أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في سياق الحديث عن الأسس الإيمانية في التعامل مع المجتمع من موقع المسؤولية، سبق لنا الحديث عن الرحمة، والمحبة، واللطف، والإحسان، والعدل، والحكمة؛ باعتبار هذه قيم أساسية، وأتى في سياق الحديث عن ذلك البعض من التفاصيل المهمة، التي سبق الحديث عنها.
ثم انتقل الحديث عن المحيط العملي، الذين يَعتَمد عليهم من هو في موقع المسؤولية، بدءاً بالمستشارين، وأتى التحذير من نوعيةٍ معينة من المستشارين، ممن ليسوا جديرين ولا مؤهلين بالاعتماد عليهم في المشورة، وأتى التفصيل في ذلك عن البخيل، والجبان، والحريص، الذي يجمع بين الطمع والبخل؛ باعتبارهم من أسوأ من يمكن أن يعتمد عليهم في الاستشارة، فتكون النتيجة سلبية في حالة الاعتماد على مشورتهم.
ثم الآن وصلنا في سياق الحديث عن من هم في موقع المسؤولية التنفيذية، الذين يُعتَمد عليهم، من هم في موقع المسؤولية، قال “عليه السلام”:
((إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ، فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ، مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلَا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً))
الإنسان عندما يصل إلى موقع المسؤولية، قد يتصور أنَّ من الحكمة أن يعتمد على البعض ممن لهم سابقة في التجربة، والعمل في موقع المسؤولية؛ باعتبار أنهم أصحاب خبرة، وأصحاب تجربة، ويمتلكون حسن التدبير، والرأي، والقدرة على إنجاز الأعمال والمهام، بحكم سابق تجربتهم الطويلة، ولكن عندما يكون البعض منهم فيما مضى كان معاوناً للأشرار في شرهم، في ممارساتهم الظالمة، في ارتكاب الجرائم، وأصبح له رصيد إجرامي، فهو كان ممن يعتمدون عليه في الوصول إلى أهدافهم، وفي تنفيذ جرائمهم، وفي ارتكاب المآثم، فتكون نفسيته قد تلوثت، وأصبحت منطلقاته للعمل وأداء المسؤولية منطلقاتٍ تشوبها الأطماع الشخصية، والمكاسب الشخصية، والأهداف الشخصية.
ويكون أيضاً في واقعه العملي جريئاً على ارتكاب المآثم، جريئاً على ممارسة الظلم؛ وبالتالي ليس مؤتمناً في أداء المسؤولية، لا من حيث الحذر من الظلم، الحذر من المفاسد، الحذر من ارتكاب الآثام، من الاستغلال السلبي لوظيفته ومنصبه، فهو قد تعوَّد أساساً على أن يكون منصبه وسيلةً لتحقيق الأهداف الشخصية، حتى لصالح الظالمين والمجرمين، وارتكب في سياق ذلك الجرائم والآثام، وأصبح- إضافةً إلى كونه غير مؤتمن على أداء المسؤولية- مُشَوِّهاً ومُشَوَّهاً، معروفاً بين المجتمع برصيده الإجرام والسيئ، برصيده في الفساد، بممارساته السيئة؛ وبالتالي يصبح مُشَوِّهاً، إضافةً إلى أنه لا يوثق به، ولا يُعتَمد عليه.
((وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ))
من كان أيضاً شريكاً للظالمين والطغاة والمجرمين في ارتكاب الجرائم، والمظالم، والمفاسد، قد تلوث بذلك، وفسدت نفسيته بذلك، وأصبح جريئاً على ارتكاب المظالم والمفاسد، ليس له وازعٌ من الإيمان، ولا من الدين، ولا من الحياء، وليس عنده إحساسٌ بالمسؤولية، يمكن أن يساعد على استقامته، وعلى نصحه، وعلى مصداقيته في أداء مسؤولياته، فمثل هذه النوعية الملوثة، التي قد تعوَّدت على ارتكاب الظلم، على ارتكاب الجرائم، قد غرقت في الفساد، وارتكاب الآثام، لا ينبغي الاعتماد عليهم ليكونوا هم الذين يَعتَمد عليهم من هو في موقع المسؤولية بشكلٍ أساسي، ولهذا قال:
((فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً))
لا يكونوا هم خواصك، المقرَّبون منك، الذين تعتمد عليهم اعتماداً أساسياً، تحت عنوان أنهم: أصحاب التجربة، وأصحاب الخبرة… وغير ذلك من المبررات.
((فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ))
كانوا من يتعاونون على الإثم، وارتكبوا الآثام، وتلوَّثوا بذلك، وفسدوا بذلك، فسدت نفسياتهم، فسدت منطلقاتهم في أداء المسؤولية والعمل، لا يمكن الوثوق بهم؛ وبالتالي ليسوا مؤتمنين فيما يُعتَمد عليهم فيه.
((وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ))
كانت ارتباطاتهم بالظلمة ارتباطات أخوة، وولاء، وتعاون، بتوجهٍ جاد، لديهم ارتباط حميم بالظلمة، فمارسوا معهم الظلم، وارتكبوا معهم الجرائم، وأصبحوا على علاقةٍ وارتباطٍ وثيقٍ بهم؛ ولذلك فهم ليسوا مؤتمنين في واقع المسؤولية نفسها، ولا مؤتمنين في ولاءاتهم وارتباطاتهم، التي قد تستمر فيما بعد، وتكون عاملاً من عوامل أن يغشوا في أدائهم المسؤولية، ألَّا يؤدوا مسؤولياتهم بنصح، بصدق، بإخلاص، فولاؤهم مدخول بتلك الارتباطات مع الظالمين والسيئين.
((وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ، مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ))
إذا كان ما يشدك إليهم ما عُرِفوا به من الخبرة والتجربة في مواقع المسؤولية، فأنت واجدٌ من هو خيرٌ منهم، ومن هو سليمٌ من سلبياتهم، وسيئاتهم، ومساوئهم، ليس متلوِّثاً بالجرائم والمفاسد، وغارقاً في الآثام، تجد من يمتلك حسن التدبير، والإصابة في الرأي، وحسن التصرف، والقدرة على الإنجاز العملي، هناك من يتوفر، مثل هذا النوع كثير، قد يكون الإنسان إمَّا بسبب معرفته المحدودة يجهل الكثير من هذا النوع، ولكن يمكن أن يكون هناك آليات عملية تساعد على معرفة هذا النوع من الناس، الذي يمتلك مع الخبرة نظافة الماضي، ليس ملوثاً بالجرائم، بالمفاسد، بالآثام، بالمساوئ.
((مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ)): يمتلك حسن التدبير، والإصابة في الرأي، وحسن التصرف، والقدرة الإدارية، والقدرة على الإنجاز العملي ((وَنَفَاذِهِمْ)).
((وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ، وَأَوْزَارِهِمْ، وَآثَامِهِمْ))
ليس ملوثاً بالمفاسد، والمظالم، والجرائم، والأشياء السيئة، بكل ما لها من تبعات، بكل ما لها من تأثيرات سيئة في نفس الإنسان، في أعماله، في منطلقاته، في توجهاته، في سمعته في أوساط المجتمع.
((وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ، وَأَوْزَارِهِمْ)): ليس محملاً بتلك الأحمال السيئة، بذلك الماضي السيء، بذلك الرصيد السيء الملوث، الذي له تبعات، له تأثيرات حتى في واقع الناس، الناس يتذكرون عنه ما فعله بهم من المظالم، ما ارتكب بحقهم من الجرائم، ما فعله تجاههم من التصرفات السيئة… إلى غير ذلك.
((وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ، وَأَوْزَارِهِمْ، وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلَا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ))
لم يشترك ويباشر المظالم والمفاسد والجرائم، نزيه عن ذلك، ليس له رصيد إجرامي يذكر به ويعرف به.
((أُولَئِكَ)): هذا النوع النظيف، الذي ليس ملوثاً بالجرائم والفظائع.
((أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً))
ليسوا ثقلاً عليك، لا من حيث تشويههم، ولا من حيث طريقتهم في العمل؛ لأن النوع الذي قد تلوث بالجرائم، والظالم، والمفاسد، وفسدت نفسيته، وفسدت منطلقاته وأهدافه، يتحرك عندما يؤدي عملاً معيناً وهو مركز على المكاسب الشخصية، والطلبات الشخصية، والأهداف الشخصية، وأيضاً ليس أداؤه أداءً سليماً ونظيفاً؛ لأنه تعود على طريقة سلبية في العمل مشوبة بالشوائب السيئة، ليست طريقة سليمة نظيفة، فيها الشوائب التي اعتاد عليها، من الابتزاز المالي، من الاستغلال الشخصي، من الأداء الذي هو ملوث، بما قد اعتاد عليه في كل ماضيه، فهي مسألة سلبية.
أمَّا النوع النظيف فهو أخف عليك مئونة، أداؤه هو أداءٌ سليم غير ملوث، وليس ثقيلاً عليك، بالطلبات، والأهداف، والمكاسب الشخصية، والميزانيات الضخمة، التي قد اعتاد على أن يربطها بمكاسب، ومصالح… وغير ذلك.
((وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً))
لأن معونته بصدق، وإخلاص، ونقاء، وجد، واهتمام.
((وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً))
لأنه حريصٌ على نجاحك، ويتفهم ظروفك، ويشاطرك همك، ويتألم لألمك، قريبٌ منك في الاهتمامات، في التوجهات، في الموقف، في العمل.
((وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً))
ليس له ارتباطات وولاءات بعيدة هناك، وبالتالي تؤثر عليه سلباً في أدائه العملي؛ لأنه من واقع تلك الولاءات والارتباطات البعيدة قد يسعى لإفشالك أصلاً، قد لا يريد لك النجاح.
أمَّا هذا النوع النظيف، فهو بعيدٌ عن هذه الارتباطات، وبالتالي هو ارتباطه بك، ويحرص على نجاحك.
((فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً))
هذا النوع النظيف، الصالح، المستقيم.
((فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلَاتِكَ))
اجعل منهم هم الذين تعتمد عليهم اعتماداً أساسياً، اجعل منهم الخاصة:
(في خلواتك): يعني: في اجتماعاتك الخاصة، التي تدرس فيها الأمور المهمة، والأمور الحساسة، والأعمال الأساسية، والقضايا التي تحتاج إلى اهتمام خاص.
(وَحَفَلَاتِكَ): في مناسباتك العامة، في القضايا الكبرى.
فمثل هذا النوع النظيف، الناصح، الصادق، الذي يمتلك حسن التدبير، إصابة الرأي، مع الإخلاص، مع الصدق، مع النزاهة، هم من يمكن أن تعتمد عليهم في الأمور المهمة والحساسة، والمهمات ذات الخصوصية في كونها حساسة، أو مهمة جداً، أو غير ذلك، وفي الأمور البارزة، والحفلات والمناسبات العامة، والقضايا الشاملة.
((ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ))
ليكن الآثر عندك، والأقرب منزلةً إليك، والأكثر اعتماداً من بينهم، هو الأنطق بالحق، في كل الحالات، في كل المواقف، في كل الأمور، الأنطق بالحق، الذي يقول لك الحق في كل الأحوال، حتى لو كان مراً، حتى لو كان لا يعجبك بحسب مزاجك الشخصي؛ لأن هذا هو الأنصح، هو الأصدق معك، عندما يقول لك الحق في كل الأحوال، ليس مشغولاً بأن يجاملك في بعض الأمور، فلا يقول لك الحق؛ من أجل مراعاة مشاعرك ومزاجك الشخصي.
((وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ، مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ))
لأنه الأكثر حرصاً على أن تكون الأمور وفق ما يريد الله “سبحانه وتعالى”، ومعنى هذا: أنه الأنصح، والأصدق؛ لأن المعيار عنده معيارٌ إيماني، قائمٌ على أساس تقوى الله “سبحانه وتعالى”، والإخلاص لله، والصدق مع الله “سبحانه وتعالى”، فلذلك هو الجدير بالثقة به أكثر، والاعتماد عليه أكثر؛ لأن البعض من الناس مثلاً قد يعجبه الأكثر مجاملةً، والأكثر مسايرةً معه، ممن يوافقه في كل شيء، في كل رأي، في كل تدبير، في كل قرار، في كل موقف، بغض النظر عن صوابيته، أو عدم صوابيته، يسايره ويجامله في كل شيء، فيرتاح له؛ بينما قد يستاء ممن يصدق معه، في الأمور التي هو فيها خاطئ ينبهه، هذه من المحبة، هذه من دلائل الإخلاص والصدق، عندما يصدق معك في كل الأحوال، في كل الأمور، ويحرص عليك أن يكون عملك وفق ما يرضي الله “سبحانه وتعالى”، وأن تكون بعيداً عمَّا كره الله لأوليائه، عن الأعمال السيئة، عن الأخطاء، التي لها تأثيرها السلبي ما بينك وبين الله “سبحانه وتعالى”.
((وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ))
لا تركز على مزاجك الشخصي، وتجعله هو المعيار والمقياس في مسألة القرب منك، وفي مسألة الثقة والاعتماد على محيطك العملي، وعلى أعوانك، والذين تعتمد عليهم في موقع المسؤولية.
((وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ، وَلَا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ))
أهل الورع والصدق، الورع عن محارم الله “سبحانه وتعالى”، وعن الشبهات، والصدق: الذين يصدقون فيما يقولون، ويصدقون فيما يقدِّمون، يصدقون فيما ينقلون، الصدق هو صفة لازمة لهم، هاتان الصفتان مهمتان جداً جداً في أداء المسؤولية؛ لأن أهل الورع هم الأمناء، الذين يؤتمنون ويوثق بهم كل الثقة، الورع عن محارم الله في كل شيء: في الجانب المالي، في جانب الإمكانات، الورع في كلامهم، فيما ينقلون، في أدائهم للمسؤولية، يحذرون من المحارم، يحذرون من الحرام، يحذرون حتى مما فيه شبهة الحرام، فهم أهل تحرٍ، وأهل انتباه، ليسوا جريئين ولا مبالين، يتصرفون كيفما كان، في الأمور المالية، أو في الأمور العملية، أو في القرارات، أو في التصرفات.
الورع من أهم المواصفات الإيمانية التي لها أهمية كبيرة فيما يتعلق بالمسؤولية، والصدق كذلك، فيعتبر الصدق والورع من أهم المواصفات التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في الاختيار، في الاهتمام، في الثقة، في الاعتماد، وفي التربية على ذلك، وفي التربية على ذلك، هذا جانبٌ مهم، هذا النوع هم من تَعتَمد عليهم اعتماداً كبيراً وأساسياً، ولهذا أتى بعبارة: ((وَالْصَقْ))، أَكْثِر من مخالطتهم، تعتمد عليهم بشكلٍ أساسي، ((بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ)).
((ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ))
عَوِّدهم على ألَّا يكثروا من المدح لك، أولاً لتلحظ فيهم أن يكونوا أهل ورع وصدق، ثم تلحظ معهم ذلك، ألَّا يكثروا من مدحك، هذه مسألة مهمة جداً.
((وَلَا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ))
لا ينسبوا إليك أعمالاً، أو إنجازات، لم تفعلها أصلاً؛ ليتقرَّبوا إليك بذلك.
((فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ))
كثرة المديح لها تأثيرات سلبية على نفسية الإنسان، وعلى مشاعره، فهي ((تُحْدِثُ الزَّهْوَ))، يعني: العجب بالنفس، ((وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ))، وهذه العزة غير العزة الإيمانية، التي قال الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، المقصود هنا عزة الكبر، وأَنَفَة الكبر، التي تلازم حالة العجب والغرور، وهي حالة خطيرة جداً، والعجب، والغرور، والكبر، والأَنَفَة، من أسوأ الخصال التي تفسد نفسية الإنسان بشكلٍ كبير، وخطير على الإنسان.
ولذلك في موقع المسؤولية لا يعوِّد الإنسان نفسه، ولا يعوِّد الآخرين على كثرة المديح، وعلى الرغبة في المديح والإطراء، هذه مسألة خطيرة على نفسية الإنسان؛ لأن الإنسان المؤمن حقاً هو يحمد الله “سبحانه وتعالى” على كل ما وفَّقه له، وهو يعتبر أنَّ كل نجاحٍ في أدائه لمسؤوليته، وأي إنجازٍ يتمكَّن من تحقيقه، إنما هو بتوفيق الله “سبحانه وتعالى”، وبفضل الله “سبحانه وتعالى”، فهو يحمد الله على ذلك، وهو يشعر في أعماق قلبه بالفضل لله عليه، هو عند الإنجاز.
وعند النجاح، لا يتجه في تفكيره ومشاعره نحو نفسه، بأنه هو شخصياً منبع ذلك النجاح، وأساس ذلك الإنجاز، هو يعرف حقيقة أمره، حقيقة نفسه، هو إنسانٌ عاجزٌ ضعيف، الإنسان هو مصدر العدم، مصدر اللا شيء، هو مفتقرٌ في كل شيءٍ إلى الله “سبحانه وتعالى”، مفتقرٌ في كل نجاح، في كل توفيق؛ ولذلك نحن نحمد الله “سبحانه وتعالى”، نعتبر كل الحسنات، كل الإيجابيات، كل النجاحات، كل الأشياء الجيدة في الحياة، مصدرها الحقيقي هو الله “سبحانه وتعالى”، وليُّ كل نعمة، ونحن مصدر العجز، مصدر الضعف.
