برَزَ في هذه المرحلةِ من المواجَهةِ المُستمرَّةِ بين الجمهورية اليمنية وتحالُفِ العدوان الأمريكي السعوديّ، إطلاقُ الأخير وَغيرَ مرة تهديداتٍ باستهدافِ عددٍ من الأعيان المدَنية الحيوية، ومن الملاحظ أن أخطرَها جاء في أعقابِ تصاعُدِ عمليات القوات المسلحة اليمنية في العُمق السعوديّ بدرجةٍ رئيسيةٍ وما تحقّقُه من نتائجَ وتداعياتٍ وأضرارٍ بالنسبة للمعسكر المُعادي.
وهذا التحذير أَو التهديد الذي يربُطُ استهدافَ الأعيان المدنية بما يسمِّيه التوظيفَ العسكريَّ لها من قبل القوات المسلحة، مُجَـرَّدُ تظاهُرٍ زائفٍ بمراعاتها، والشواهد على ذلك سِجِلُّ سبع سنوات من اقتناصها عينًا عينًا ومنشأةً منشأةً وَمئات الشهادات الصادرة عن منظمات أممية ودولية ومحلية بخصوص ذلك.
وَيمكن العودة لذلك، وهذه الحقيقةُ تقودُ إلى تساؤلات عدة أبرزها: ما وراء ذلك وما أهدافُه وهل يقدِمُ تحالُفُ العدوان على تنفيذ تهديداته الأخيرةِ وَما النتائج المُترتبة على ذلك وأية ارتدادات لها؟!
بقليلٍ من التأمل يرِدُ التهديدُ باستهداف “موانئ الحديدة ومطار صنعاء الدولي” -بمُبرّرات واهية- بعد ساعاتٍ من عملية كسر الحصار الثالثة.. إن لتهديداتِ المعسكر المعادي لليمن وظيفةً وهدفاً يتجاوزان السياقاتِ الظاهرة، هذه الوظيفة لنمط التهديد المُتكرّر هي كبحُ عمليات سلاح الجو والقوة الصاروخية اليمنية وَفرملةُ الاندفاعة اليمنية وَترهيبُها بتدمير المنشآت المُحاصَرة عن تقديم الخدمات في الواقع، وهذا يعني مُقايَضَةَ اليمن بين تعطيلِ موانئ الحديدة ومطار صنعاء أَو تدميرها عسكريًّا وَبشكل كُلي، لكن هل هذه الورقة صالحةٌ لمواجهة ربط اليمن وقف عملياته العسكرية برفع الحصار؟
يحملُ التهديدُ باستهداف مطار صنعاء وَموانئ الحديدة وَوضعها تحت طائلة الخيار العسكري، إشاراتٍ إلى النتيجة الخطيرة لتنفيذ التهديد، وهي إفقادُ اليمنِ القنواتِ الأَسَاسيةَ للحركة التجارية المختلفة عبر البحر وَالجو أَيْـضاً، وَلا شك أَنَّ هذه النتيجةَ خطيرةٌ بالنسبة لليمن؛ لتوفيرها أرضيةً ثابتًة لفرض حالة حصار مطولة على اليمن، لكن هل يعي التحالُفُ ما ارتدادات ذلك على السعوديّة؟
إن ما يمنعُ تحالُفَ العدوان عن الإقدام على تنفيذ التهديد هو حسابات ماذا بعدُ؟ هل ستدمّـر غاراته وَتقطع شرايين الحياة لليمن ثم يذهب للاستجمام بعد الإعلان أن التحالُف لا يعترض أية سفن في البحر وَلا أية طائرات في الجو عن قصد اليمن؟ التهديدات وَإن كانت تبعَثُ بِصبيانية التقديرات، لكن الاقتصار على تكرارها واتِّخاذها كورقة ضغط يؤكّـد أن النظام السعوديّ يدرك جيِّدًا ماذا يعني الاستهدافُ العسكري لموانئ الحديدة والصليف ومطار صنعاء ويضعُ أمامه سيناريوهات ما بعد ذلك
ويرى جيِّدًا المملكةَ تذوي تحت العطش والحريق قُبَيلَ أن تضرِبَ المجاعة والفوضى اليمن؛ بفعلِ ما دُبِّرَ له من مخطّط الحصار، وهذا يعني أن المنطق والحنكة والعقلانية تثبت أن لا جدوى من هذا التهديد لا بل وتقدمه كخيارٍ مدمّـر للنظام السعوديّ نفسه فيما لو تم اللجوءُ إليه عمليًّا بما سيجُرُّ من ردة فعل.
