تبدو المعركة، التي خاضتها أمريكا والسعودية ضد المقاومة، خاسرةً حتماً، حتى قبل فتح صناديق الاقتراع. حيث تبدو الانتخابات التشريعية في لبنان، الأحد ، مغايرةً لسابقاتها من نواحٍ متعددة، ولاسيما فيما يتعلق بالظروف الاستثنائية التي تمرّ فيها البلاد بعد الانهيار الذي أصابها، مالياً واقتصادياً، في خريف عام 2019.
لكن السياق السياسي، والصراع الذي يحمله معه، يستمرّان استكمالاً للمحطات الانتخابية السابقة، والتي حاولت فيها قوى خارجية، على رأسها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، تغيير معادلة المقاومة، ومحاصرتها في حجم كتلةٍ أقلية منزوعة القدرات في الحكم ومؤسساته.
ومن أوجه اختلاف المحطة الانتخابية الحالية، دخول لاعبين جدد على خط الترشح للمقاعد النيابية الـ128، التي تمثّل إجمالي مقاعد البرلمان اللبناني، وخصوصاً مع “تفريخ” مئات المجموعات “الثورية” من رحم التظاهرات الشعبية، التي انطلقت في الـ17 من تشرين الأول/أكتوبر 2019، والتي كسبت زخماً متصاعداً مع تصاعد وتيرة الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية المستمرة على وقع الانهيار الدي أصاب البلاد، مع محاولة الأطراف الخارجيين أنفسهم تحفيز هذا الزخم وتسريع وتيرته على وقع انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020.
انتخابات المغتربين
في المرحلة الأولى من الانتخابات، اقترع اللبنانيون المغتربون يوم الأحد في الثامن من أيار/مايو الحالي، في ظل حملة إعلامية نَشِطة روّجت في مجملها فئتين أساسيتين من المرشحين، هما: أحزاب تحالف 14 آذار، ومنظمات المجتمع المدني، وتحديداً أولئك الذين يعلنون خطاباً معادياً للمقاومة، مع التشديد على استخدام تفاصيل الأزمة الاقتصادية في الخطاب الانتخابي، من باب تحميل المقاومة مسؤولية الانهيار القائم، والاستثمار على ذلك من أجل إحداث خروقات في مقاعد قوى المقاومة من ناحية.
أو منع هذه الأخيرة من تحصيل أغلبية برلمانية في المجلس النيابي الجديد، تمكّنها من الكلمة الفاصلة في تشكيل الحكومات خلال الأعوام الأربعة المقبلة من عمل المجلس النيابي، كما تمكّنها من امتلاك اليد العليا في اختيار رئيس جديد للجمهورية اللبنانية بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
وانعكس تصنيف حزب الله في لوائح الإرهاب في عدد من الدول الغربية والعربية، وفرض عقوبات عليه وعلى أعضائه والتضييق على مناصريه المغتربين، وعلى صورة انتخابات المغتربين، بحيث لم يظهر الحزب في المشهد الانتخابي الخارجي، بينما ظهرت حليفته حركة أمل في الدول التي توجد فيها جالية لبنانية من جمهور المقاومة، لكن بالمجمل كان تأثير الحصار الذي تفرضه هذه الدول على المقاومة وجمهورها بادياً في النهار الانتخابي المخصص للمغتربين.
واستغلّت القوى الأخرى هذه الفجوة وعدم تكافؤ الفرص بين مرشحيها ومرشحي المقاومة في الخارج، فحاولت جذب أكبر عدد ممكن من الناخبين للتصويت لمصلحة خياراتها المناهضة للمقاومة، والمؤيَّدة من الدول المضيفة.
لكن ذلك لم يَبدُ ذا تأثيرٍ بالغ، بالنظر إلى عدم قدرة اللوائح المرشحة في دوائر تمثيل المقاومة على حشد أعدادٍ كافية لأن تشكّل حواصل انتخابية في تلك الدوائر، وفق ما أُعلن من عدد المقترعين فيها، قياساً على مستوى الحواصل العالية المطلوبة في الدوائر نفسها، وذلك على عكس دوائر، بحيث شكلت أعداد المقترعين في الاغتراب حاصلين أو أكثر في دائرة واحدة على سبيل المثال. وكل ذلك يُفضى إلى نتيجةٍ واحدة، مفادها أن معركة المقاعد التي تمثّل المقاومة سوف تحسمها الانتخابات الداخلية، وليس انتخابات المغتربين.
