الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا لم تعد محلّ مفاجأة لدى دمشق وطهران وموسكو، إذ إنّ الخبراء العسكريين السوريين، ناهيك بالروس، باتوا، ومن خلال تحليل حركة طيران استطلاع العدو، يتوقعون الهجوم ويستعدون له قبل ساعات من حدوثه.
تأخذ الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السوريّة في الآونة الأخيرة أبعاداً جديدة في الشكل والمضمون، إذ تمادى العدو مؤخراً في اعتداءاته على أكثر من مستوى، سواء في نوع الصواريخ المستخدمة في الهجوم، أو الممرّات الجويّة التي تسلكها الطائرات المغيرة وتتّخذها نقاطاً للاعتداء، أو نوع المواقع المستهدفة على الأرض السوريّة، كذلك تقصُّد أكبر قدر من التحدّي والاستفزاز المباشر لدمشق وحلفائها، وعلى رأسهم روسيا وإيران.
في الثالث عشر من هذا الشهر، قطعت الطائرات الإسرائيلية مسافةً لا بأس بها فوق البحر المتوسط، لتقف في نقطة بحريّة قريبة مقابل قاعدة “حميميم” الروسية على ساحل البحر، وأطلقت صواريخها باتّجاه مواقع سوريّة في محيط مدينة مصياف في الريف الحمويّ.
الجديد هنا هو الممرّ الجويّ الذي يُستخدم لأوّل مرة كنقطة للاعتداء ورمزيّته بالنسبة إلى موسكو تحديداً، إذ يقوم الطيران الروسي بطلعاته على مدار الساعة حول القاعدة العسكرية، وكان من المحتمل أنْ تتعرّض تلك الطائرات لحوادث جويّة نتيجة الاعتداء الإسرائيلي أو التصدّي السوريّ، مثلما حدث في أيلول/سبتمبر من العام 2018، حين جرى إسقاط طائرة روسية كانت موجودة داخل النطاق الجوي للاعتداء والتصدّي، وهو أمر مقصود تماماً إسرائيليّاً، حتى لو كانت “تل أبيب” أبلغت موسكو مسبقاً بالهجوم.
وعلى هذا الصعيد تحديداً، لم تعد الاعتداءات الإسرائيلية محلّ مفاجأة لدى دمشق وطهران وموسكو، إذ إنّ الخبراء العسكريين السوريين، ناهيك بالروس، باتوا، ومن خلال تحليل حركة طيران استطلاع العدو، يتوقعون الهجوم ويستعدون له قبل ساعات من حدوثه.
الجديد هنا أيضاً هو المدى الزمني للاعتداء الإسرائيلي، إذ استمر اعتداء 13 أيّار أكثر من 40 دقيقة، وعلى شكل 4 هجمات تفصل بين الواحدة والأخرى 10 دقائق، وهي أوّل مرة تعتمد فيها قيادة العدو هذا الشكل من الهجوم، إلى الدرجة التي شعر فيها سكّان الساحل السوري بأنّ معركة جوية حقيقية وطويلة تحدث فوق رؤوسهم لا تشبه سابقاتها أبداً.
واللافت على الصعيد الشعبيّ هنا، أنّ حماسة السوريين لصواريخ رجال دفاعهم الجويّ أنستهم تماماً الشظايا التي كانت تتطاير حولهم. وفي هذا مؤشّر كبير على مدى التوق الشعبي السوريّ لمواجهة العدو الإسرائيليّ وكسر غطرسته.
وفي العشرين من هذا الشهر، أقدمت “تل أبيب” على تنفيذ هجوم آخر استهدف مواقع في ريف العاصمة السوريّة دمشق. وكما في الاعتداء الذي سبقه، فإنّ قيادة “جيش” العدو الإسرائيليّ بعثت رسائل جديدة أو مستجدة استهدفت جميع أطراف محور دمشق.
والمستجد هنا هو استهداف مباشر بصواريخ أرض – أرض من نوع “تمّوز” (وهي مخصصة لمهاجمة المواقع المحصّنة جيّداً بالإسمنت)، جرى إطلاقها من منطقة الجولان السوريّ المحتلّ، لأحد مدارج مطار دمشق الدولي، ولصالة الحجّاج في حرم المطار، وموقع قريب في منطقة “الستّ زينب” المكتظّة بالسكان والقريبة من المطار، وذلك بعد ساعات قليلة من مغادرة طائرة شحن إيرانية كانت قد حطّت في المطار صباح ذلك اليوم، وأفرغت حمولتها المكوّنة من مواد غذائية وتموينية ومعدّات صناعية، تأتي ضمن الخط الائتماني الذي جدّدته دمشق وطهران عشية زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران، في سعي من حكومتي البلدين لمواجهة الحصار الذي يتعرّض له الشعب السوريّ في الدّاخل.
يأتي استهداف مدرج المطار بعد استهداف آخر للمدرج عينه في شهر نيسان/أبريل الماضي، كرسالة إسرائيلية إلى دمشق وطهران، للقول إنّ “تل أبيب” قد تُقدم على إخراج مطار دمشق الدولي من الخدمة نهائيّاً، في حال استمرت الطائرات الإيرانية بالهبوط في المطار.
