضربات في مسارات ومصادر الطاقة المعنية بها الولايات المتحدة، التي كانت، وما زالت تعاني نتيجة الحرب في أوكرانيا. تلقي حزب الله تلك الإشارات بعد درسها وفحصها والعمل بها بما يخدم مصالح لبنان ومحور المقاومة، لم يكن وليد لحظته، بل هو أيضاً نتيجة عملية تحويل التهديد إلى فرصة، في استراتيجية أمنية وعسكرية، عمل عليها حزب الله في العقد الماضي.
عندما دخل حزب الله الحرب في سوريا، كان يريد بالحد الأدنى الحفاظ على وجوده المهدد. وعندما انتهت معركة حلب وحرّرت المدينة في مطلع عام 2017 (معركة مفصلية) كان كل ما تريده “إسرائيل” في الحد الأدنى هو ألا يستهدفها حزب الله من سوريا، وألا يتموضع في جبهة أخرى ضدها. بين عامي 2013 و2017 كان حزب الله يحارب المشروع الأميركي–الغربي ودولاً عربية متآمرة في سوريا، إلى جانب إيران، وقوى دولية فاعلة هي روسيا.
مع اندلاع الحرب في أوكرانيا بين روسيا وحلف الأطلسي، كان تموضع حزب الله على الساحة الإقليمية في المنطقة يستهدف عدواً مشتركاً هو الولايات المتحدة. لذا، فإن حزب الله الذي يدرك جيداً أن روسيا تفصل بين جبهاتها وحلفاء الولايات المتحدة في معاركها، لا يسعى لموقف روسي داعم له ومعلن ضد “إسرائيل”، لكن يبقى أن الوجود الأميركي في المنطقة وكسر تلك الهيمنة يصبان في مصلحة روسيا المعنية مباشرة بالحرب في أوكرانيا.
ولأن حزب الله استطاع بفضل سنوات من مواجهة المشروع الأميركي في سوريا، فرض نفسه لاعباً إقليمياً، فإن تجيير الحزب للحرب الروسية الأطلسية ونتائجها، في مزيد من الضغط على الوجود الأميركي وعلى “إسرائيل” لتحقيق مصالح وأهداف يعطي روسيا هامش مناورة، لا سيما أن العلاقة بين “إسرائيل” وموسكو أخذت تتوتر في الأشهر الماضية.
هامش المناورة الروسي في الإقليم، هو اللحظة التاريخية في مشهد دولي يتغير ويتبدل على وقع المعركة المفتوحة في أوكرانيا. ومن خلالها يستثمر حزب الله إنجازاته في العقد الماضي كقوة مؤثرة قادرة على بناء مصالح متقاطعة مع أطراف أخرى. وإذا كانت الولايات المتحدة مرتدعة في اليمن نتيجة أمن الطاقة لديها، فإن الغرب كله مرتدع في شرقي المتوسط نتيجة بحثه عن مصادر طاقة بديلة من روسيا.
لقد تحرَّك حزب الله استناداً إلى تراكم إنجازاته في مواجهة المشروع الأميركي إلى جانب قوى دولية فاعلة يهمها إضعاف هذا المشروع في المنطقة، ومروحة علاقاته وتأثيرها في الإقليم. ومع الأخذ بالاعتبار، أن الطرف الأساسي في منع لبنان من استغلال ثرواته هو الولايات المتحدة، فإن تحرك حزب الله هذا في الإقليم، للضغط على واشنطن، من أجل فرض حقوق لبنان عليها، في لحظة اصطدام روسي–أميركي، له تأثير على الساحة الدولية.
وعليه، فإن حزب الله الذي خلق لنفسه في السنوات الماضية، وبحدود إمكاناته وقدراته، مساحة في النظام الدولي، انطلاقاً من حضوره الفعّال في إقليم مؤثّر ومتأثر، يستثمر الآن في تلك المساحة، للإمساك باللحظة التاريخية.
الإمساك باللحظة التاريخية
عندما خرج حزب الله منتصراً من عدوان تموز 2006، كان الانتصار يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأهداف المعلنة. لا يمكن أن تنكر “إسرائيل” الهزيمة، وهي التي وضعت في سلّم أولويات أهدافها سحق حزب الله وبيئته الحاضنة، وهذا ما لم يحصل قط. كذلك، لا يمكن نكران انتصار حزب الله وهو الذي قال في بدء العدوان: لا يمكنكم سحقنا، ولن نعيد أسراكم إلا ضمن مفاوضات غير مباشرة، وهذا ما حدث فعلاً.
حديث الأوساط الإسرائيلية السياسية والعسكرية عن هزيمة مدوية ليس بسبب عدم القدرة على تحقيق الأهداف وحسب، بل لعجزهم عن منع حزب الله من تحقيق أهدافه، ومن استهداف العمق الإسرائيلي.
الآن، المقاومة في لبنان تقول إن الوقت ليس في مصلحة “إسرائيل” والولايات المتحدة، نظراً إلى ما يعانيه لبنان من أزمات وضغوط بحاجة إلى حلول سريعة. وقبل تحديد الرابح والخاسر، يجب تحديد الهدف من المعركة هذه.
إذا استطاع حزب الله تحقيق أهدافه بمعركة أو من دون معركة، يبقى هو الطرف الرابح. والحديث هنا عن التكلفة له سياق مختلف، باعتبار أن تكلفة تحقيق الهدف من دون معركة، دفعها حزب الله في دماء شهدائه وتضحيات قادته ومجاهديه وشعبه في 40 عاماً، لأن عدم وقوع معركة له مسارات عسكرية أمنية سابقة، فرضت الردع ومنطق القوة في استرداد الحقوق.
ويبقى أن هذه التكلفة في حال وقوع المعركة، لن تتبدل، لكن في مقياس الربح والخسارة سيراجع الإسرائيلي نفسه كثيراً، قبل أن يقدم على الدخول في معركة يراها حزب الله “لحظة تاريخية”، في منعطفٍ تاريخي يعيشه الكيان الصهيوني ويهدد وجوده.
*عباس الزين – الميادين نت