معركة إعلامية غير متوازنة
انطلاقاً من انتخابات الاغترابية، وقبلها، وبعدها، وصولاً إلى اليوم الانتخابي الطويل في الـ15 من أيار/مايو الحالي، يمكن القول إن مرشحي القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية (حزبين من قوى 14 آذار المناهضة للمقاومة) سيطروا بصورةٍ شبه كاملة على الشاشات اللبنانية الأكثر انتشاراً، والمعروفة بأنها عالية التكلفة في الوقت نفسه.
وخلال يوم الانتخاب في الخارج، حاز حزب القوات شاشة إحدى أبرز المحطات اللبنانية بصورةٍ شبه مستمرة طوال اليوم، مع دعاية انتخابية مباشرة أو شبه مباشرة قبل الانتخابات. وخلال فترة الصمت الانتخابي لاقتراع المغتربين، وخلال النهار الانتخابي، نقلت هذه المحطة بثاً مباشراً من ماكينة حزب القوات الانتخابية، بينما كانت منافستها الأخرى تبث نقلاً مباشراً، معظم اليوم نفسه، من ماكينة حزب الكتائب اللبنانية في مقره الرئيس في وسط بيروت. وبين هذا وذاك، كانت الشاشتان تنتقلان لتغطية مرشحي منظمات المجتمع المدني، التي بدت على وئام تام مع أحزاب 14 آذار.
أكثر من ذلك، كان مقدّمو هاتين الشاشتين مُوْكَلاً إليهم تحريضُ الناخبين وتوجيههم لمصلحة خيارات معينة ضد أخرى، كتوجيه إحدى المذيعات في الاستديو زميلتَها التي تواكب انتخابات أفريقيا، من أجل سؤال مناصرين للمقاومة عن سبب تأييدهم هذا الخيار في وقتٍ فقدوا فيه ودائعهم في المصارف اللبنانية، الأمر الذي يُعَدّ خرقاً لقانون الانتخاب، وتجاوزاً للأصول المهنية الإعلامية.
وإلى جانب الإعلام التقليدي، تشير متابعة وسائل الإعلام الجديد ومنصاته إلى حجم الدعاية الانتخابية الهائل الدي يُستخدم ضد المقاومة من ناحيتي كمية المواد المنتجة، ونوعيتها. ففي مضامينها، تبدو هذه المواد مكثفة بصورة تختصر وتختزل كل الأزمة اللبنانية، في تشعباتها التاريخية، في أنها نتيجة للفعل المقاوم، بما في ذلك سوء علاقات لبنان بالخارج.
ويُقصَد بالخارج دول محور الولايات المتحدة وحلفائها الذين قرروا، من جانب واحد، معاقبة اللبنانيين على قرارهم حماية بلادهم من تهديدات “إسرائيل” واعتداءاتها، عبر خلق المقاومة اللبنانية أولاً، ثم تمكينها سياسياً من الدفاع عن مشروعها عبر المحطات الديمقراطية المتتالية عبر الأعوام الماضية.
وبالنظر إلى محدودية إتاحة القانون الانتخابي للإنفاق الانتخابي للمرشحين واللوائح، ومقارنةً بأثمان مساحات التغطية الإعلامية التلفزيونية المعلنة، واللوحات والأبنية، يتضح أن إنفاق أحزاب 14 آذار ومنظمات المجتمع المدني يشير إلى معركة حياةٍ أو موت، بينما لا تبدو هذه المظاهر بالدرجة نفسها عند فريق المقاومة، الذي يبدو واثقاً بتأمين مقاعده، ويحاول تحصيل مقاعد حلفائه.
