هو سؤال مشروع لمن يراقب القفزات الواثقة التي يحققها هذا البلد، والنمو المتصاعد الذي شكّل ما يمكن تسميته “فوبيا الصين”.
ربما كان السؤال الأهم والأكثر إلحاحاً لأعوام مضت، هو: إلى أين تمضي الصين؟ هو سؤال مشروع لمن يراقب القفزات الواثقة التي يحققها هذا البلد، والنمو المتصاعد الذي شكّل ما يمكن تسميته “فوبيا الصين”، التي صدعت رأس ساكن البيت الأبيض وأفراد إدارته، سواءٌ أكان جمهورياً أم ديمقراطياً. فأصبحوا يرون أن احتواء الصين وعرقلة تطورها هما الضمانة في بقائهم في قمة الهرم الدولي.
ربما هذا ممكن من الناحية النظرية، لكنه بلا شك أقرب إلى المستحيل عملياً. فالصين دولة برعت في دقة الحسابات، وقياس المخاطر، والتحدث بهدوء والعمل على تحقيق الهدف المرسوم، وعدم السماح لأي حدث طارئ بأن يحرفها عن مسارها وسعيها لتحقيق ذلك الهدف. نعم، صعدت الصين ولم يستطيعوا وقف هذا الصعود، وأصبح العالم يدرك إلى أين ستمضي.
“الديمقراطية الغربية” في مقابل “النموذج الصيني”
كان المؤرخ البريطاني الشهير، أرنولد توينبي، قال: “إذا كان القرن التاسع عشر قرناً بريطانياً، والقرن العشرون قرناً أميركياً، فإن القرن الحادي سيكون قرن الصين”. هذه الرؤية شكلت فوبيا وقلقاً للدول الغربية، وجعلتها تتوجّس من الصعود الصيني، وتراقبه بدقة، وتسميه “التهديد الصيني”.
في ظل هذا “الصعود الصيني”، بدأ الغرب يبحث عن أي شيء ينال من سمعة الصين، فوجد قضيتَي “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان”… الديمقراطية شيء جميل ونتاج مجتمعي، وليست سلعة يمكن استيرادها، كما أن الديمقراطية الغربية ليست بالضرورة هي النموذج الملائم لجميع دول العالم ومجتمعاتها.
ولعل المشكلة تكمن في أن الدول الغربية تريد العالم أن يبدأ من حيث انتهت هي، وهذه مغالطة علمية، فلكل أمة ظروفها ومساراتها وخصوصيتها، وأي تطور تحققه أو تصل إليه ليس بالضرورة أن يكون ملائماً لغيرها من الأمم.
الصينيون يدركون ذلك، ويشددون عليه، والحكومة الصينية تنصح دوماً من يرى في “النموذج الصيني” مثالاً يمكن العمل على تطبيقه في دوله، تنصحه دوماً بأنه يمكن الاطلاع على “النموذج الصيني”، لكن يجب الانتباه إلى أنه لا يمكن نقل هذا النموذج إلى سائر الدول، فخصوصية المجتمعات وتفهمها شيء مهم لتحقيق التنمية.
فالصينيون، من الناحية الثقافية، يؤمنون بأن طاعة السلطان أمر أخلاقي، وأن القانون أداة للتطور والتقدم، كما يؤمنون بأولوية الواجب على الحق، وأولوية النظام على الحرية، وبأن مصلحة الجماعة هي فوق مصلحة الفرد، وأن التعددية السياسية في مجتمع مترامي الأطراف، مثل الصين، ستؤدي إلى الفوضى حتماً.
جائحة كورونا والتفرد الصيني
شهدت الصين ظهور جائحة “كوفيد 19” في بداية عام 2020. لم تنشغل بكين بنظرية المؤامرة، وإذا ما تم إدخال الفيروس للصين من الخارج، على الرغم من “القناعة الصامتة” ربما بهذه الفكرة. ولعل ما كشفته الحكومة الروسية بشأن المعامل البيولوجية الغربية في أوكرانيا سيُثبت ذلك، كما أن الإجراءات الحكومية الصينية الصارمة في التعامل مع القادمين من خارج الحدود تعطي مؤشراً على وجود مثل تلك القناعة ربما.
قد يشكك البعض في الرواية الروسية، ولماذا تحتاج الولايات المتحدة إلى بناء تلك “المعامل القذرة” في أوكرانيا؟ الجواب يكون بتذكيرهم ببناء “سجن غوانتانامو” السيئ الصيت في أقصى جنوبي شرقي كوبا؛ هذا السجن الذي وصفته منظمة العفو الدولية بقولها إن “سجن غوانتانامو الأميركي يمثل همجية هذا العصر”. وهذا لم يكن سلوك الولايات المتحدة الأميركية وحدها. ففرنسا، على سبيل المثال، قامت بدفن النفايات النووية في صحراء الجزائر. تلك هي الديمقراطية الغربية التي يراد للعالم التمثّل بها.