هذه القراءة في المحصِّلَةِ ترى أن التهديد بتدمير منشآت اليمن الحيوية لا يعدو عن كونه مناورةً؛ بهَدف وقائي يُخفِّفُ مستوى الرضوخ للمعادلة اليمنية التي تربط وقف استهداف بِنية السعوديّة الحيوية برفع الحصار المفروض على اليمن والرسائل المُتبادلة -وإن بشكل غير مُباشر- بين اليمن وأعدائه تُخبِّئُ ماهيةَ هذا الهدف الوقائي وبما يرتبط بالضبط وحتى تُظهر هذا الهدف، المعلومة لا التكهن.
لا بأس من الإشارة إلى أن نمطَ التهديد المتَّبع من تحالُفِ العدوان، سياسةٌ صهيونية برزت كأدَاةٍ قتالية في وجه الشعبَين الفلسطيني وَاللبناني، ولا بأس أَيْـضاً الذهاب بعيدًا عَمَّا سبق والبحث فيما إذَا كان تحالُفُ العدوان وَالحصار يملك من الأوراق -غيرَ التهديد بقصف موانئ الحديدة ومطار صنعاء- ما يحمي الذهبَ الأسود؟ هذا السؤال يَتَغَـيَّا التفصيلَ للأوراق التي قد يمسِكُ بها تحالُفُ العدوان؛ لفرض استمرار الحصار دون المغامرة بضربِ منشآت اليمن الحيوية المتبقية، وفي تفاصيل ذلك سنجد أن محاولاتِ التحالُفِ الالتفافَ على أوراق اليمن، مُغامَرةٌ بأغلى ما لدى النظام السعوديّ.
مُغامرةٌ تضعُ أكبرَ مصفاة لتكرير ومعالجة النفط الخام وثاني أكبر حقل نفطي على مستوى العالم في مرمى انتقام المُحاصَرِين، والأمرُ بعكس ذلك -بعيداً عن المغامرة- إن كانت الرياض قد أمِنت تماماً ما يُجنبها عمليةً يمنية تعطّل نصف إنتاجها من الطاقة وتهشّم فقرات عمودها الفقري، هذه الفرضية مُحتملةٌ في حال كانت السعوديّة قد عزمت التوقف عن اعتراض الناقلات والسفن المتوجّـهة نحو ميناء الحديدة واقتصرت على تعليق ذلك بمستوردي المُشتقات النفطية المُرتبطين بها من جهة ومن أُخرى في ظل مُحاصرة أي مستوردين آخرين عن الآليات والقنوات الضامنة لبلوغ الاستيراد وَهكذا يُمكِنُ للرياض أن تُقدِّمَ تعهُّداتٍ واضحةً لليمن بعدم اعتراض أيٍّ من ناقلات الوقود المتوجّـهة لميناء الحديدة، مقابل وقفِ عملياتِ استهدافِ منشآتِها النفطية،
ولكن في ظل الركونِ لمفاعيل العقوبات الأمريكية واعتراضها أية ثغرات تضمن الاستيرادَ؛ بناءً على هذه المعطيات نجد أن الخيارَ العسكري اليمني لن يُشكّل حلًّا شاملًا لتفكيك الحصار -إلا في حال كان ينطلقُ من قاعدةٍ تضمَنُ وتلبِّي آليةَ استيراد غيرَ مقيَّدة بالوجه الآخر للحِصار أَو ما تُسمى (العقوبات الأمريكية)- وَهذا أمر لا يُمكن أن تغفلَه القيادةُ مُطلقاً، ولكن في المُقابل قد يتخذُه تحالُفُ العدوان مركباً لتوزيعِ الأدوار بين واشنطن والرياض وعُقدةً للإطالة في الأخذ والرد ويُمكن عَــدُّ وصول اليمن إلى تنفيذ عملية عسكرية ثالثة لكسر الحصار مؤشرًا عن ذلك،
وغير ذلك يظل الثابت أن الوضع الحالي لا يجب أن يستمرَّ وَيتطلَّبَ إرضاخَ المُعادي بأسرع وقت، وتحقيقه يُعيد الخيار العسكري للواجهة، ومن هنا يمكُنُ قراءة الهُدنة المقترحة أممياً غطاء لإخفاء رضوخ تحالُف العدوان واتّجاهه تحت ضغط عمليات القوات المسلحة لرفع الحصار عن إمدَادات اليمن المختلفة لتصلَ عبر موانئ الحديدة وقد يجري مَدُّ الهُدنة المقترحة بعد ذلك ليتجاوُزِ عمرها شهر رمضان،
وقد تكون الهدنة المقترحةُ -كما هو الحال مع ما يسمى مشاورات الرياض- مُجَـرَّدَ عناوينَ جديدةٍ لإطالة أمد الحصار والالتفاف على خيارات اليمن وتصويرها حالة عدوانية تجاه مقترحات الهدنة… إلخ، وأياً تكُنْ وظيفةُ الأمرين معاً -الهُدنة المقترحة والمشاورات المزعومة- تبرز مبادرةُ الرئيس المشير الركن مهدي المشاط، مَخرَجاً مناسباً لتحالُفِ العدوان الأمريكي السعوديّ من المأزِق الذي يجدُ نفسَه فيه وشدة وطأة ذلك في ظل المواجهة الروسية الغربية على المسرح الأوكراني وما أسفرت عن ضغوط مُتبادلة.
