بسبب استبعاد استخدام الأسلحة النووية، لم يهتم كثيرون، خلال الأعوام الماضية، بالتطورات المتلاحقة في مجال السلاح النووي، على الرغم من أن تلك التطورات هي أحد الأسباب الرئيسة فيما يجري حالياً في أوكرانيا. وما حديث الرئيس الروسي عن قوات الردع النووي إلا ردة فعل على خطوات أمريكية تعود إلى ما قبل عقد وأكثر.
ومن خلال العودة إلى التحركات الأمريكية من أجل تحديث الأسلحة النووية وتطويرها، والخروج من الاتفاقيات والمعاهدة الناظمة لسباق التسلح النووي، نجد أن واشنطن متهمة، بصورة رئيسة، بتدمير قواعد النظام الأمني الذي تَشَكَّل خلال عقود الحرب الباردة. وها هي اليوم تدفع العالم إلى مصير كارثي، حاولت روسيا عدم الانجرار إليه من خلال ما قدَّمته من مقترحات وحلول من أجل تأسيس نظام أمني عالمي جديد، على الأقل في القارة الأوروبية.
انسحابات أمريكية
مطلع العقد الثاني من هذا القرن، بدأت واشنطن تطوير أسلحة نووية ضمن ترسانتها، بالتزامن مع تحركات توسعية لحلف شمال الأطلسي في اتجاه الحدود الروسية. ومع اقتراب واشنطن من تحقيق كل أهدافها في أوكرانيا، ولاسيما بعد أحداث عام 2014م، بدأت تتجه بصورة معلنة نحو التخلي عن التزاماتها، من خلال الانسحاب من الاتفاقيات والمعاهدات المتعلقة بالأسلحة النووية. ففي شباط/فبراير 2019م، انسحبت واشنطن من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى.
وفي أيار/مايو 2020م، انسحبت من معاهدة الأجواء المفتوحة، وبدأ التلويح الأميركي بالانسحاب من معاهدة ستارت 3 الخاصة بخفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. وتزامن ذلك مع تطوير مستمر للصناعات العسكرية النووية، كإنتاج رؤوس حربية نووية حرارية في عام 2019م.
استدعت الخطوات الأمريكية اليقظة الروسية. فبعد الإعلان الأميركي الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى، ردّت موسكو بالمثل، وعلَّقت مشاركتها في المعاهدة. وفي العام الماضي انسحبت روسيا أيضاً من معاهدة الأجواء المفتوحة، كرد فعل على انسحاب الولايات المتحدة منها. وحينها عبّر الناتو عن أسفه لانسحاب روسيا، كأنه بذلك يريد أن يستمر تحليق طائراته فوق روسيا على اعتبار أن سائر دول الناتو لم تنسحب من المعاهدة.
ومع تطوير واشنطن للقنابل النووية من طراز “بي 61″، تضاعفت الاستعدادات الروسية لاحتمالات شن حرب نووية، استناداً إلى نتائج عملية التطوير، ولاسيما فيما يتعلق بالتحكم في القنبلة لتصيب أهدافها بدقة، من خلال نظام “جي بي أس” وإمكان إطلاقها على ارتفاع عالٍ، وإمكان صناعة أحجام متعددة من هذه القنابل، بالإضافة إلى تعدد وسائل إطلاقها.
التطوير الأمريكي للسلاح النووي
عند تتبُّع مسار التطوير الأميركي للقنابل النووية، نجد أن هذا المسار لا يتعلق بإدارة أميركية بعينها، بل بالجيش الأميركي نفسه، بغضّ النظر عن الإدارة وتوجهها. فتطوير قنبلة “بي 61” بدأ في عهد الديمقراطي أوباما، واستمر في عهد الجمهوري ترامب.
وكان الجانب الأميركي، في عام 2015م، أكد نية واشنطن إنتاج 480 قنبلة نووية من هذا النوع، والتي بدأ اختبارها في عام 2017م. وأعلنت واشنطن مطلع العام الماضي إنتاج الدفعة الأولى من هذا السلاح، الذي يُعَدّ أحدث وأخطر سلاح نووي في ترسانتها.
