مع الإطلالة العامة على ساحة الصراع الدولي، نجد دوما ساحات فرعية يتم تسخينها لتصفية الحسابات عوضا عن المواجهة الكارثية المباشرة بين القوى العظمى، وهذه الساحات الفرعية يتم الصراع فيبها إما عبر الوكلاء نيابة عن الأصلاء، وإما بتشغيل وكيل لاستنزاف واستهلاك قوة كبرى بعينها نيابة عن القوى الاخرى المقابلة.
ولعل أمريكا هي الرائد الأكبر لهذه المقاربة الشيطانية، والتي طالما استغلت وكلاءها وتابعيها لاستنزاف خصومها، تارة باستخدام تنظيمات الإرهاب والتكفيريين وأنظمة ترعاهم وتمولهم وعلى رأسها المملكة السعودية، وتارات باستخدام الكيان الصهيوني المؤقت الذي استنزف القوى والجيوش العربية ويعمل كرأس حربة للمصالح الأمريكية.
ولعل المواجهة الكبرى الدائرة حاليا لإعادة ضبط النظام العالمي وتدشين نظام متعدد الأقطاب، خير شاهد لتسخين الجبهات غير المباشرة بين امريكا وروسيا على مستوى الصراع الدولي، وكذلك تسخين الجبهات على المستوى الإقليمي لاستنزاف ايران ومحور المقاومة.
إلا أن هناك فطنة كبيرة افسدت الخطط الأمريكية، تحلى بها كل من روسيا ومحور المقاومة، بتدشين تفاهمات والإعلان عن تنسيق وتعاون يربط ساحات المواجهة، بحيث لا تنفصل الساحات، ولا تستطيع امريكا وأذنابها الانفراد بأي طرف من المحور أو روسيا وهو ربط استراتيجي يعبر عن تحول ونقلة كبيرة في مسار الصراع..
ولمزيد من التوضيح، يمكن هنا الاستشهاد بساحة جديدة ومتصاعدة في الصراع وهي ساحة البحر الأحمر، حيث تشهد هذه الساحة اصطفافات وزخما يمكن ان نرصد البعض منها سريعا كما يلي:
1ـ انطلقت مناورات التمرين اللوجستي “الغضب العارم 22″، بين القوات المسلحة السعودية ومشاة البحرية الأمريكية، بمحافظة ينبع، وهو خير دليل على التحالف الاستراتيجي العميق وفساد التحليلات التي ذهبت لتمرد سعودي أو انفصال أو شبهة استقلال سعودية عن الراعي الأمريكي.
2ـ قبل المناورات السعودية الأمريكية، أعلنت “إسرائيل” اختتام المناورة البحرية المشتركة “نوبل روز” التي جرت في عمق البحر الأحمر بالمشاركة مع قوات من الأسطول الخامس للجيش الأمريكي، حيث جرت فيها محاكاة سيناريوهات متنوعة، وهو دليل على اصطفاف ثلاثي مباشر بين السعودية والكيان الصهيوني وامريكا، وربما تم الفصل بين المناورتين بسبب عدم اعلان التطبيع الرسمي فقط.
3ـ في تطور لافت، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مرسومين حول إقرار العقيدة البحرية الروسية وميثاق الأسطول العسكري الروسي، وجاء التعديل من خمس نقاط، يهمنا في هذا السياق ثلاث نقاط وهي:
الأول: يعتبر نهج الولايات المتحدة نحو الهيمنة في المحيطات العالمية بمثابة تحد رئيسي للأمن القومي لروسيا الاتحادية.
الثاني: عدم وجود عدد كاف من القواعد ونقاط التمركز خارج حدود روسيا الاتحادية المخصصة لتموين السفن التابعة للقوات البحرية الروسية، يعتبر نقطة خطرة.
الثالث: تتضمن العقيدة البحرية وجود نقاط ضمان لوجستية- فنية في البحر الأحمر.
والنقطة الثالثة هنا هي التطور الأهم الذي يعكس الاهتمام الروسي بالبحر الأحمر بشكل رسمي، وهو ما يعني دخوله كساحة مواجهة دولية وليس فقط إقليمية.
ولعل الترجمة المباشرة لهذه المستجدات، تتمثل في ما أعلنته القوات البحرية الإيرانية من أنها تصدت لهجوم على إحدى سفنها في البحر الأحمر، وقال نائب قائد العمليات في البحرية الأميرال مصطفى تاج الديني، للتلفزيون الرسمي، إن “فريق المواكبة للقوات البحرية تحت قيادة المدمرة جماران وصل فوراً إلى المكان بعد تلقيه نداء استغاثة من سفينة إيرانية في البحر الأحمر، وتواجه مع الزوارق المهاجمة”.
وقد سربت بعض المواقع التابعة للاستخبارات الروسية أن الهجوم كان من زوارق تابعة لأمريكا والعدو الصهيوني والسعودية، وهو ما لا نؤكده ولا ننفيه، ولكن الاصطفافات المشار إليها تشي بأن الأمور سواء في هذا الحادث أو في حوادث مستقبلية ستكون وفقا لهذه الاصطفافات.
وبالتالي كان التطور الأبرز في الأحداث الأخيرة، هو استقبال روسيا للوفد المفاوض لجماعة أنصار الله، وهو ما يشي بنقلة جيو استراتيجية جديدة تدخل بها اليمن في قلب الصراع الدولي والإقليمي وبتفاهمات يبدو أنها بدأت مع روسيا، وهي لا تنفصل عن ساحة الصراع المستجدة في البحر الأحمر.
الدلالات المباشرة هنا، هي أن الصراع الدولي والإقليمي لا ينفصلان، وأن محاولات أمريكا فصلهما للانفراد بخصومها على حدة في ساحات منفصلة، قد فشلت بسبب تنامي محور المقاومة وانتشاره في ساحات المواجهة ووجود اليمن كعضو حديث ووازن بالمحور، من جهة، ومن جهة أخرى، الوعي الاستراتيجي المشترك بين روسيا ومحور المقاومة والذي يربط الساحات ويقطع الطريق على خطط أمريكا وأذنابها.
ولعل العدو الصهيوني يحاول جاهدا الوقيعة بين المحور وروسيا باستهدافاته المتكررة لسوريا للايحاء بعدم جدوى التحالف أو لاستجلاب الغضب على الوجود الروسي باعتباره لا يقوم بدوره في ردع “اسرائيل” عن العدوان، وهو ما يستوجب الحذر في هذه المرحلة الدقيقة، ويستوجب الانتباه والحرص على تمتين التحالفات وعدم الوقوع في فخاخ الصهاينة، ويستدعي بالمقابل مناقشة الوضع مع الصديق الروسي ومحاولة الوصول لمعادلة ردع فعالة مع العدو.
العهد الاخباري/ إيهاب شوقي