صحيح أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ظهر حتى الآن، في أكثر من مناسبة سبقت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فاقداً أصول التخاطب الذي يجب أن يتحلى به رئيس الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأقوى والأقدر عالمياُ، والتي يُفترض برئيسها أن يكون متماسكاً، وذلك من خلال تفوهه بكلمات نابية، أو من خلال توجهه إلى بعض الصحافيين بإهانات أو بكلام غير ملائم، رداً على أسئلة عدّها محرجةً له فيما لو أجاب بواقعية.
وصحيح أيضاً أنه ظهر في بعض المناسبات، ومنها مناسبات رسمية، غيرَ متماسك لناحية معرفة ماذا يجب أن يقول أو ينطق، مع نسيانه كلمات أساسية، واضطرار مساعديه إلى كتابة أغلبية الكلمات المفاتيح في خطاباته، أو في كلماته التي من المفترض أن يكون قادراً على ارتجالها، شأنه شأن أغلبية رؤساء العالم، وخصوصاً الأميركيين منهم.
تبقى هذه التصرفات غير مهمة وتحدث مع رجل، تَراكَمَ عليه كثير من المشاكل والأزمات مع طَعنه في السن، لكن يبقى الأهم والأخطر ربما، ما يمكن متابعته من وقائع بشأن السياسة التي بدأ يتبعها مؤخراً، والتي تؤشّر بقوة على أنه أصبح تقريباً فاقداً لأعصابه، على نحو شبه كبير.
لقد اضطرّ أكثر من مسؤول في الإدارة الأميركية مؤخراً، وحتى الرئيس بايدن شخصياً، إلى النفي أو التراجع وتوضيح المقصود من مضمون تصريحاتٍ شخصيةٍ تناول بها الرئيس بايدن الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين، من وصفه بمجرم الحرب، إلى نعته بالجزّار، إلى التصريح بأنه يتمنى خلعه عن السلطة ويعمل من أجل ذلك. كل ذلك كان مثار استغراب من أغلبية المتابعين والمعنيين على نحو لا يوحي إليهم إلاّ أن هناك فقداناً لأصول التخاطب أو لأصول الدبلوماسية من جانب الرئيس بايدن، وفقدانه، بصورة جزئية كما يبدو، لأعصابه.
البُعد الآخر المرتبط بموقف الرئيس بوتين وقراره وبالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والذي بدأ يشكّل ضغطاً غير بسيط على الرئيس بايدن، هو أن الروس، على الرغم من كل هذا الضغط العالمي والعقوبات والأسلحة والدعم الذي يتمّ تأمينه لأوكرانيا على وجه السرعة، فإنهم ما زالوا في المسار المضبوط والذي حدّدوه لعمليتهم العسكرية، وما زالوا مسيطرين على الخطوط العامة التي وضعوها من دون تردد أو تراجع.
وتداعيات هذا الموضوع بدأت تظهر على الموقف الأوكراني أولاً، لناحية الإيحاء بموافقتهم على أكثر من شرط أو هدف روسي، وثانياً على الموقف الأوروبي غير المتوازن، لا اقتصادياً ولا سياسياً، ولا حتى عسكرياً، الأمر الذي يؤشر على بدء إمكان تزعزع العلاقة الأوروبية الأميركية، على الأقل.
وإذا لم نتكلّم على تزايد مستوى الخطر المباشر على الدول والمدن الأوروبية، جراء ارتفاع إمكان تدحرج المواجهة الروسية ضد الناتو مباشرة، فإن موضوع الطاقة والغاز الروسيَّين، وطلب روسيا تأمين الثمن بالروبل بدلاً من اليورو أو الدولار، بدآ يخنقان الأوروبيين. وإذا كان الأميركيون يملكون احتياطياً استراتيجياً من النفط، فهذا الأمر غير متوافر للأوروبيين بتاتاً، ولا يبدو أن أوروبا قادرة على الصمود طويلاً في هذه المواجهة غير المتكافئة ضد الروس.
وما يؤكد بدء هذا التباعد بين الأميركيين والأوروبيين بشأن موضوع الطاقة، هو إعلان الرئيس الأميركي سحب مليون برميل نفط يومياً، في واحدة من أكبر عمليات السحب من الاحتياطي الاستراتيجي، لمدة ستة أشهر، مشدّداً على ضرورة بدء تخزين النفط عندما تبدأ الأسعار في الانخفاض، وموضحاً أن “الوقت ليس ملائماً كي تحقق شركات النفط أرباحاً قياسية، وأنه ينبغي لنا أن نكون مستقلين في مجال الطاقة في الأمد الطويل من خلال زيادة المعروض من النفط لخفض الأسعار، وأنّ على الشركات أن تزيد في حفر الآبار والإنتاج”.