في النتائج المتوقَّعة
لقد أحدث انسحاب تيار المستقبل من المشهد الانتخابي، بعد إعلان رئيسه سعد الحريري تجميد عمله السياسي، خضةً كبيرة في حسابات القوى السياسية. فالشريحة التي يمثلها التيار كبيرة إلى الحد الذي مكّنه من أن يحوز الكتلةَ النيابية الأكبر في انتخابات 2009، وثاني أكبر كتلة نيابية قي انتخابات 2018، بعد أن وافق الحريري على إقرار قانونٍ انتخابي ادى إلى خسارة شريحة واسعة من النواب المسيحيين، الذين كانوا ينضوون في تكتله.
لقد أدى انسحاب المستقبل إلى ضرب فرص حزب القوات اللبنانية، بقيادة سمير جعجع، في الحصول على اصوات الناخبين السنّة، وخصوصاً بعد تحميل هؤلاء جعجع مسؤولية “الوشاية” بالحريري لدى الداعمين السعوديين، الأمر الذي أغضب هؤلاء ودفعهم إلى محاربة الحريري علناً.
وعلى الرغم من محاولات شخصيات سنية، كانت مقرّبة إلى الحريري، تسويقَ نفسها لدى السعوديين واستغلال مرحلة غيابه، فإن أثر هؤلاء في الشارع السني يبدو متواضعاً، وهو ما يفسر انفجار الوزير السابق خالد قباني (مرشح)، خلال زيارته إحدى العائلات البيروتية، التي أعلن كُثُر منها مقاطعة الانتخابات التزاماً بمقاطعة الحريري للاستحقاق.
لقد قسّمت التغطية الإعلامية، عبر عامين، اللبنانيين إلى ملائكة وشياطين. الملائكة هم خلفاء الغرب، والشياطين المسؤولون عن الانهيار هم مؤيدو المقاومة وحلفاؤها. هذه القاعدة، التي أُريدَ لها أن تُتَرْجَم في صناديق الاقتراع، لا يبدو أنها نجحت في قلب المشهد اللبناني. فأغلبية الإحصاءات، التي نشرها أو تحدث عنها أبرز خبراء مراكز الإحصاء في لبنان، تشير إلى نتائج متوقَّعة مخيِّبة لآمال المراهنين على قوى 14 آذار ومنظمات المجتمع المدني.
فالمقاعد الـ27، التي ترشح لها مرشحو حركة أمل وحزب الله، مضمونة بصورةٍ كاملة، وفق أبرز خبراء الإحصاءات الانتخابية. ويضاف إليها في الكتلة المؤيدة للمقاومة توقُّع فوز كتلة للتيار الوطني الحر، تتراوح بين 12 و15 نائباً، وكتلة أخرى لتيار المردة تصل إلى 4 نواب، واثنين للحزب السوري القومي الاجتماعي، ومثلهما لحزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب الطاشناق بواقع 3 نواب.
بالإضافة إلى نحو 8 نواب من السنّة المؤيدين لخيار المقاومة. هذه التوقعات تضمن للمقاومة الحصول على أغلبية نيابية مطلقة، كافية لتسمية رئيس وزراء وانتخاب رئيس للجمهورية، فيما لو ذهبت المواجهة إلى اختيارات غير توافقية.
وفي المقابل، تشير التوقعات نفسها إلى احتمال حصول القوات اللبنانية على كتلة تترواح بين 13 و19 نائباً، تضاف إليها 4 مقاعد لحزب الكتائب اللبنانية، و8 مقاعد لشخصيات مستقلة من قوى 14 آذار، وبين 2 و4 مقاعد لمنظمات المجتمع المدني، الأمر الذي يُبقي جميع هذه القوى عند مستوى الأقلية البرلمانية، التي تحتاج إلى توافقات سياسية من أجل أن تشارك في الحكم، وخصوصاً في مرحلة شديدة الخطورة والحساسية والأهمية بالنسبة إلى مصير النظامين السياسي والاقتصادي في لبنان.
وفي المحصلة، تبدو المعركة، التي خاضتها الدول الخارجية، وعلى رأسها كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، ضد المقاومة، في كل أطيافها، خاسرةً بصورةٍ حتمية، حتى قبل فتح صناديق الاقتراع.