شيرين و”الحرب”

296
شيرين و”الحرب”

لم تكن شيرين أبو عاقلة أيقونة الصحافة فحسب، بل كانت بنتاً وأختاً وصديقة وزميلة لأشخاص أحبوها.

إذاً، هل مات ابنك حقاً؟

خانته الكلمات… أدرك فجأة أنَّ ابنه مات حقاً… ذهب إلى الأبد. انتزع منديلاً من جيبه، وراح ينتحب نحيباً يمزق نياط القلب.

في كلّ مرة يسقط فيها شهيد، أعود بالذاكرة إلى قصة “الحرب” للكاتب الإيطالي لويجي برنديللو. كلّنا نخاف من إرسال أبنائنا إلى الحرب، ولا نحتمل فكرة فقدانهم إلى الأبد، حتى أولئك الذين يظهرون بمظهر الأقوياء… تلك النسوة اللواتي يزغردن وراء جنازات أبنائهن، والآباء الذين يقفون أمام الجمهور بكل ثقة ليعلنوا أنهم سعداء بما حققه أبناؤهم في سبيل الوطن… كل هؤلاء يتمنون لو تسنح لهم الفرصة لإخراج منديل والنحيب أمام الجميع، ليشاركوهم ألم الفقدان الأبدي.

لم تختلف الصورة كثيراً عندما تابعت مع الملايين لحظة استشهاد الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة. لم تكن شيرين أيقونة الصّحافة فحسب، بل كانت أيضاً بنتاً وأختاً وصديقة وزميلة لأشخاص أحبوها، واحتسوا معها القهوة صباحاً، وتبادلوا معها في المساء قصص المخاطر التي تعرّضوا لها خلال العمل، وتغامزوا عن أسرار لن يعرفها أحد، وتعانقوا بشدة بعد فراق قصير أو عبور من نقطة خطرة. كلّ هذا لن يحدث مرة أخرى… ستتوقف حياة بأكملها وتغير مسارها لتمضي من دون حبيب قضى ولن يعود.

في بلادنا، الشهادة أكثر صعوبة من أيِّ مكان في العالم. رغم وضوح القضية، ووقاحة العدو في الإعلان عن نفسه ومخططاته، فإنَّ الشهيد في بلادنا بحاجة إلى المرور عبر اختبارات أكثر صعوبة. في الحرب، تبدو الأشياء واضحة… العدو هو ذلك الذي يحتلّ بلادنا، ويطلق النار على أبنائنا، ويحاول طردنا ومحو تاريخنا، وينهب ثرواتنا. هذا ما رآه أبطال قصة الحرب: “الوطن طبعاً الذي كان علينا أن نستجيب لدعوته لو أنه دعانا، حتى لو رفض الآباء والأمهات”.

في بلادنا، لا يكفي أن تسقط في مواجهة العدو، بل عليك أن تجتاز امتحان الدين والطائفة والوظيفة والجهة التي تنحاز إليها والجنسية التي تحملها، قبل أن يقبل أولئك الذين لا يفعلون شيئاً بمنحك صفة شهيد.

من يسقط في المعركة لن يهتم لما يقوله هؤلاء أو أولئك، فهو لم يختر الدرب الذي أوصله إلى الشهادة طمعاً بالمجد، بل رغبة في العمل من أجل قضية آمن بها، ويدرك تماماً أنه لو لم يسر على تلك الدرب، لقضى عمره نادماً على الفرصة التي أضاعها. الألم يبقى في صدور أولئك الذين نطالبهم بالزغاريد ورفع شارات النصر وهم يودعون أحبابهم.

لم يعد المشكّكون يكتفون في زماننا بالنيل من الشهيد، بل تجاوزوا ذلك للنيل من القضية نفسها. لقد أصبح من الشائع خروج أحدهم للحديث عن النضال في سبيل الوطن بصفته حرباً عبثية، أو يصف من “يحمل البندقية قلباً، ويطوي عليها شغافه” بأنه يتحدث لغة خشبية، ليخلص إلى أنَّ الحلَّ يكمن في السلام مع العدو، والتنازل عن الأرض وعن دماء الشهداء، لنحظى بحياة أسهل، فيها المزيد من الكهرباء، والدولارات في البنوك، والبضائع في الأسواق، وقد تسنح لنا الفرصة لاستضافة حدث رياضي عالمي أو الوصول إلى كأس العالم لكرة القدم.

عندما تسألهم عن الشهداء وتضحياتهم، يقولون لك إنهم سقطوا ليجعلوا العالم أجمل! لا يا سادتي، لن يكون العالم أجمل إلا بانتصار القضايا التي قدم الشهداء حيواتهم في سبيلها… العالم يصبح أجمل عندما يغادره سماسرة الأوطان وعملاء الأعداء، لأنهم من يجعلون هذا العالم أكثر بشاعةً وقسوةً. أما أولئك الذين ساروا ويسيرون على درب الشهادة، فإنهم يجعلون العالم أجمل إن بقوا وناضلوا في سبيل رفعة أوطانهم وأمتهم.

شيرين أبو عاقلة هي الإعلامي رقم 81 الذي يسقط برصاص العدو منذ العام 1967، والشهيد رقم 58 الذي يسقط على أرض فلسطين منذ بداية العام 2022، لكن هذا العدو طارد المثقفين والإعلاميين الملتزمين بقضايا الأمة في كل مكان: غسان كنفاني في بيروت، وناجي العلي في لندن، وحنا مقبل في قبرص.

عشرات الإعلاميين العرب من محور المقاومة سقطوا في ربيع الصهاينة. كل هؤلاء قتلتهم الرصاصة نفسها، لأنها انطلقت من الفكرة الاستعمارية نفسها التي ترفض سماع رواية أخرى غير روايتها. كل هؤلاء خانهم القلم نفسه الذي باع مداده وعقله للعدو، فقسّم الشهداء طوائف وجنسيات وولاءات.

عدونا يرانا كلاً واحداً، بغض النظر عن مواقعنا ودياناتنا وجنسياتنا. كل من يقف في مواجهته عدو لن يتورع عن إطلاق النار عليه، بل وإعدامه عن سابق ترصد، وبدم بارد. لقد آن الأوان لأن ننظر إلى أنفسنا ككل متماسك في مواجهة العدو وعملائه. إذا كانت المقاومة تضرب العدو وتلاحقه، فعلى الإعلام ألا يكتفي بمساندتها، بل يكشف المتآمرين على فكرة المقاومة ويعريهم أمام الجمهور، لتظهر سوأتهم الخائنة، ويتبيّن الطيب من الخبيث.

لنبكِ شهداءنا كما يستحقون، ولنرتقِ بهم إلى علياء المجد كما أرادوا… لكن علينا ألا نسمح للدموع بغسيل القلب من الحقد على العدو، وألا نسمح للشعور بالفخر بأن ينسينا أن دماء الشهداء ما زالت تصيح طالبة الثأر ومحرضة على النصر.

بكينا بالأمس شيرين أبو عاقلة وثائر اليازوري، وسنبكي آخرين غداً وبعد غد. المهم أن تبقى الشعلة متقدة في قلوبنا، وألا نلقي بالاً لصوت أولئك الذين يطالبوننا بالهدوء أو التهدئة. لا نطلب الموت حباً به، ولكننا نحب الحياة إلى درجة تجعلنا مستعدين للموت في سبيلها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عماد الحطبة
الميادين نت

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا