لم يحتج السيد نصرالله في خطابه إلى بذل كثير من الجهود، لإظهار السبب الرئيس، الذي يشرح موقف المقاومة الرافض لقيام “إسرائيل” باستخراج الغاز من المنطقة الجنوبية.
لم يكن خطاب الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله الأخير عادياً، حين تكلم عن موقف المقاومة وخياراتها في مواجهة ما تقوم به، أو ما تعد له “إسرائيل”، من إجراءات تقنية وغير تقنية، لاستخراج الغاز من حقل “كاريش” البحري الحدودي بين لبنان وفلسطين المحتلة. هذا الحقل قد يصبح قريباً، الأشهر عالمياً من دون منازع، مع إمكان تطوّر الأحداث في محيطه القريب والبعيد أيضاً.
وخصوصاً أنه يواكب هذه الأيام أزمة غاز وطاقة عالمية، على خلفية الحرب في أوكرانيا وتبعاتها المهولة، لناحية جنون أسعار الطاقة والتضخّم المتسارع في أغلب الدول، وما يمكن أن يرتبط بها من أزمات غذاء عالمية.
في الواقع، لقد كان خطاباً استثنائياً بكل ما للكلمة من معنى، إذ سوف يُبنى عليه كثير من النقاط المفصلية، على صعيد لبنان و”إسرائيل” والمنطقة والإقليم، وربما على الصعيد الدولي… وذلك نظراً إلى ما تضمّنه من إشارات واضحة، وضع السيد من خلالها النقاط على الحروف، لناحية موقف المقاومة وما تنوي عمله، تبعاً للمسار الذي يمكن أن يأخذه هذا الموضوع من جوانبه كافة، وخصوصاً ما يتعلّق منه بما يمكن أن تقدم عليه “إسرائيل” أيضاً، كفعلٍ بداية، وكرد فعل على رد المقاومة لاحقاً.
بداية، لم يحتج السيد نصرالله في خطابه إلى بذل كثير من الجهود، لإظهار السبب الرئيس، الذي يشرح موقف المقاومة الرافض لقيام “إسرائيل” باستخراج الغاز من المنطقة الجنوبية ومن حقل “كاريش”، وهي عملياً غير متنازع عليها مع لبنان، وعلى الرغم من مسارعة “إسرائيل” إلى إعلان أنها لم تعمل، ولن تعمل في المنطقة المتنازع عليها من “كاريش”، الواقعة شمال الخط 29، إذ إنها ما زالت موضوع تفاوض مفتوح لم يحسم حتى الآن.
ولكن بالنسبة إلى السيد نصرالله، الأمر محسوم، فالحقل يمتدّ إلى شمال الخط 29 وإلى جانبه، والغاز فيه يشكل كتلة واحدة مترابطة، فيكون هذا العمل الإسرائيلي على مستوى اعتداء كامل العناصر على سيادة لبنان وحقوقه، ما يستوجب تالياً رداً ملائماً، استناداً إلى قواعد الاشتباك القائمة بين المقاومة و”إسرائيل”، والتي جرى إثباتها في مسار طويل من المواجهات والحوادث السابقة.
حساسية الموضوع تكمن في اتجاهين الأول: أن المقاومة لا يمكن أن تتراجع عن موقفها الواضح ومعارضتها للأعمال الإسرائيلية، مهما كان توصيف هذه الأعمال، تنقيباً أو استخراجاً، خصوصاً أن السيد نصرالله كان واضحاً وحاسماً كالعادة، والعدو أكثر من يعرف مفاعيل الجِدّة في مواقف كهذه للأمين العام لحزب الله.
والثاني: هو أن “إسرائيل” أيضا،ً لا يمكنها أن تتراجع بهذه السهولة وتسحب السفينة وتوقف الأعمال في منطقة بحرية، كانت قد أعدتها منذ سنوات، من جميع النواحي القانونية، والتقنية، والفنية، والجغرافية، والاقتصادية والتجارية، بعد أن رأت أنها ليست موضع نزاع مع لبنان، الذي كان قد حدّد مناطقه البحرية رسمياً ودولياً، عبر المرسوم
6433 المرسل بحسب الأصول إلى الأمم المتحدة عام 2011، معتبراً الخط 23 (شمال الخط 29 وشمال حقل “كاريش”) حدوداً جنوبية لمياهه الاقتصادية الخالصة.
إنطلاقاً من هذه الحساسية المزدوجة بعد هذا الخطاب المفصلي، في موقف المقاومة من جهة، وفي موقف “إسرائيل” من جهة أخرى، كيف يمكن تحديد مروحة الخيارت لكل طرف؟ وهل يمكن أن نستنتج أن الأمور ستكون مضبوطة ومحكومةً ببضعة تقييدات وخطوط حمر، أم أن الأمور سائرة نحو تصعيد غير بسيط، قد يحمل تغييراً جذرياً للستاتيكو أو الوضع القائم منذ عدوان تموز 2006.
ويظهر هذا التغيير على شكل مواجهة محدودة – رمزية أو عنيفة- أو نحن أمام احتمال كبير لمواجهة واسعة، قد تتجاوز موضوع الحدود البحرية والخطين 23 و29، وتتجاوز حدود لبنان مع فلسطين المحتلة، ليكون مسرحها المنطقة برمتها، من إيران والعراق واليمن وسوريا إلى لبنان وفلسطين المحتلة، على الأقل.
لناحية المقاومة التي هدفها الرئيس منع العدو من العمل في “كاريش” (شماله أو جنوبه)، ومنعه من استخراج الغاز ثمة خيارات متدرّجة عديدة، تبدأ أو بدأت بالخطاب، الإنذار وإعلان معارضة العمل، وهذه خطوة أولى جادّة، تحمل عناصر أساسية من التحذير، بمجرد أنها صدرت عن الأمين العام لحزب الله، لتتصاعد لاحقاً نحو إجراءات عملية يسيرة.
كإطلاق نار ترهيبي خفيف قرب بقعة عمل السفينة “إنرجين باور”، على يد عناصر وحدات بحرية خاصة، تملك وسائل عدة للوصول بنجاح وبسرية إلى تلك البقعة، ويمكن أن تتصاعد هذه الإجراءات بعد مراقبة رد فعل العدو، إلى رفع مستوى التدخل بطائرة أو طائرات مسيّرة عدة، تستهدف مباشرة مكاناً قريباً من السفي
نة في رسالة واضحة، أو تستهدف إحدى زوايا السفينة بطريقة غير مؤذية أو غير محدِثةٍ أضراراً، وأيضاً في رسالة أكثر جدية من سابقاتها، لتصل هذه الإجراءات، إذا لم تستجب السفينة وتنسحب أو لم تستجب “إسرائيل” لسحبها، إلى مستوى أكثر تأثيرًا، قد يصل إلى العاملين والبحارة أنفسهم، بهدف منعها من متابعة أعمالها ودفعها إلى الانسحاب جنوباً، مع إمكان تطوّر الإجراءات إلى إطلاق صواريخ ساحل – بحر، نوعية ودقيقة، لا ضرورة لذكر مميزاتها التي تعرفها “إسرائيل” جيداً منذ عدوان تموز 2006.
أما لناحية “إسرائيل”، فلعل أكثر الخيارات احتمالاً أمامها هو التراجع عن الأعمال، التي أصبحت غير آمنة بتاتاً، وهي لديها مروحة واسعة لتغطية هذا التراجع لكي لا تظهر منكسرة معنوياً، تبدأ برمي الموضوع على السفينة، التي سوف تنسحب خوفاً على عمالها ومنشآتها التشغيلية، على أساس أنها غير مستعدة لتتعرّض للخطر والعمل في ظروف غير مؤاتية من الناحية الأمنية والعسكرية.
