تتواصل الأكاذيب التي تصدر عن الساسة الأمريكيين، وهي لم تبدأ بتلفيقات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولين باول الشهيرة أمام مجلس الأمن عن أسلحة العراق الكيميائية ولم تنته عنده.
ولعل ما نقله وزير الدفاع الأمريكي السابق مارك إسبر عن الرئيس السابق دونالد ترامب أثناء مجادلته في الدفاع عن مغامرة “صاروخية” طرأت له، تقضي باستهداف معامل المخدرات في المكسيك، نموذجا لهذا السوك الذي يبدو مترسخا.
إسبر كشف أن ترامب رد على اعتراضات البنتاغون على “فكرته” الجنونية بالقول: “سنطلق بضعة صواريخ باتريوت فقط، ولن يعرف أحد أننا من فعل ذلك”. ومضى الرئيس الأمريكي السابق، حسب رواية وزير دفاعه يقول إنه ببساطة سينكر أن مثل هذه الضربة حصلت على الإطلاق.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصف أواخر فبراير الماضي الغرب بأنه “إمبراطورية الأكاذيب”، وقبيل ذلك شدد في خطاب موجه لمواطنيه، على أن الكتلة الغربية بأكملها التي شكلتها الولايات المتحدة بمثابة “إمبراطورية أكاذيب”، لافتا أيضا على أن سياسيين أمريكيين وخبراء وصحفيين يكتبون بأنفسهم أن إمبراطورية حقيقية للأكاذيب أقيمت داخل الولايات المتحدة، ومن الصعب الاختلاف مع هذا الأمر، لأنه كذلك.
الأمر ذاته تحدثت عنه عدة وسائل إعلام صينية من بينها، صحيفة “بيبولز ديلي” الصينية، التي أشارت إلى أن الولايات المتحدة نالت مكانتها باعتبارها “إمبراطورية للأكاذيب” عن استحقاق وجدارة.
وفي هذا السياق، صرح مؤخرا قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيميائي والبيولوجي في الجيش الروسي، إيغور كيريلوف، في معرض حديثه عن “الأكاذيب الأمريكية” بأن أبرز مثال لها يعود إلى الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي في الخامس من فبراير 2003، مذكرا بـ”قارورة مليئة بمسحوق الغسيل في يده استغلت كذريعة لغزو العراق وتسببت في مقتل نحو نصف مليون شخص”.
نموذج الكذب الأمريكي المتمثل في كولين بأول، توقفت عنده أيضا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، مشيرة إلى أن واشنطن تواصل نشر أكاذيبها، مذكرة في هذا الصدد بتلويح وزير الخارجية الأسبق كولن باول بـ”قارورته” لتبرير اجتياح العراق.
وقالت بهذا الشأن إن “السياسيين الأمريكيين لا يزالون يمارسون الكذب ويختلقون الذرائع لمهاجمة المدنيين عبر العالم. إنها حقيقة معروفة للجميع. أود أن أطلب من ممثلي الطبقة الحاكمة الأمريكية عدم إثقال ضمائرهم بكذب جديد، مع أنني غير واثقة بأن لهم ضمائر”.
كذبات تاريخية
“الكذب” الأمريكي السافر يمكن رؤيته بوضوح في العديد من الأمثلة أسطعها علاوة على “قارورة” كولين باول، ما حدث في عام 1964، حين خطب الرئيس الأمريكي حينها ليندون جونسون أمام الكونغرس قائلا: “أخبرت الشعب الأمريكي الليلة الماضية أن النظام الفيتنامي الشمالي قد هاجم السفن الحربية الأمريكية في المياه الدولية. وبناء على ذلك، أعطيت الأمر بمهاجمة القوات التي كانت تشارك في هذه العمليات المعادية. هدفنا السلام وليس لدينا أطماع عسكرية أو سياسية أو إقليمية في هذه المنطقة”.
هذه القضية التي تحدث عنها جونسون، تعرف باسم “حادثة تونكين”، وبحسب روايات، كان سبب الحادث عطلا في نظام الرادار المثبت على المدمرة الأمريكية، فيما أدى إعلان الرئيس الأمريكي حينها إلى دخول الولايات المتحدة في حرب فيتنام التي استمرت 13 عاما. وفي محصلة “الكذب”، فقدت الولايات المتحدة أكثر من 58000 جندي وضابط قتلوا وجرح 153000، في حين تقدر خسائر فيتنام الشمالية بـ 1.4 مليون قتيل.
وبدأت ما تعد واحدة من أسوأ الحروب الأمريكية بـ حادثة تونكين”، في أغسطس 1964، حين زعم أن ثلاثة قوارب من البحرية الفيتنامية هاجمت مدمرة أمريكية وحاملة الطائرات “تيكونديروجا”.