وفي تقييم وتحليل لمعاني الاعتداءات الإسرائيلية وأهدافها في الهجومين الأخيرين، يمكن استشراف الآتي:
سوريّاً
يعرف السوريون، وخصوصاً أهل المنطقة التي استُهدفت في مصياف خلال الاعتداء الأول، وفي منطقتي جمرايا والكسوة خلال الاعتداء الثاني، أنّ تلك المواقع سوريّة بحتة، ولا وجود فيها لأيّ مظاهر عسكرية إيرانية تخرج عن مستوى الخبراء المعدودين، وأنّ المستهدف هنا هو القدرات العسكرية للجيش السوريّ وقوات دفاعه الجويّ ومنصّاتها، والتي يرى العدو أنها أخذت بالتطور بشكل حثيث في السنوات الأخيرة، رغم سنوات الحرب العشر التي كان من المفترض أنْ تُنهك هذا الجيش وتُضعف قواه.
وبالتالي، يعتبر العدو أنّ اشتراك الخبرات السورية – الإيرانية في العمل على صعيد تطوير الأسلحة الصاروخيّة جاء بنتائج فاعلة جدّاً على هذا المستوى، وأنّ المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله) تستفيد بشكل تامّ من هذا التطوّر، ناهيك بأنّ الأسلحة السورية باتت تظهر في غزّة، وتؤثّر بشكل فاعل في أيّ عملية عسكرية إسرائيلية هناك، بل بلغت حدّ إرساء قواعد معادلات عسكريّة جديدة في الداخل الفلسطينيّ، وهذا وحده يدفع العدو إلى الجنون في وجه دمشق.
من جهة أخرى، تحاول “تل أبيب” التصعيد أمام العالم كلّه تحت عنوان “إيران في سوريا”، للقول إنّ حرس الثورة الإيراني بات يُشكّل، إلى جانب الجيش السوري والمقاومة اللبنانية، خطراً وجوديّاً على كيان الاحتلال من جهة جنوبيّ سوريا، وإنّ “إسرائيل” ماضية في دفع هذا الخطر بكلّ السبل، وعلى العالم مساعدتها في ذلك.
ولعلّ التصريحات الإسرائيلية – الأميركية – الأردنية التي صدرت مؤخّراً، وتناولت الوضع في الجنوب السوري، واخترعت موضوع الانسحاب الروسيّ من الجنوب والحلول الإيراني مكانه (وهي سرديّة لا تستند إلى أيّة وقائع)، تصبّ في هذا الاتّجاه.
كذلك، يريد الإسرائيلي القول للسوريين إنّ كل مصائبكم تأتي من حلفكم مع إيران، وإنّ معوقات الانفتاح العربي والدولي على دمشق تقع في طهران وحدها، ناهيك بالتهديد بإغلاق مطار دمشق، وهو الشريان الوحيد الذي يربط دمشق بالعالم.
وتقوم بعض الدول العربية الإقليمية التي طبّعت مع كيان الاحتلال في الآونة الأخيرة بمساعدة “تلّ أبيب” على ترويج هذه السردية ووضع سوريا والسوريين أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا فك التحالف مع إيران وحركات المقاومة، وإما الاستمرار في الحصار وتلقّي الاعتداءات الصاروخية الإسرائيلية.
من جهة دمشق، لا تؤخذ الخيارات الإسرائيلية – العربيّة بعين الاعتبار، والعمل يجري حثيثاً هنا على مستوى ضرورة الردّ والردع في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، ولو كلّف الأمر التدحرج باتّجاه حربٍ شاملة ترى دمشق أنها تختار مع حلفائها ساعة صفرها.
وتعتبر دمشق أنّ أيّ تطور في الأحداث باتجاه حرب مع الكيان المؤقّت لن يكون في مصلحة الكيان أبداً، ويمكن وصف الحالة في دمشق الآن أنها تقع فوق نقطة الصبر الاستراتيجي الذي قد ينفد قريباً جدّاً.
إيرانيّاً
في الشّكل العام، تقع طهران على رأس قائمة الخوف الإسرائيليّ، لكنّ الحرب التي جرت على سوريا، والتي أفرزت حلفاً عسكريّاً متيناً بين دمشق وطهران وقوى محور المقاومة الذي يُزنّر الكيان الإسرائيليّ، والتي جعلت جنود الاحتلال يرون، بالمنظار العسكريّ، مراقبين ومخططين عسكريين سوريين وإيرانيين ولبنانيين على الحدود السوريّة الفلسطينيّة، كذلك خوف “تلّ أبيب” من احتمال التوصّل إلى اتفاق نووي بين الولايات المتحدة وإيران في أيّة لحظة، وبالتالي حصول طهران على متنفّس اقتصادي ومالي جديد يُريحها كثيراً، ويقوّي موقعها، ويزيد جهودها في الإقليم ضد كيان الاحتلال، وخصوصاً في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، هو ما رفع منسوب الخوف الإسرائيلي إلى أعلى مستوى.
