مبادرة صنعاء جاءت من موقع قوة وليس من “موقع ضعف” كما قرأها السعوديون، بأنها جاءت تحت ضغط الغارات الجوية في الحديدة وصنعاء وغيرها من المحافظات.
يقول بروس ريدل، وهو مستشار أميركيّ لخمسة رؤساء سابقين، إنّ “المملكة العربية السعودية فشلت فشلاً ذريعاً في حملتها لهزيمة المتمرّدين الحوثيين”. وقد تساءل مدير وكالة المخابرات المركزية، جون برينان، في إحدى مذكّراته عما يدخّنه محمد بن سلمان (اعتبر أنه يحشّش) عندما قال له في العام 2015: “ستتم إطاحة الحوثيين في غضون أسابيع قليلة”، واعتبر فرضية هزيمة “أنصار الله” بالقوة الجوية استراتيجية معيبة.
هذه هي قناعة الأميركيين الذين دفعوا النظام السعودي إلى الغرق في مستنقع اليمن. ومع ذلك، لا يزال يكابر ويحاول القفز على هذه الحقيقة التاريخية التي كنا نؤمن بها منذ أول غارة عشية 26 آذار/مارس 2016.
وبما أنَّ السعودية فشلت، رغم إنفاقها مئات المليارات من الدولارات، وبما تملكه من ترسانة عسكرية هي الأكبر ربما بين الدول العربية، فقد نجح اليمنيون بالصمود خلال 7 سنوات من الحرب والحصار، واستطاعوا بصمودهم الأسطوري أن ينقلوا الحرب إلى العمق الاستراتيجي في السعودية والإمارات، وباتوا يملكون قوة عسكرية جبارة، رغم الحرب والحصار.
وكان من مفاعيل تلك القوة عمليات استراتيجية كبرى، من بينها عملية “كسر الحصار” الثالثة التي سمّرت الرأي العام العربي والعالمي أمام الشاشات وهم يرون ألسنة اللهب تلتهم منشآت النفط السعودية، وأعمدة الدخان تتصاعد على مدى يوم كامل.
ورغم أنّ نيران العملية الأخيرة لم تهدأ بعد، فقد قدم الرئيس مهدي المشاط مبادرة السلام اليمنية، وهي مبادرة صادقة وعاقلة تضمَّنت 4 نقاط أساسية، أبرزها “تعليق الضربات الصاروخية والطيران المسير وكل الأعمال العسكرية باتجاه السعودية براً وبحراً وجواً لمدة 3 أيام”، واستعداد صنعاء لـ”تحويل الإعلان إلى التزام نهائي ودائم في حال التزمت السعودية بإنهاء الحصار ووقف غاراتها على اليمن بشكل نهائي ودائم”.
وأعلن نائب وزير الخارجية حسين العزي أنَّ المبادرة دخلت حيّز التنفيذ ابتداء من الساعة السادسة بتوقيت صنعاء في 27 آذار/مارس 2022، وستنتهي بالتزامن مع انعقاد المشاورات بين السعودية ومرتزقتها.
بهذه المبادرة، قدمت صنعاء سلم النجاة للسعودية من جحيم عملياتها الاستراتيجية القادمة، ومنحتها فرصة تاريخية للخروج من المستنقع اليمني، ووفّرت عليها عناء استجداء الحماية من سيدها الأميركي، الذي فشلت كلّ منظوماته الدفاعية في حماية المنشآت النفطية السعودية وحماية العمق الإماراتي، والشواهد العملية من خلال عمليات الردع السابقة كثيرة لا يتّسع المقام لذكرها. وإن فوتت هذه الفرصة فقد نكون أمام عمليات أكبر، وهذا ما يوحي بها تحذير السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في خطابه الأخير: من “تفويت فرصة المبادرة” وبأنهم “سيندمون إذا فوتوها”.
وهذا يؤكد بأن المبادرة جاءت من موقع قوة وليس من “موقع ضعف” كما قرأها السعوديون بأنها جاءت تحت ضغط الغارات الجوية في الحديدة وصنعاء وغيرها من المحافظات. إنَّ مثل هذا الاستنتاج غبي وسخيف، وينبئ بسطحية كبيرة في فهم أبسط قواعد تحليل الخطاب السياسي؛ فلو كانت صنعاء تخشى التصعيد والغارات، لرضخت وانكسرت وانهارت منذ الأشهر الأولى للعدوان، ولما صمدت طيلة 7 سنوات أمام مئات الآلاف من الغارات الجوية والحرب الاقتصادية الشرسة والحصار الخانق، ولكان موقفها السياسي والعسكري والشعبي ضعيفاً منذ البداية.