واليوم، بعد أن فتحت كل دول العالم حدودها ورفعت الإجراءات الصحية المطبقة، التزمت بكين أولوية المحافظة على صحة مواطنيها، على الرغم من الخسائر الكبيرة في المجال الاقتصادي، ومن النفقات الصحية الهائلة التي تُصرَف على إجراء المسح اليوم في بعض المدن والمناطق، إلى درجة أن من يرى المشهد من الخارج يعتقد أن هناك كارثة صحية، بينما الوضع في واقع الحال هو العمل على منع ظهور أيّ إصابة.
هذه السياسة الصحية ربما تثير استغراب عدد من دول العالم، لكنها بلا شك سياسة مهمة لدولة يشكل كبار السن نسبة كبيرة من عدد سكانها، وهم الأكثر عرضة للإصابة والأقل تحمُّلاً لهذا المرض، وهم العنصر البشري الحامل لتطور الأداء الاقتصادي.
هل الاقتصاد الصيني اقتصاد فضي؟
الاقتصاد الفضي هو الاقتصاد الذي يتحكّم فيه ويديره الكبار في السن، نتيجة لزيادة نسبتهم في المجتمع، مع التراجع في حجم الولادات بسبب سياسات تنظيم الأسرة التي كانت مطبَّقة. ويركز هذا النوع من الاقتصاد على تلبية احتياجات كبار السن (من هم فوق خمسين عاماً) الذين يستهلكون أغلبية نفقاته. وظهر هذا المصطلح في اليابان في سبعينيات القرن الماضي، بحيث تم تخصيص أسواق خاصة تؤمن كل ما يحتاج إليه هؤلاء من خدمات.
يتباين الاقتصاد الفضي عن غيره من الاقتصادات، لأنه بسبب اعتماده على كبار السن كشرط لاستمراه، فإنه سيسعى لتلبية احتياجاتهم، من تأمين وطبابة وأدوات تساعدهم على النجاح في عملهم. وساعد التطور التكنولوجي على تحقيق ذلك، فتقنية الجيل الخامس ساهمت، بصورة كبيرة، في تعزيز حضور الذكاء الاصطناعي الذي سيسهّل من الإدارة الذكية للمدن، وتوظيف التطبيقات الإلكترونية في تسهيل الرعاية الصحية اللازمة لهؤلاء وتأمينها. فكبار السن عادة يمتلكون المال، ويحتاجون إلى الخدمات التي ستحقق أرباحاً كبيرة لمن يتمكن من تقديمها إليهم.
ففي الصين، نتيجة للارتفاع في مستوى الدخل، وتحسن الواقع، صحياً وغذائياً، ارتفع المتوسط العمري للسكان إلى الضعف، خلال الأعوام السبعين الماضية، منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949. هذا الارتفاع جعل كبار السن يشكلون نسبة كبيرة من القوة العاملة في الصين.
كذلك، انخفضت معدلات المواليد، وبدأت البلاد تشهد نوعاً من العزوف عن الزواج نتيجة لارتفاع المصاريف وحاجة المرأة إلى العمل، والاحتياجات المادية الكبيرة التي يحتاج إليها إنجاب الأطفال. فالهرم السكاني في الصين أصبح هرماً مقلوباً يشكل كبار السن قاعدته.
بحيث بلغ متوسط الأعمار في الصين 77 عاماً في عام 2018، مقارنة مع عام 1949 حين كان لا يتجاوز 35 عاماً. وبذلك، يكون تجاوز المتوسط العالمي بـ 4 أعوام. وفي عام 2021 بلغ عدد المسنين فوق 65 عاماً 14.2%، أي أنه تجاوز الخط الأحمر للشيخوخة العميقة بـ14%.
وفي عام 2021 بلغ معدل النمو السكاني 480 ألف نسمة فقط، وهو أدنى مستوى منذ ستة عقود، وفقاً للتقارير الرسمية التي تشير إلى أن الصين ستدخل في مرحلة “النمو السلبي” خلال عقد من الزمن، في أبعد تقدير.
تحويل الأزمة إلى فرصة
في السياسة، هناك تفاصيل يومية وهناك نقاط تحوُّل، والدول الكبيرة تتابع التفاصيل اليومية، لكنها تتوقف كثيراً عند نقاط التحول. من هنا، فالصين، كعادتها في التعاطي مع الأزمات بهدوء، والانفتاح الوسعي لتحويل الأزمة إلى فرصة، عملت على تحويل شيخوخة المجتمع إلى قوة دافعة للنمو الاقتصادي، بعد أن كان هناك تخوف من أن يترتب على شيخوخة المجتمع أزمة ديون جديدة للبلاد.