ثم تذهب “إسرائيل” إلى التراجع الجزئي، معلنةً وقف العمل في كل جهات “كاريش”، المتنازع عليها، وغير المتنازع عليها، مع بقاء السفينة مكانها في انتظار نتيجة المفاوضات، بعد تدخّل الموفد الأميركي هوكشتين، الذي أعلن نيته القدوم قريباً إلى لبنان لمحاولة العثور على حل ملائم.
وفيما خص مرحلة خيارات “إسرائيل” الأكثر حساسية، فهي تبدأ من رفضها الانصياع وعدم القبول بسحب السفينة ووقف الأعمال، وهنا يمكننا القول إننا انتقلنا إلى مرحلة المواجهة والاشتباك لكون المقاومة لن تتراجع أمام هذه الحال من الرفض والتعنّت الإسرائيلي، وستبدأ عملها العسكري الحسّاس والمختلط بين إطلاق المسيّرات وإطلاق الصواريخ أو الاثنين معاً.
وفي حالة الدخول في تلك المواجهة، لن تكون خجولة، إذ من المفترض حينذاك أن تكون حاسمةً، وعلى مستوى الاشتباك، الذي لن يتوقف حتماً على السفينة المدنية، التي سوف تنسحب حينئذ ومباشرة بعد نشوب المواجهة، بل سوف يمتدّ إلى سفن وقطع الحماية والتدخل التي سوف يشركها العدو حتماً في بقعة الاشتباك ومحيطها القريب والمتوسط.
في هذه الحالة، التي سوف نصل إليها حتماً بعد أن تؤكّد “إسرائيل” أنها لن تقبل بوقف الأعمال وبأنها ماضية في متابعة التحدي، يصبح وارداً، وبنسبة كبيرة، توسّع وتدحرج المواجهة إلى الحدود البرية، ومن الطبيعي أن “إسرائيل” سوف تعمد إلى استهداف عاجل لأهداف معدّة سلفاً، تشكل أفضلية أولى في بنك أهدافها الجاهز في لبنان.
في مقابل إجراء مماثل للمقاومة، لن يقتصر أيضاً على مناطق أو مواقع حدودية مباشرة داخل الجليل أو أبعد قليلاً، بل سوف يكون مناسباً ومتوائماً مع مسار الاستهداف الإسرائيلي، وبين الاستهداف الإسرائيلي القاسي للبنان، والاستهداف الدقيق والموجع من قبل المقاومة للعمق الإسرائيلي، سوف ندخل في أتون المواجهة الواسعة الشاملة، التي كان الجميع حتى الآن يتهرّب منها أو يتجنّب الدخول فيها.
وبينما تبقى محاذير هذه المواجهة قائمة وبقوة، نظراً إلى ما تحمله من تبعات مدمّرة وواسعة، ظلّت “إسرائيل” تخشى الوصول إليها حتى ما
قبل الأمس أو قبل الخطاب الفصل للأمين العام لحزب الله، حيث كانت نسب وقوع هذه المواجهة وعدم وقوعها متساوية، ويمكننا القول، وبكل حذر وخشية، بوجود مسار الاشتباك البحري المعقد -كما يبدو- وبوجود العناد الإسرائيلي والإصرار على متابعة الأعمال، ومع خطر وحساسية الأجواء الإقليمية والدولية حالياً، يمكننا القول إن الأجواء تبدو مؤاتية لتدحرج الأمور والمواجهة الواسعة.
وهذا فضلاً عن الموقف المعقد بقوةٍ داخل فلسطين المحتلة، ومستوى التوتر غير المسبوق بين إيران و”إسرائيل” الذي تطوّر إلى مواجهات عدة مباشرة، حصلت عملياً، بشكل علني أو بصورة مخفية، إلى تأزم مسار الاتفاق النووي مع إيران كما يبدو.
مع كل ذلك، أصبح من الممكن القول: إنّ نسبة حدوث مواجهة واسعة في المنطقة بدأت تتغلب على نسبة انتفاء حصولها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
شارل أبي نادر