ما لا يدركه أو يتجاهله الإعلام السعودي أو المموّل سعودياً (ليس هناك موقف رسميّ سعوديّ حتى الآن) هو أنَّ المبادرة الأحادية مثّلت خطوة ذكية جداً من صنعاء في توقيتها، وانطلقت من موقع قوة على المستوى العسكري والسياسي والشعبي. ويمكننا أن نستوحي ذلك من عدد من المعطيات التي جاءت المبادرة في سياقها:
– معادلات قوية جداً أطلقها قائد الثورة عبد الملك بدر الدين الحوثي في ختام كلمته السنوية في ذكرى الصمود الوطني في نهاية سنوات العدوان السبع، وكشف فيها المستوى المتقدم الذي وصلت إليه القوات المسلحة اليمنية في مسار التصنيع العسكري للأسلحة الاستراتيجية، وقدرتها على إطلاق الصواريخ والمسيرات من أيِّ مكان ضد أيِّ هدف في أيِّ مكان، سواء في البر أو البحر.
وكان حديثه عن البحر لافتاً جداً، وكأنه يلمح إلى عمليات بحرية، إلى جانب العمليات باتجاه العمق السعودي، ضمن مسار عملياتي متصاعد لكسر الحصار، حتى إنه توعّدهم بالغرق في البحر كما غرق فرعون.
– جاءت المبادرة في وقت لا تزال نيران اللهب تشتعل في المنشآت النفطية التي استهدفتها القوات المسلّحة في عملية “كسر الحصار” الثالثة، ولم تبرد الخزانات من سخونة الرد اليمني المزلزل.
– أتت المبادرة بعد خروج مليوني شخص في مختلف الساحات بأكثر مما كان عليه الشعب قبل 7 سنوات، رغم ظروف الحصار وأزمة المشتقات النفطية والضائقة المالية الكبيرة، في مشهدية تجسّد عمق العلاقة بين القيادة والشعب رغم الصعوبات.
– في الدلالات والتوقيت السياسي، جاءت المبادرة بالتزامن مع دعوة سعودية عبر مجلس التعاون الخليجي إلى مشاورات شكلية في الرياض، اختارت الأخيرة قائماتها (من مرتزقتها) وحدّدت أجندتها، وأرادت من خلالها إحراج صنعاء وإظهار بأنها رافضة للسلام.
– جاءت المبادرة في ظلِّ مناقشات أممية لإرساء هدنة إنسانية تتضمن معالجات إنسانية ووقف للعمليات العسكرية منذ أكثر من شهر مع الأمم المتحدة. وقد ناقشت ذلك مع جميع الأطراف، بما فيها الوفد الوطني لصنعاء.
وفي الأهمية السياسية للمبادرة، أثبتت صنعاء جديتها في السلام، وحشرت الرياض في زاوية ضيّقة، إذ كانت الأخيرة تريد أن تسجل نقاطاً على حسابها بتصويرها أمام المجتمع الدولي بأنها ترفض السلام.
كما كانت السعودية حريصة على أن تستبق مساعي الأمم المتحدة، ربما بإعلان هدنة في رمضان، ليس بهدف تحفيف الأزمة الإنسانية، إنما لحماية نفسها وتحييد منشآتها النفطية عن عمليات الردع الاستراتيجية اليمنية، في ظل توقيت دولي حساس على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وقد اعترفت الرياض رسمياً عبر وزارة الطاقة بأنّ العمليات اليمنية الأخيرة تركت آثاراً جسيمة في قطاعات الإنتاج والمعالجة والتكرير، وستفضي إلى التأثير في قدرة السعودية الإنتاجية، وأبدت خشيتها من تراجع إمدادات الطاقة إلى السوق العالمية.
إنّ المملكة السعودية بين خيارين في هذه الأيام الحاسمة (المهلة المحددة)؛ إما أن تستجيب لمبادرة صنعاء وتضمن أمنها وأمن منشآتها النفطية، بعيداً عن استجداء الأميركي وغيره، والاستجابة هنا لا تقتصر على وقف النار، بل تشمل رفع الحصار كأولوية أساسية وملحة، وإما ترفضها وتتجاهلها، وبالتالي ستكون أمام عمليات مفاجئة قد لا تقتصر على عمقها، بل ستمتد على الأرجح إلى صادراتها النفطية، بما في ذلك البحر. وقد كان كلام السيد عبد الملك الحوثي واضحاً في هذا السياق، وهو لا يأتي من قبيل التهديد والحرب النفسية بقدر ما يأتي من باب الحرص على السلام، وفوات الفرصة غصة.
طبعاً، من المأمول أن تستجيب السعودية المأزومة لمبادرة صنعاء الصّادقة، بهدف رفع الحصار وسحب القوات الأجنبية من اليمن وإنهاء الحرب العدوانية العبثية التي رست على نتائج صفرية للملكة خلال 7 أعوام وتهيئة المناخ السياسي اللازم لذلك، لكنَّ المعطيات وطبيعة العقل السعودي المتصحّر والمكابر لا تبشّر بذلك.
كما أنّ سلوك السعودية العدواني لا يبشّر بذلك أيضاً. وما لم تستجب للمبادرة خلال المهلة المحددة، واستمرت بالقصف والحصار، فإنَّ العمليات ستعود بشكل أقوى وأقسى من ذي قبل، وهذه معلومات، وليست مجرّد تحليل، وبالتالي إن إنهاء الحرب الأميركية السعودية على اليمن مرهون بالاستجابة الصادقة لمبادرة صنعاء.
علي ظافر