إلّا أن الأمر بات عكس ذلك، مع تحول الشيخوخة السكانية إلى قوة دافعة جديدة للاستهلاك ونمو الاقتصاد الصيني، بحيث يتمتع كبار السن في الصين بامتلاك المال والوقت، وبالتالي زيادة الإنفاق على الاستهلاك، وخصوصاً أنهم لا يملكون أطفالاً يسعون لتأمين مستقبلهم. وبالتالي، سيتركز هدفهم على إنفاق المال والاستمتاع بما تبقّى من حياتهم، الأمر الذي خلق طلباً على السلع التي يحتاج إليها هؤلاء. وبالتالي، ساهم ذلك في تحريك عجلة الإنتاج.
سياسة تنظيم الأسرة (الطفل الواحد)
هي سياسة طُبِّقت في الصين منذ عام 1978 واستمرت حتى عام 2011، حين بدأ العمل على تعديلها، بحيث سُمح بإنجاب طفل ثانٍ بشرط أن يكون الأب والأم من عائلة ذات طفل وحيد (عند تطبيق سياسة الطفل الواحد كان هناك استثناءات في الريف، بحيث كان يمكن إنجاب أكثر من طفل). أمّا في عام 2013، فسُمح للأسرة بإنجاب طفل ثانٍ إذا كان أحد الوالدَين وحيداً. وفي عام 2015، تم السماح بإنجاب طفل ثانٍ من دون شروط. أمّا في عام 2021، فسُمح بإنجاب طفل ثالث من دون شروط.
سياسة التشجيع على الزواج
المجتمع الصيني مجتمع أُسَري، يؤمن بدور الأسرة وأهميتها في بناء المجتمع. من هنا، بدأت الحكومة الصينية إجراءات للتشجيع على الزواج والإنجاب، ومنها: تمديد إجازة الأمومة من 98 يوماً إلى ستة أشهر؛ منح الآباء الجدد أيضاً إجازة تتراوح بين 15 و30 يوماً؛ منح كل أسرة إجازة سنوية تمتد من 10 إلى 30 يوماً لرعاية الأطفال تحت سن 3 أعوام، والعناية بهم. فالصين تعمل على تعزيز التنمية العالية الجودة وصياغة الاستراتيجيات والسياسات السكانية ذات الصلة بطريقة مستهدفة وواضحة.
الصين لا تواجه أزمة سكانية
على الرغم من المعطيات السابقة، فإن سياسة تنظيم الأسرة حققت نتائج إيجابية لجهة تحسين الوضع للمواطنين، معيشياً وصحياً. ويمكن القول إن الصين لم تواجه بعدُ أزمةً سكانية، نتيجة لتنبّه الحكومة لحجم المشكلة وإدراكها لها، ونتيجة للسياسات المتبعة ومتابعة الأرقام بدقة.
فالصين لا تزال أكبر دولة في العالم، من حيث عدد السكان، بحيث بلغ عدد سكانها 1.41178 مليار في عام 2020، بزيادة وصلت إلى 5.38% مقارنة بعام 2010، بحيث بلغ متوسط معدل النمو السكاني السنوي 0.53%. فعلى الرغم من ذلك كله، فإن عدد سكان الصين لا يزال أكبر من إجمالي سكان الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعين، مع الإشارة إلى أن انخفاض معدلات الخصوبة أصبحت مشكلة تعانيها أغلبية دول العالم المتقدمة.
ختاماً يمكن القول:
إن الاقتصاد الفضي قد يكون نتيجة حتمية لاقتصادات الدول المتقدمة، التي، نتيجة لتحسن الأوضاع الصحية والمعيشية فيها، فإن متوسط الأعمار سوف يزداد، كما أن توافر فرص العمل سيؤثّر في تكوين الأُسرة وإنجاب الأطفال.
وبالتالي، بعد أعوام، سيصبح الهرم السكاني مقلوباً، بحيث يسيطر كبار السن على قاعدته العريضة، وهم سيشكلون الشريحة المستهلكة (الزبائن). لذا، سيسعى الاقتصاد للعمل على تأمين احتياجاتهم ومتطلباتهم من أجل اغتنام الفرص الاقتصادية الممكنة.
فالصين تدرك خطورة الوضع السكاني وتعمل على تلافي سلبياته، إدراكاً منها لأهمية العنصر البشري في عملية التنمية الاقتصادية. فهل ستنجح في ذلك؟ المستقبل هو من سيجيبنا عن هذا السؤال بدقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاهر الشاهر
الميادين نت