إلا أن وكالة الأمن القومي الأمريكية رفعت في عام 1995، السرية عن وثائق متعلقة بهذا الحادث، وهي تشير إلى أن القوات الأمريكية كانت أول من فتح النار في اشتباك 2 أغسطس، ولم تكن هناك أي اشتباكات على الإطلاق في 4 أغسطس.
وجرى تفنيد المعلومات حول “الهجوم الفيتنامي” حتى من قبل الكابتن جون هيريك، الذي كان تحت قيادته المدمرة الأمريكية “المصابة”، إلا أن جهاز الاستخبارات الأمريكي، أصر على أنه اعترض رسائل اعترف فيها الفيتناميون بالهجوم. في ذلك الوقت لم يهتم أحد بشهادة القبطان! لأنهم كانوا في حاجة إلى الحرب!
ويبدو أن الأمريكيين أعدوا قواعد خاصة بهم لمعاييرهم المزدوجة في سياساتهم الخارجية المبنية على التزوير والكذب، يظهر ذلك في تصريح المندوب الأمريكي الدائم الأسبق للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة أدلاي ستيفنسون، بأن “الكذب خطيئة أمام الرب، ولكنه أمر مفيد للغاية في مواقف معينة”.
ولهذا ربما لم تتورع الولايات المتحدة عن استخدام السلاح النووي ضد اليابان في أغسطس عام 1945 مرتين في هيروشيما وناغازاكي ومن جود أي داع، وادعت كما هي العادة، أنها فعلت ذلك من أجل السلام، ولم تتصبب من جبينها قطرة عرق واحدة لإبادة أكثر من 250 ألف شخص في محرقة نووية، لم يكن لها هدف في حقيقة الأمر إلا الانتقام من اليابانيين على غاراتهم على سفن الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر.
هذا السلوك الوحشي لم يتوقف، ووجد استعادة له في استخدام الولايات المتحدة للفسفور الأبيض، السلاح الحارق الذي يحرم استخدامه بموجب القانون إلا لإضاءة ساحة المعركة، ومن خصائصه أنه يحول ضحاياه إلى كتلة مشوهة، لكن الولايات المتحدة تجاهلت كل القيم والأعراف الدولية والإنسانية واستخدمته خلال حصار الفلوجة في عام 2004.
إمبراطورية “الكذب” الأمريكية لا تكتفي فقط بتأكيد هذه الصفة باستمرار، بل وتلاحق بلا هوادة كل من يحاول كشف أسرارها وألاعيبها وجرائمها، مثلما فعلت مع الجندي السابق برادلي مانينغ، وجوليان أسانج وإدوارد سنودن.
وكان مانينغ يعمل في السابق محللا في الاستخبارات الأمريكية ضمن وحدة للجيش الأمريكي في العراق، وقد تعاون مع أسانج لاختراق جهاز كمبيوتر عسكري والوصول لآلاف الوثائق الأمريكية السرية شديدة الحساسية.
وقد اتهمت السلطات الأمريكية هذا الجندي الذي تحول لاحقا إلى امرأة، بانه سرّب لأسانج عددا كبيرا من الوثائق السرية كان أخطرها مقطع فيديو صادم يوثق هجوما “وحشيا” شنته طائرة أباتشي أمريكية عام 2007 على مجموعة من المدنيين العراقيين في أحد أحياء العاصمة العراقية بغداد، وقد حكم عليه بمدة سجن طويلة ثم أطلق سراحه لاحقا بعفو من الرئيس الأسبق باراك أوباما.
أما إدوارد سنودن فقد عمل هو الآخر في وكالة الاستخبارات المركزية ولاحقا في وكالة الأمن القومي، وقام بتسريب تفاصيل برامج التجسس “بريسم” إلى الصحافة، ووجه له القضاء الأمريكي في عام 2013 رسميا تهمة التجسس وسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطني من دون إذن، وكذلك تسريب معلومات استخبارات سرية لشخص غير مسموح له بالاطلاع عليها. وأصبح بذلك ملاحقا، إلا أنه تمكن من الهرب والحصول على ملجأ في روسيا التي وصلها قادما من هونغ كونغ.
السلطات الأمريكية استخدمت كل وسائل الضغط والترهيب ضد الثلاثة، حيث حرضت بريطانيا والإكوادور ضد أسانج وتعقبته بلا هودة وجعلت منه سجينا في سفارة الإكوادور في بريطانيا عدة سنوات قبل أن تعتقله السلطات البريطانية، ولا تزال الداخلية البريطانية تنظر في مسألة تسليمه للولايات المتحدة، بعد صدور قرار من محكمة لندن بترحيله إليها.