فالإنسان المؤمن هو يعي هذه الحقائق، وهو يؤمن بها، هو يؤمن بها من أعماق قلبه، لديه هذا الوعي، لديه هذه المعرفة، هذا الشعور، ولهذا يصف الله عباده المؤمنين بصفة من أهم مواصفاتهم، فيقول عنهم: {الْحَامِدُونَ}[التوبة: من الآية112]، {الْحَامِدُونَ}؛ لأنها صفة لازمة لهم عند كل نعمة، كانت نعمةً مادية، أو نعمةً معنوية، أو نجاحاً في عمل، أو إنجازاً لمهمة، أو أداءً لمسؤولية… كل أشكال النعم، يحسبون المنَّة لله عليهم فيها؛ لأنه هو الموفِّق، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}[هود: من الآية88]، هذا قول نبيٍ من أنبياء الله، نبي الله شعيب “عليه السلام” قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}، لا يمكن أن أتوفق في أي شيءٍ إلَّا بالله “سبحانه وتعالى”.
والمؤمن هو يحمل الشعور بالتقصير مهما كان إنجازه، لا يزال يعتبر نفسه مقصِّراً، ولا يزال يدرك جوانب النقص فيه، وهذه مسألةٌ مهمة، عندما نجد الله في القرآن الكريم يوجِّه رسوله “صلوات الله عليه وعلى آله”، الذي حقق- بتوفيق الله له- أكبر الإنجازات في كل تاريخ البشرية، في الماضي وفيما يلحق ما بعد ذلك، في الماضي والحاضر والمستقبل، ما قبله، وفي وقته، وما بعده، أعظم رجلٍ وصل إلى أعلى المراتب الأخلاقية والإيمانية والمعرفية، وقام بدورٍ عظيمٍ جداً، الله “سبحانه وتعالى” يأمره بالاستغفار: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: من الآية19]، يقول له : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1-3]، في قمة الإنجاز: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}، وإنجازٌ عظيم، أكبر إنجازٍ يمكن أن يتحقق هو هداية الناس، أكبر إنجاز، في ذروة الإنجاز يقول له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}.
الكثير من الناس في حالات الإنجاز يستغرقون على مستوى التفكير في التسبيح بحمد أنفسهم، يفكِّرون في أنفسهم أنهم عباقرة، أنهم حققوا النجاح، أنهم حققوا الإنجاز، ويذوبون في ذلك، وهم مستغرقون في مديح أنفسهم، وفي العجب بأنفسهم، وفي الارتياح لأنفسهم، ويرغبون من الآخرين أن يذوبوا في ذلك، أن يكون كل شغلهم الشاغل أن يمدحوهم، أن يثنوا عليهم، أن يبجِّلوهم، أن يتحدثوا عنهم ليل نهار، وأن يسبحوا بحمدهم بكرةً وأصيلاً.
لكننا نجد أنَّ الله يقول لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله” عند أعظم إنجاز: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، بدلاً من أن تسبح بحمد نفسك، استغرق في التسبيح بحمد الله “سبحانه وتعالى” في ذهنك، وتفكيرك، ووجدانك، ولسانك.
هذه هي تربية الإيمان، التي تعلِّم الإنسان من هو صاحب الفضل الحقيقي، هو: الله “سبحانه وتعالى”؛ ولذلك فالإنسان بهذه التربية الإيمانية ليس منتظراً من الناس المديح على كل إنجاز، على كل عملٍ يؤدِّيه، على كل مسؤوليةٍ يقوم بها، ينتظر منهم دائماً المديح والإطراء، ثم يجعل ذلك معياراً للقرب منه، وللعلاقة به، من لا يجد فيهم كثرة الإطراء، وكثرة المديح؛ ينفر منهم، لا يحبهم، لا يعجبونه، ومن يكثرون من مدحه، والثناء عليه، والتملق له؛ يرتاح لهم.
يتحول هذا إلى معيار، في مستوى العلاقة بالناس، وفي قياس مدى صدقهم معه، ومدى نصحهم له، يمكن أن يكون البعض من أصدق الناس معك، ومن أكثرهم حرصاً عليك، ومن الأوفى معك في كل الأحوال، في كل الظروف، وإن لم يكونوا هم الأكثر مديحاً، الأكثر ثناءً، الأكثر إطراءً، معيار صدقهم معك: عندما يَصدُقون معك في كل الأحوال، يقولون الحق، يقفون معك الوقفة الصادقة، حتى في الظروف والتحديات الصعبة.
((ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ))، لتحافظ أنت، اسْعَ لأن تحافظ أنت على واقعك النفسي لا يتأثر سلباً، ((وَلَا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ)): العجب بالنفس، وهي حالة خطيرة جداً، ومن أكثر الناس عرضةً لحالة العجب والكبر، من هم في مواقع المسؤولية، وبالذات إذا وفِّقوا لإنجازات معينة، أو يقال لهم دائماً أنهم أصحاب الإنجازات الكبرى، والعظيمة، والتاريخية.
((وَلَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ))
مع الرحمة الحكمة، لا تكن حالة الرحمة حالةً عامة، تجعل فيها واقع الناس بمنزلةٍ سواء، حتى لو كان هناك من هو مسيء، تعامله وتنظر إليه كمثل المحسن، من الحكمة ومن العدل أن تفرِّق بين المحسن والمسيء، سواءً في محيطك العملي، وفي الواقع العملي في إطار المسؤولية، من هم من المسؤولين، من هم من الأعوان، من هم ممن تعتمد عليهم في المهام العملية، أو في واقع المجتمع، وهذا يشمل الجوانب المختلفة، مثلاً: تفعيل مبدأ الثواب والعقاب؛ للتفريق بين المحسن والمسيء، في مسألة المنزلة، والقرب، والاحترام، والتعامل، هناك فرق ما بين المحسن والمسيء؛ بالتالي يبنى على ذلك في هذه الأمور:
في تفعيل مبدأ الثواب والعقاب.
في التعامل.
في المنزلة.
في الاحترام.
يكون هناك تفريق بين المحسن والمسيء، إذا لم يكن هناك تفريق بين المحسن والمسيء؛ فهذا فيه كما قال “عليه السلام”:
((فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ))
يرى أنَّ إحسانه ليس له قيمة، ليس له أهمية، وأنه سواءً كان محسناً أو مسيئاً الحال واحد.
((وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ))
تشجيعاً لهم على إساءتهم؛ لأنه لم ير ما يزجره، ويرى أنك تعامله كمثل ما تعامل المحسن.
((وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ))
ألزم كلاً منهم مسؤولية عمله؛ ليتحمل تبعات ونتائج عمله، هذا هو مقتضى الحكمة، ومتقضى العدل، فمع الرحمة هناك الحكمة، وهناك العدل؛ ولذلك النتيجة (نتيجة الإساءة) وعواقبها بحسبها، ونتائج الإحسان وثمرته وعاقبته بمستواه.
فهذه مسألة مهمة جداً في الواقع العملي، في سياسات العمل، في طريقة التعامل، سواءً مع المسؤولين، مع العاملين، فَرِّق بين المحسن والمسيء فيما يتعلق بالإجراءات، في الجزاء، في تفعيل مبدأ الثواب والعقاب، وأيضاً في واقع المجتمع كذلك.
((وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ، فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ))
العلاقة ما بينك وبين من هم في نطاق مسؤوليتك، يجب أن تكون علاقةً إيجابية؛ لأنك لست في موقع الخصومة لهم، ولا العداوة لهم، أنت تتحمل مسؤوليةً تجاههم، لخدمتهم، للاهتمام بأمرهم، لنظم شأنهم، للاهتمام بأمورهم، فالعلاقة بينك وبينهم يجب أن تكون علاقةً إيجابية، من جانبك، ومن جانبهم، بدءاً بمشاعرك نحوهم، أن تكون مطمئناً تجاههم.
كيف تتوفر هذه الحالة من الاطمئنان إليهم، من حسن الظن بهم؟
هذا يعود إلى إحسانك إليهم، عندما تكون محسناً إليهم، صادقاً معهم، تعمل لخدمتهم بشكلٍ واضح، بجدية تامة، بصدقٍ وإخلاص، فلهذا أثره حتى في مشاعرك نحوهم، أنت تتوقع منهم الانطباع الإيجابي، تجاه إحسانك إليهم، تجاه اهتمامك بأمرهم، تجاه صدقك في أداء مسؤولياتك نحوهم، تتوقع منهم أن يكونوا إيجابيين؛ لأنك تتجنب ظلمهم، تحسن إليهم، تترك تكليفهم ما فيه المشقة البالغة عليهم، أو ما ليس لهم قدرةٌ عليه، سواءً في التزامات مالية، أنت لا تحمِّلهم من الالتزامات المالية ما لا طاقة لهم به.
أو في الجوانب العملية لا تحملهم في الجانب العملي ما لا يقدرون عليه، ما لا يطيقونه، فأنت تحسن إليهم، وتتجنب مثل هذه المعاملات القاسية جداً تجاههم ومعهم، فأنت تتوقع منهم أن يكونوا إيجابيين نحوك، فلذلك فأنت في مشاعرك مطمئنٌ إليهم، وتحسن الظن بهم، وتتوقع منهم أن يكونوا سنداً لك، وعوناً لك، في أداء مسؤولياتك نحوهم، وأن يكونوا كذلك واعين، وغير متجاوبين، غير مستجيبين ولا مائلين ممن يريد أن يخرِّب هذا الواقع الإيجابي، أن يسعى للفرقة، أن يسعى لإثارة الفتن، أن يسعى لتأليبهم عليك؛ لأنه معقد مما تقوم به من دور، أو يعاديك، وهو خصمٌ لك، فأنت تتوقع منهم ألَّا يستجيبوا له؛ لأنهم يعرفون نصحك وصدقك، ويلمسون إحسانك، ويلحظون اهتمامك، وبالتالي فأنت مطمئنٌ إليهم، بقدر ما أنت محسنٌ إليهم، وتترك الإساءة والإثقال عليهم بما ليس لهم به طاقة.
((فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً))
حسن الظن له تأثيره الإيجابي في أن يخفف عليك الكثير من الإجراءات الاحترازية، الناتجة عن مخاوفك منهم.
متى تكون الحالة السائدة هي حالة المخاوف والقلق؟
عندما تكون مقصراً نحوهم، أو مسيئاً إليهم، أو مثقلاً عليهم، وغير مهتمٍ بهم، حالة التقصير نحوهم، الإهمال لهم، التفريط في أداء المسؤولية كما ينبغي تجاههم، الإساءات والإشكالات المتكررة معهم، هي الحالة التي تبعث عندك حالة الخوف والقلق، في أنه يمكن أن يستميلهم العدو، أن يستقطبهم العدو، أن يحركهم العدو، أن تثار في أوساطهم الفتن، وهذا قد يدفع بك إلى أن تكلف نفسك بالكثير من الإجراءات الاحترازية: على المستوى الأمني، على المستوى العسكري…
على مستويات متعددة تثقلك، تزعجك، تقلقك، ويكون لها تأثير سلبي عليك، وتكلفك أيضاً، فالكلفة التي ستتحملها بالاحتراز على المستوى العسكري، وعلى المستوى الأمني، وعلى مستوى الاحتياط، والانتباه، والحذر، والقلق، والتوتر… وما يرتبط به من إجراءات واحترازات وكلف، الأفضل أن يتجه نحو الإحسان إليهم، فهو أجمل، وأسمى، وأرقى، وله تأثيره الكبير في أن يكونوا هم أعوانك وأنصارك، وأن يقفوا معك، وأن يتصدوا هم للناس السيئين، للناس الذين يسعون إلى إثارة الفتن، للناس الذين يعملون لصالح الأعداء، هذا من الحكمة، وهو الأوفق أيضاً لما يرضي الله “سبحانه وتعالى”، وللأثر الطيب للعمل، ولأداء المسؤولية بشكلٍ صحيحٍ وبشكلٍ ناجح.
((فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً)): يكفيك المتاعب الكثيرة، والمشاكل الكثيرة.
((وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ))
فأنت تكون حسن الظن، وأكثر اطمئناناً، إلى من أحسنت إليه أكثر، وتكون أكثر قلقاً وتوتراً وسوء ظن بمن أسأت إليه، أو قصرت تجاهه وأهملت حقوقه، وهذه حكمة مهمة جداً، وسياسة راشدة في أداء المسؤولية.
((وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ الاُْمَّةِ، وَاجْتَمَعتْ بِهَا الاُْلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ، ولَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيء مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا))
البعض مثلاً قد يأتي تحت عنوان التغيير (نريد أن نغير)، فيريد أن يغير كل شيءٍ من الماضي، ولا يفرق بين ما هو شيءٌ إيجابيٌ ومفيدٌ ونافعٌ، ينبغي الحفاظ عليه، وبين ما هو سيء وسلبي، وهناك ما يقتضي فعلاً بمعيار الحق والعدل والحكمة والصالح العام تغييره، لا، يريد أن يغير كل شيء، فهذا أسلوب خاطئ: التغيير لكل شيء.
ما كان من موروث الماضي، سواءً من الأعراف، والتقاليد، والموروث الثقافي، والموروث الفكري، والموروث المتعلق بالواقع التنظيمي للناس، أو المتعلق بالمصلحة العامة، وهو حق، وفيه خيرٌ للناس، قد اجتمعت به الألفة، صلحت عليه الرعية، استقام به حال الناس في أي مجال من المجالات، فلا داعي لتغييره، بل ينبغي الحفاظ عليه؛ لأن الناس يحتاجون إلى وقت حتى يتعودوا على الشيء، يستمرون عليه، يألفونه، ينسجمون معه، وحتى يصبح عادة، وعندما يصبح عادة يصبح أمراً ميسوراً، مقبولاً، مستساغاً، يستمر عليه الناس بشكل طبيعي، وهذه إيجابية كبيرة، فلذلك مسألة التغيير لا تتجه نحو كل شيء، حتى نحو الأشياء الإيجابية، التي استقام بها حال الناس، انتظمت بها حياتهم، استقرت بها حياتهم، وهي حق، وهي خير، وهي مصلحة عامة في أي مجال من المجالات، لا يتجه التغيير نحوها.
((وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ))
لا تفكر لوحدك، وتقتصر على ما تفكر به أنت، وعلى ما تخطط به أنت، استفد من الآخرين:
استفد أولاً من العلماء: وهذا يشمل العلماء في كل التخصصات، مثلاً: العلماء في علوم الشرع، العلماء في العلوم الطبيعية في تخصصاتهم؛ لأنك تدير واقع الناس بشكلٍ عام، فاستفد من كل ذوي المعرفة، من كل ذوي التخصص، الذين يمكن من خلال توجيه اهتماماتهم، وطاقاتهم، ومعارفهم، نحو ما يصلح واقع المجتمع، نحو ما تقوم به الحضارة في كل مجالاتها، ((فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ)).
وأيضاً الحكماء: من ذوي الرأي، الإصابة في الرأي، وحسن التدبير، والتجربة التي استفادوا منها الكثير من صواب الرأي، من التدبير الحسن، فذوي الحكمة- بما تعنيه الحكمة: الإصابة في الرأي، والسداد في الرأي، وحسن التدبير، نتيجةً لتجاربهم في الحياة، لتجاربهم في الواقع، وحسن نظرهم في الأمور، صوابية آرائهم- استفد منهم.
فأكثر مدارسة العلماء، وأكثر أيضاً مناقشة الحكماء، في الشأن العام، في أمور الناس، في نظم شؤونهم، في الأمور التي تتعلق بها مسؤوليتك نحو الناس، هذه مسألة مهمة.
((فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ))
ما يصلح به واقع البلاد في كل مجال من المجالات: المجالات الاقتصادية، المجالات السياسية، المجالات… كل المجالات المهمة، وفي استقامة أمر الناس وشؤونهم، وإقامة العدل وتحقيقه، وإصلاح واقع الناس.
هذه مسألة مهمة، وتتطلب أيضاً في مثل زمننا هذا إصلاح الواقع التعليمي؛ ليؤدي هذا الدور، وربط الواقع التعليمي بواقع الناس، بشؤون الحياة، بمجالات الحياة؛ لأن هناك انفصال كبير بين الواقع التعليمي وبين واقع الحياة، ولهذا تجد مثلاً واقع الجامعات، والمدارس، والمناهج الدراسية، والنخب التعليمية، هي هناك على جانب، وواقع الناس في جانبٍ آخر.
يفترض أولاً إصلاح الواقع التعليمي، وربط الواقع التعليمي بشؤون الحياة؛ حتى يثمر ثمرته، ويؤدي دوره بشكلٍ فاعل، وبشكلٍ صحيح، وتكون مخرجاته مخرجات رائدة في ميدان الحياة، مخرجات رائدة، تؤدي دورها في واقع الحياة بنجاح، بشكلٍ صحيح، بمعرفةٍ صحيحة، بعلمٍ نافع، فتؤدي دورها الإيجابي في واقع الحياة.
فنجد في هذه التوجيهات، وفي هذه التوصيات:
بدءاً من مسألة المستشارين، والأعوان الذين يعتمد عليهم، فيكونون هم أصحاب رصيدٍ نظيف، وسيرةٍ حسنة، مع حسن تدبيرهم، وحسن إدارتهم، وإنجازهم للأعمال، وحسن ولائهم، كما قال: ((أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً))، ممن يوثق بهم، ويعتمد عليهم، فيكون الاعتماد عليهم بشكلٍ أساسي.
وكذلك في داخلهم من كان متميزاً أكثر في ورعه وصدقه.
في التفريق بين المحسن والمسيء.
في العلاقة مع المجتمع، مع من هم في نطاق مسؤوليتك، العلاقة الإيجابية المبنية على حسن الظن، من خلال حسن التعامل.
وفي الحفاظ على العادات والسنن الإيجابية في المجتمع، والأشياء الإيجابية، والتي فيها مصلحة عامة، وفيها خيرٌ للناس.
وفي مسألة الاستفادة من الكوادر العلمية والحكيمة في أداء المسؤولية، وفي التدبير والتخطيط وغير ذلك.
كل هذه أمورٌ مهمة، وإرشاداتٌ نحتاج إليها بشكلٍ كبير في أداء المسؤولية.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