لذلك، يُقدم الاحتلال على تكثيف هجماته على الأراضي السوريّة لضرب قدرات المحور عموماً، والقول إنّها تستهدف مواقع إيرانية أو شحنات سلاح إيرانية قادمة لحزب الله في لبنان عن طريق مطار دمشق الدولي.
تدرك طهران أنّ هذا السعار الإسرائيليّ في وجهها، والذي تتحمّل سوريا أثره التدميريّ الأكبر، والذي بلغ حدّ استهداف قياديين عسكريين إيرانيين في قلب طهران هذا الأسبوع، يجب ألّا يبقى بلا رد، ومن سوريا أيضاً، ناهيك باحتمال الردّ على جبهات أخرى (كعملية أربيل الأخيرة مثلاً). والمرجّح لدينا هنا أنّ غرفة عمليات محور المقاومة في سوريا اتخذت قرار الردّ النّوعيّ بالفعل، وأنّ “إسرائيل” ستكون أمام حدثٍ جديد في الفترة القريبة القادمة.
روسيّاً
أقدمت “إسرائيل” على استفزاز موسكو بشكل مباشر خلال الاعتداء الصاروخي ليلة 13 أيار/مايو، كما ذكرنا في مقدمة هذه الورقة، وذلك ضمن خطّة أميركية لاختبار مدى الاستعداد الروسي لأيّ خطط عسكريّة أميركية جديدة على الساحة السورية، وخصوصاً أنّ واشنطن رأت مؤخّراً وجوب أن يتحوّل الميدان السوريّ إلى ساحة مشتعلة جديدة في وجه موسكو.
كما أرادت “تلّ أبيب” من جهتها، أنْ تضع روسيا أمام استحقاقات تراها استراتيجية ومهمة جدّاً بالنسبة إليها، وهي متعلقة تحديداً بالنشاط الإيراني في سوريا، وضرورة أنْ تتخذ موسكو موقفاً عمليّاً وفاعلاً منه، لكنّ الرسالة الأميركية – الإسرائيلية جاءت بنتائج معاكسة بالنسبة إلى “تل أبيب” خصوصاً، كما لواشنطن، فقد عمدت القوات الروسية إلى تشغيل منظومة “أس 300” واستخدامها لأول مرّة منذ استقدامها إلى سوريا، في حين كانت “تل أبيب” تقول دوماً إنها قد حصلت على تعهّد من موسكو بإبقاء تلك المنظومة تحت السيطرة الروسية في سوريا.
ولم تكتفِ موسكو بذلك، بل عمدت صبيحة اليوم التالي للاعتداء الإسرائيليّ على إحلال منظومة “أس 400” مكان “أس 300” في أكثر من موقع في الأراضي السورية، في إشارةٍ إلى تغيّر في الموقف الروسيّ من أيّ اتّفاق نظريّ أو عمليّ مع “تل أبيب”.
وهنا، وبالنظر إلى الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا، وتموضعها الواضح إلى جانب “الناتو”، وثبوت تورّط حكومة كيان الاحتلال في إرسال أسلحة ومرتزقة للقتال إلى جانب قوات زيلينسكي، أرادت موسكو أنْ تقول لـ”تل أبيب” إنّ أموراً كثيرة تغيّرت بعد الموقف في أوكرانيا، وعليها أن تضع في الحسبان أنها ستواجه موسكو أيضاً في سوريا، لا دمشق وطهران وقوى محور المقاومة فحسب.
من جهة أخرى، أقدمت موسكو على تكثيف دورياتها على الحدود السورية الأردنية بعد الاعتداء الإسرائيلي الأخير، وبعد التصريحات الأردنية، للقول أيضاً إنّ موسكو ما تزال هنا.
وفي السياق عينه، توجّهت حشود عسكرية سوريّة كبيرة باتّجاه البادية والشرق السوريين، برفقة طائرات عسكرية سوريّة وروسيّة، وتكثّفت الحشود على جبهة جبل الزاوية في وجه إردوغان وأدواته المحلية هناك، في رسائل سورية – روسيّة – إيرانية في كل الاتّجاهات بأنّ قوى محور دمشق جاهزة لأيّ تطوّر عسكريّ جديد، بل من المرجّح أنْ تكون في موقع المبادِر في الفترة القريبة القادمة، وهو ما ستكشفه التطورات العسكرية الجديدة خلال هذا الشهر والشهر القادم على أبعد تقدير على جبهات الشرق والشمال والبادية.
في النتيجة، تبدو الأمور متّجهة الآن نحو التصعيد، وصولاً إلى المواجهة الحتميّة والقريبة على جبهة محور المقاومة مع العدو الإسرائيلي، ويمكن القول إنّ عمليات الاغتيال التي جرت مؤخّراً في طهران قرّبتنا بشكل كبير من ساعة الصفر. ولا نكشف سرّاً هنا حين نقول إن عموم القوى العسكرية في محور المقاومة دخلت مرحلة الاستنفار التام منذ يوم الإثنين 23 أيّار/مايو الجاري.
ــــــــــــــــــــــــــــ
جو غانم
كاتب سوري