إعلانُ الرئيس المشاط المبادَرةَ وتحديدُها بزمن يضطلعُ بمهمة مواجهة التكتيك السعوديّ الأمريكي في السياسة؛ لتجنُّبِ الضربات المنكلة بهم في الميدان العسكري، وهكذا فالمبادرة إغارةٌ سياسية وعسكرية -لشموليتها وموضوعيتها- ناجحة حاصرت المُعسكرَ المُعادي دبلوماسياً وعسكريًّا وحشرته في جزء من ميدان النزال مع اليمن، ألغت المبادرةُ كُـلَّ ما أنتجه حلفُ العدوان وأسقطته أرضًا وثبتت حقَّ اليمن في مواصلة ضغوط كسر الحصار الذي يختنقُ به بعيد ثلاثة أَيَّـام حدّدت لتلقيَ مبادرة حسن نوايا من معسكر العدوان الأمريكي السعوديّ، أي أن السعوديّ وَالأمريكي قد يُصبحان أَو يمسيان على عمليةٍ يمنية تستهدفُ البُنية النفطية الأكثر حيوية في شبه الجزيرة تهزُّ أمنَ أكثر المواد استراتيجية في العالم وتُحدِثُ اضطراباً في سوق النفط يجتازُ ما تسبب به استهدافُ الغربِ لروسيا،
وبالتالي الكرة في ملعب دبلوماسية العدوان لتفادي هذه النتائج المُرعبة أَو للنجاة من غضب يمني تُذكِّرُ به عمليةُ العام 2019 الشهيرةُ التي ضربت بقيق وخريص، وكما هو واضح يبدو النزالُ سياسيًّا ودبلوماسياً ساخناً كما هو الحال في الميدان العسكري وقد قيل سابقًا إن الحربَ في المُجمل أدَاةٌ تخدُمُ السياسة، وهي في اليمن كذلك وحكومةُ صنعاءَ إلى إرغام المعتدي أقربُ ليس فقط عبرَ تزخيم عمليات سلاح الجو المسيَّر والقوة الصاروخية، ولكن بما يملكُه اليمن في جُعبته من خياراتٍ أُخرى لمواجهة الحصار المُعزَّز بورقة العقوبات الأمريكية أَو كشكل للضغوط القصوى للحصار، أمام اليمن ما يمكن وصفه بخيارات الطوارئ الماثلة وهي الاستيراد من جهات تواجه مختلف الآليات الأمريكية المُستهدفة لمناوئيها والمشتبكين معها.
أمامَنا الجمهوريةُ الإسلامية في إيران لاستيراد النفط وَتخفيف حِدَّةِ الحصار الأمريكي المفروض على هذا الشعب العظيم، ويُمكن لليمن أن يفعلَ ذلك كخيارِ ضرورة وإنقاذ بديل للخيارات المُحاصرة بأشكال الحصار المُختلفة وكخيار استراتيجي على قاعدة واحدية معركة محور المقاومة الممتد من طهران إلى غزة وكمسار يُسقِطُ سياسَةَ المُعسكر المعادي القائمة على تجزِئةِ المواجهة مع الأُمَّــة الإسلامية بشكل عام ومحور المقاومة بشكل خاص،
وَهكذا نجد أن المجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ الوطني أمام مهمة التأسيس لخط مفتوح لاستيراد المشتقات النفطية وغيرها من الواردات من إيران وحماية ذلك بإعلان كُـلّ سفينة مُبحرة باحتياجات اليمن أرضاً يمنية يعني استهدافُها أَو اعتراضُها تعريضَ كُـلّ سفن تحالُف العدوان على اليمن في مرمى اليمن ويشعل النيران في ممرات التجارة والملاحة الدولية، وعلى الغرب أن يتحمَّلَ نتائجَ ومسؤوليات ذلك.
إن مُعادلةَ عبورٍ آمنٍ للجميع وأمام الجميع مِظلَّةُ اليمن المُتاحة لكسر الحصار، وبعكس ذلك تماماً يظلُّ المُعسكرُ المعادي أمام مآزق تعريض أمن خطوط التجارة الدولية للاهتزاز؛ لمجموعة أسباب آخرها الاشتباكُ الحاصلُ في أوكرانيا وتداعياته التي تتحول مع أي متغير في منطقتنا لهجومٍ كاسِحٍ يضرِبُ في دول الغرب وَيرفعُ مستوياتِ الارتداداتِ الناتجة في الأصل عن حصار الغرب المفروض على روسيا الاتّحادية.
تحليل المسيرة – عبدالحميد الغرباني