لا شك أن مسار العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا لم يعد واضحًا. الأهداف من العملية واضحة ومعروفة وثابتة، ويذكّر بها دائمًا الرئيس بوتين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهي التزام أوكرانيا بالحياد (ونزع أسلحتها وخاصة غير التقليدية لو وجِدَت)، والتزامها أيضًا بعدم الانخراط في الـ”ناتو”، والاعتراف بشبه جزيرة القرم وبجمهوريتي اقليم الدونباس (لوغانسك ودونتسك)، مع اضافة اعتراف أوكرانيا أيضًا بانفصال “خيرسون”.
حيث يحضر الروس لاستفتاء حول ذلك في الاقليم الجنوبي الاستراتيجي، والذي يعيش فيه نسبة كبيرة من أصول روسية. لكن، لم يعد واضحًا كيف سيناور أو يقاتل الروس لتحقيق هذه الأهداف، وهل يقبل الأوكرانيون بهذه (الأهداف – الشروط)؟ وحتى لو قبلوا بها، هل يقبل الغرب والـ”ناتو” وبالتحديد الأميركيون بها، ويُسمح للرئيس الاوكراني فلاديميير زيلنسكي بكل بساطة بالرضوخ لها؟
من هنا يمكن استنتاج عقدة الموضوع بشكل عام، المرتبطة بالروس من ناحية وبالغرب وبالأميركيين من ناحية أخرى، وذلك على الشكل التالي:
بالنسبة للروس وللرئيس بوتين تحديدًا بشكل خاص لا يمكن التراجع بسهولة، لأن في ذلك خسارة استراتيجية تتجاوز أهداف بوتين في أوكرانيا لتصل إلى الداخل الروسي أولًا، حيث لن يكون واضحًا كيف ستسير الأمور داخليًا في حال الهزيمة في أوكرانيا، وثانيًا، ستكون خسارة استراتيجية لروسيا على صعيد الموقع والموقف على المسرحين الأوروبي والدولي، وستتجاوز بتداعياتها الاستراتيجية التفكك التاريخي للاتحاد السوفياتي، وكان أحد أخطر هذه التداعيات الموقف الحساس غير الآمن والمستهدَف والذي وصلت إليه روسيا، وأجبرها على خوض هذه العملية اليوم.
بالنسبة لـ”الناتو” ولواشنطن بالتحديد، أيضًا لم يعد الموضوع يتعلق بضمان سيادة أوكرانيا على كامل أراضيها، حيث لم يكن هذا الأمر أساسًا بالنسبة للأميركيين هدفًا، بل كان وسيلة لتحقيق الأهداف الأبعد، ومنها استنزاف وهزيمة روسيا في أوكرانيا، تأسيسًا لهزيمتها في الصراع الدولي الاستراتيجي، وجعلها تنسى نهائيًا موقع القطب الدولي الثاني، لتكون بنظر واشنطن دولة اقليمية كبرى، بين آسيا وبين أوروبا، كما أرادوها حين ساهموا بشكل فعال بتفكك الاتحاد السوفياتي.
حتى الآن، لم يقصَّر الغرب والأميركيون في تقديم كل أشكال الدعم الواسع لأوكرانيا، ماليًا واقتصاديًا وسياسيًا وديبلوماسيًا وعسكريًا، وحتى على صعيد توجيه مؤسسات المجتمع الدولي ومحاولات واسعة لفرض مسار دولي لعزلة روسيا. وعسكريًا، يمكن القول انهم اختاروا أنواعًا مناسبة من الأسلحة الفتاكة أثرت في فرض تغيير ميداني روسي لخطة الهجوم والانتشار.
كُل مَن يتابع مسار العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا والمرحلة التي وصلتها، تختلط عليه الأمور نتيجة الغموض أو عدم الوضوح. وهذا الغموض يمكن لأول وهلة استنتاجه من اعادة انتشار الوحدات الروسية وانسحابها من قرب المدن الكبرى، تقريبًا كل مدن الشمال والشمال الشرقي التي كانت قد وصلت اليها في الأسبوع الأول من انطلاق العملية وكانت قريبة من السيطرة عليها.
وأيضًا من حركة التراجع من المواقع التي كانت وصلت اليها تلك الوحدات قرب خاركوف، وما زال هذا التراجع يسجل يوميا تقريبا من محيط المدينة الشرقية الأكبر وثاني مدن أوكرانيا، والتي كان يبدو أنها ستكون أحد أكثر الأهداف التي سيعطي الروس أفضلية للسيطرة عليها.
هذا التغيير الميداني في خطة الانتشار برّره الروس ولو ضمنيا، بتركيز الجهود لمعركة اكمال السيطرة على اقليم الدونباس، حيث توجّه القسم الأكبر من الوحدات الروسية من شمال ومن شمال شرق اوكرانيا نحو شرقها وجنوب شرقها، وانتشرت مع مقاتلي جمهوريتي لوغنسك ودانيتسك، وأطلقت مستوى أعلى من الأعمال القتالية، ومنها كانت عملية انهاء السيطرة على مدينة ماريوبول الاستراتيجية على بحر آزوف، بانتظار اكتمال هذه السيطرة على آخر معقل للوحدات الاوكرانية والنازيين في مصنع آزوف ستال، كموقع محصن يرفض مقاتلوه تسليم أنفسهم حتى الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
شارل أبي نادر