صحيح أن هذا الإجراء يُعَدّ طبيعياً لمواجهة ارتفاع اسعار النفط عالمياً، وخصوصاً في أميركا، لكنّه ضرب بعُرض الحائط كل الاستراتيجيات السابقة، والتي هي نتاج مسار طويل من الدراسات والتجارب الاقتصادية والمالية، كانت قد خلصت إلى ضرورة إبقاء مستوى احتياطيّ النفط فوق خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وخصوصاً أنه احتياطي استراتيجي يرعى احتمال تعرُّض الدولة لأزمة طويلة، من غير المؤكَّد اليوم إلى متى ستطول في ظل المواجهة الحالية، المكشوفة والشرسة مع الروس.
الأهم في الموضوع هنا، أن هذا القرار صدر بعد أن فشل الرئيس بايدن في إجبار السعودية والإمارات على رفع مستوى إنتاجيهما من النفط من أجل تغطية فارق السوق، الذي نقص من النفط الروسي. وهنا يمكن أن نذهب إلى مقاربة أخرى بشأن هذا الواقع الاستثنائي المستجدّ في العلاقة بين واشنطن وكل من السعودية والإمارات، بحيث كان شائعاً حتى الآن، أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية ومعها الإمارات، هي في جَيب واشنطن، تدير سياساتها وترعاها وتوجهها كما تريد، ليكون رفض الدولتين، أو عدم تجاوبهما مع الطلب الأميركي بشأن زيادة إنتاج النفط، صدمةً غير متوقعة من الأميركيين.
من جهة أخرى، كأنه لم يكن ينقص الرئيس بايدن ضغوط الموقف الخليجي (الإماراتي والسعودي)، أو لم يكن ينقصه أيضاً موقف الجزائر الثابت بشأن التزام “اتفاق أوبك” فيما يتعلق بتحديد سقوف إنتاج النفط، وعدم الرضوخ لواشنطن بشأن زيادة الإنتاج لتغطية نسبة من الإنتاج الروسي، حتى جاءته الصدمة الأخيرة المزدوجة من تركيا وباكستان، إذ فضح رئيس وزراء الأخيرة، عمران خان، الأميركيين صراحة، بقوله: “أعلن أمام الشعب أنّني تلقَّيت رسالة تهديد من أمريكا، التي هددت بإسقاط حكومتي لأنني رفضت إقامة قواعد عسكرية لها في أرضنا.
وإنني لن أركع أمام أيّ أحد، ولن أسمح لشعبي بالركوع أمام أحد”. وإن “سياسة باكستان الخارجية يجب أن تكون مستقلة ولا تصطفّ ضد أحد “، وليأتيَ القرار التركي القاضي بإنهاء التحقيق، الذي تُجريه السلطات القضائية التركية بشأن مقتل جمال خاشقجي، لمصلحة السلطات القضائية السعودية، كأنه جاء لانتزاع ورقة الضغط الاحتياطية الأميركية على الأمير محمد بن سلمان، والتي كانت تراهن عليها واشنطن بمشاركة أنقرة.
من هنا، بين ثبات الرئيس الروسي ومثابرته على العملية العسكرية في أوكرانيا نحو تحقيق الأهداف، متجاوزاً كل الضغوط، مع انتقاله إلى مربع الضاغط وليس المضغوط، وبين تقاطع مواقف عدة دول إقليمية، على نحو غير متوافق مع التوجهات الأميركية، التي تملك نفوذاً غير بسيط في مجالات الطاقة والنفوذ داخل المجتمع الإسلامي والموقع الاستراتيجي لكل من باكستان والسعودية والإمارات والجزائر وتركيا، لا يبدو أنه سيكون للرئيس بايدن قدرة على مواجهة هذه الضغوط.
ومن شبه المؤكد أنه، بالإضافة إلى فقدانه أعصابه وفقدانه القدرة على اتخاذ القرارات الملائمة لمصلحة استراتيجيته، فلقد أصبح وارداً جداً أن يُعِيد النظر في هذه الاستراتيجية، التي ستتراجع نحو فرض ابتعاد الأميركيين عن موقع القطب الأوحد عالمياً.
________
شارل أبي نادر