كانت نكبة فلسطين في 15 أيار/مايو من العام 1948، وهو اليوم نفسه الذي شهد الإعلان الرسمي عن “تأسيس دولة إسرائيل”، بمثابة تجسيدٍ واقعيٍّ لفكرةٍ صهيونيةٍ قديمةٍ، اتّخذت من الكلمة حاملاً لها؛ الكلمة الدينيّة التوراتيّة أولاً، التي حرّفتها الحركة الصهيونية لتخدم أهدافها السياسية، وهذا التحريف وُجِّه لمخاطبة اليهود في كافة أنحاء العالم.
والكلمة الأدبية ثانياً، التي وظّفتها هذه الحركة بطريقةٍ دعائيةٍ تضليليةٍ مُحرِّفةٍ للتاريخ، لمخاطبة الغرب بدوله وقواه الفاعلة وشخصياته المؤثّرة، حيث كُتبت الروايات الصهيونية غالباً بلغة الكُتّاب الأصلية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لتتمَّ ترجمتها إلى اللغة العبرية بعد ذلك، ويُتاح لليهود قرأتها.
جَهِدَ الأديب الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني (1936-1972) في فضح هذا التوظيف الصهيوني العنصري للأدب، الهادف إلى تزوير الحقائق وتزييف التاريخ، من خلال كتابه “في الأدب الصهيوني”، الذي قرأ عبر صفحاته عشرات الروايات الصهيونية والدراسات والمقالات المتعلّقة بها.
صدر كتاب “في الأدب الصهيوني” في طبعاتٍ عدّة
تميّزت الأعمال الأدبية الصهيونية السابقة لتأسيس الكيان بالفجاجة والمباشَرة، من خلال اعتمادها لغةً خطابيةً تقريريةً وعظيّةً، كانت “أقرب إلى سيمفونيةٍ دعاويةٍ إعلاميةٍ أكثرَ منه إلى عملٍ فنّيٍّ خلّاق”، كما يؤكّد كنفاني.
بل إنّه يعتبر أنَّ الأدب الصهيوني كان سبّاقاً على الحركة السياسية، ومولِّداً لها، قبل أن تقوى هذه الحركة وتسيطر على الأدب مُسيّرةً إيّاه إلى جانبها. إذ يفتتح كنفاني مقدِّمة كتابه بالقول: “لن يكون من المبالغة أن نسجّل أنَّ الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها. وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة، التي نُظِّمت لتخدمَ هدفاً واحداً”.
أهمية اللغة العبرية بوصفها الرابط الجامع الوحيد
وبما أنّ الأدب الصهيوني تمتّع بهذه الأهمية كلّها، فمن الطبيعي أن تلعب اللغة العبرية دوراً بارزاً في التحضير والتحشيد لإقامة “دولة إسرائيل”، لكونها “الخيط الواهي الوحيد الذي يربط يهود العالم”، على الرغم من أنَّ هذه الرابطة هي رابطةٌ دينيةٌ وليست رابطةً قوميةً، فاللغة العبرية هي لغة الكتب الدينية ولغة الصلاة فقط، لكنَّ الحركة الصهيونية جعلتها رابطةً قوميةً، وقوّتها على حساب اللغة اليديشية (لغة يهود أوروبا)، فتزايدت مكانتها قبل نحو نصف قرنٍ من إعلان تيودور هرتزل إنشاء الحركة الصهيونية وبدئها نشاطها السياسي، في مؤتمر بال في سويسرا سنة 1897.
كان تيودور هرتزل أديباً قبل أن يصير سياسياً
وللمزيد من التأكيد على محوريّة رابط اللغة وأهمية دور الأدب، يورد كنفاني معلومةً لا يعرفها الكثيرون، وهي أنَّ تيودور هرتزل نفسه كان أديباً قبل أن يصير سياسياً، وله عدَّة رواياتٍ أبرزها “الأرض القديمة الجديدة”، التي يتّضح من عنوانها إسقاطاتها الدينية والسياسية العنصرية.
تأثير التوظيف الجديد للغة على الأدب
يشير ابن مدينة عكّا المحتلة إلى أنّه “بتحوّل العبرية من لغةِ دينٍ إلى لغةِ قوميةٍ، تحوّل مضمون الأعمال الأدبية أيضاً من بطلٍ دينيٍّ بمعنى التصوّف والتمسّك والاستقامة، إلى بطلٍ سياسيٍ”.
ويضيف: “لقد وُضِعَ البطل اليهودي الآن في مواجهة المعضلة، ولم يعد يستطيع عبر رواياتٍ تتخذ الطابع التاريخي أن يتحدّث بالمُثُل المُجرَّدة والافتراضات: صار يتوجّب عليه التعامل مع الواقع الذي، وحده تقريباً، حكَّ الافتراضات الصهيونية حكّاً دقيقاً”.
“بتحوّل العبرية من لغةِ دينٍ إلى لغةِ قوميةٍ، تحوّل مضمون الأعمال الأدبية أيضاً من بطلٍ دينيٍّ بمعنى التصوّف والتمسّك والاستقامة، إلى بطلٍ سياسيٍ”.
يرصد كنفاني فارقاً بين الأدب والسياسة، يُكسب قراءة الأعمال الأدبية الصهيونية أهميةً خاصّةً، بسبب تصويرها حياة الناس اليومية واعتمادها لغةً بسيطةً تلقائيةً، بعيدةً عن الحسابات السياسية والمفردات المنتقاة، فـ”أهمية الأعمال الأدبية الصهيونية أنّها تفضح وتخوض فيما تنجح الكتابات السياسية في تمويهه والالتفاف عليه”.
تطورٌ ناقصٌ وجمودٌ مستمرٌّ
بمرور الوقت، ومع ظهور كتابات الكُتّاب الذين عاشوا في فلسطين المحتلة، ولم يكتبوا من بعيد كسابقيهم ممن اشتهرت رواياتهم في الغرب، حدث تطورٌ وحيدٌ أصاب الأدب الصهيوني، تمثّل في انتقاله المحدود من الأدب الدعائي الفاضح للحركة الصهيونية إلى أدبٍ أقرب إلى المنطق وواقع الأحداث. وقد وقف هؤلاء الكُتّاب الجدد أمام “المشكلة الحقيقية” في رواياتهم، بحسب كنفاني، وذلك من خلال مواجهاتٍ بين أبطالٍ صهاينةٍ وشخصياتٍ عربيةٍ، لكنَّهم هربوا من التعمّق في المشكلة التي لمسوها وأضاؤوا عليها.
يُضيء عضو المكتب السياسي في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” على النبرة الاستعلائية التي تسود الأدب الصهيوني، والتي تجلّت في الصورة الدونيّة الجاهزة التي يصوِّر بها الإنسان العربي، في مقابل التفوّق الصهيونيّ البطوليّ السهل، وهذه النبرة ليست إلا ترجمةً لمقولة “شعب الله المختار”، وللعنصرية الصهيونية التي منعت اندماج الصهاينة في المجتمعات التي عاشوا فيها قبل هجرتهم إلى فلسطين المحتلة.
“حدث تطورٌ وحيدٌ أصاب الأدب الصهيوني، تمثّل في انتقاله المحدود من الأدب الدعائي الفاضح للحركة الصهيونية إلى أدبٍ أقرب إلى المنطق وواقع الأحداث”.
وفيما يتعلّق بأسباب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، يشدِّد كنفاني على أنَّ “الاضطهاد والمحارق ومعسكرات الاعتقال لم تكن ما استولد الصهيونية، بل الفترات الانفراجية في المجتمعات التي تواجد فيها اليهود، مما أدّى إلى نشاطهم الثقافي”، الذي طالما دعا إلى عدم اندماج اليهود في المجتمع الذي يعيشون فيه، على اعتبار أنّهم أرفع وأسمى من بقية الناس.
كما يلفت إلى مفارقةٍ غريبةٍ تعكس خللاً منطقياً، إذ إنَّ الأدب الصهيوني يعلل احتلال فلسطين بالتذكير بالمحارق النازية. يعلّق كنفاني على هذا بأنّه “مسألة شديدة التعقيد، جوهرها التبرير وليس التفسير، اختراع السبب لأنه في الأصل لا يوجد سببٌ”.
“وثيقة بلفور أدبية”
بعد حوالى نصف قرن من مشاركة دول الغرب الاستعمارية في إصدار وعد بلفور، الذي منحت بموجبه بريطانيا المستعمِرة لفلسطين تلك الأرض للصهاينة، شارك الغرب أيضاً في منح أحد الصهاينة ما لا يستحقه، في تكريمٍ رمزيٍّ، سبق بأشهرٍ قليلةٍ عدوان حزيران 1967.
ففي العام 1966، أعلنت لجنة نوبل للأدب عن منح جائزتها للكاتب الإسرائيلي شموئيل يوسف عجنون، الدعائي التحريضي البعيد عن الإبداع.
وجاء في نص الإعلان عن فوز عجنون أنَّ “كتاباته تمثّل رسالة إسرائيل إلى عصرنا، وتكافح كفاحاً رائعاً من أجل تقديم التراث الثقافي للشعب اليهودي عن طريق الكلمة المكتوبة”.
وقد وصف كنفاني منح عجنون الجائزة الأدبية الأرفع في العالم بأنّه بمثابة “وثيقة بلفور أدبية”، مُرجعاً سبب منحه إياها إلى أنّه “الأقدر بين الكُتّاب الصهاينة على دمج الموقف الديني بالموقف السياسي”، بالإضافة إلى أنَّه ركّز في كتاباته على الهجرة اليهودية من شرق أوروبا تحديداً إلى فلسطين المحتلة (هو مولود في بولندا)، وعلى ضرورة توسّع “إسرائيل” وضّمها أراضٍ جديدة، كما يرد على لسان تاهيلا، أشهر شخصياته النسائية، وكما جرى بالفعل في أشهر رواياته، “في قلب البحار”، حيث امتدّت حدود “إسرائيل” الشمالية لتشمل مدينتي صور وصيدا اللبنانيتين.
أدبٌ فلسطينيٌّ مضادٌّ
جُهد كنفاني الكبير المبذول في هذا الكتاب بهدف فضح الدعاية الصهيونية، التي لا توفّر شيئاً من دون أن توظّفه كأداةٍ في إيصال أفكارها، كان كافياً وحده ليقوم الموساد الإسرائيلي باغتياله في بيروت، بعبوةٍ ناسفةٍ زُرِعت تحت سيارته سنة 1972.
وربما يمكننا من خلال النشاط الأدبي والسياسي المحموم لكنفاني أن نفهم الحجم القصير لرواياته، التي تحتمل أفكارها المزيد من التوسّع، كأنّه لم يمنح نفسه الوقت الكافي للعمل عليها، كتبها بنَفَس المُلاحَق الذي يعلم أنّ حياته مهددةٌ، ككل المقاومين، وقد أراد قبل نهايتها أن يقدّم الرواية المضادّة للتضليل الصهيوني، شهادةً أمام العالم، وتأكيداً على أنَّ للفلسطينيٍّ صوتٌ لا بُدَّ أن يُسمع.