وأكد هانز كريستنسن، مدير برنامج المعلومات النووية لاتحاد العلماء الأميركيين، أن إنتاج القنبلة “بي 61- 12” هو أهم تحديث نووي لحلف الناتو. وفي الإمكان حمل القنبلة من خلال طائرة “أف 35”. وأشار إلى إمكان وضع القنابل الجديدة في قواعد أميركية في أوروبا.
وبشأن خطورة القنبلة النووية الأميركية، ففي الإمكان صناعة أحجام متعددة، من أجل الاستجابة للأهداف المطلوب تدميرها. فعلى سبيل المثال، يرى الخبراء الروس صعوبة تدمير القواعد الروسية في سوريا عبر الوسائل التقليدية، ما لم يكن هناك صراع غربي كبير مع روسيا. فمن المتوقع أن تتجه واشنطن إلى استخدام رأس حربي منخفض القوة من قنابل “بي 61- 12″، على صاروخ باليستي، لتحقيق الهدف.
ويمكن استخدام رأس حربي بقوة معينه بهدف تدمير مختبرات نووية تحت الجبال. ومن هنا، فإن إيران، إلى جانب روسيا والصين، ستواجه مشكلة حقيقية مع هذا السلاح الجديد؛ أي أننا أمام قدرة عسكرية قد تُستخدم وفق مستويات معينه ضد الدول والأنظمة، بل حتى ضد الحركات والجماعات، من خلال الضربات النووية المحدودة النطاق والتأثير.
هجوم نووي من أوكرانيا
ليس عبثاً أن تكرر موسكو الحديث عن السلاح النووي وعدم السماح لأوكرانيا بامتلاكه، فهذا الموقف ليس ردة فعل على ما تحدّث به الرئيس الأوكراني مؤخراً في مؤتمر ميونيخ بشأن إمكان عودة أوكرانيا لتصبح نووية، بل ردة فعل على مخطط سري للناتو يقوم على تزويد كييف بأسلحة نووية عندما تصبح جزءاً من الحلف.
فليس أمراً جديداً أن تقوم واشنطن بتزويد دولة غير نووية بأسلحة نووية. فالاسلحة النووية الأمريكية توجد في أربع دول، هي إيطاليا وتركيا وألمانيا وبلجيكا، وهي خاضعة لتصرف الناتو في أثناء الحرب. وعلى الرغم من أن هذه الأسلحة هي في مخازن خاضعة للأميركيين، فإن واشنطن قد تمنح دول الناتو حق استخدامها في حالات الطوارئ، ضمن مبدأ الاستخدام المشترك للأسلحة النووية.
وهو ما يعدّه الروس مخالفة واضحة لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. ولعلّ ما أثار انتباه موسكو هو إمكان تعديل طائرات قتالية من طراز “أف 15″ و”أف 16” و”تورنيدو”، لتصبح قادرة على حمل قنابل من طراز “بي 61- 12” النووية، على نحو يعني أننا أمام وسائل جديدة في شن الحرب النووية.
لقد تضاعفت المخاوف الروسية من سيناريوهات متقدمة للحرب النووية، والتي قد تُشَنّ ضد روسيا، ولاسيما بعد أن بلغ التعاون بين أوكرانيا والغرب درجة عالية، وخصوصاً في المجالين الأمني والعسكري، وصولاً إلى التدريبات العسكرية والمناورات المشتركة والوجود الاستخباري الغربي في كييف ومناطق أخرى في أوكرانيا.
واستناداً إلى تطورات الأعوام الماضية، بدأ الخبراء الروس يدرسون احتمالات شن ضربة نووية ضد روسيا من أوكرانيا، ووضعوا أمامهم كل الاحتمالات التي يمكن من خلالها تحقيق أهداف الغرب، بما في ذلك الجوانب الفنية في شن تلك الضربة، وكيف ستكون مخالِفة للقواعد المتعارف عليها في الحرب النووية. وركز الروس على مراقبة المناورات والتدريبات المشتركة لدول الناتو، ولاسيما خلال الأعوام الأخيرة، وكان بين السيناريوهات التي أعدها الناتو حربٌ نووية ضد روسيا.
مراكز الأبحاث البيولوجية
انتشر في أوكرانيا الآلاف من المستشارين العسكريين الغربيين من الجيشين الأميركي والبريطاني، ومن غيرهما من جيوش الناتو، ضمن الجهد الغربي الهادف إلى تحويل أوكرانيا إلى بلد مُعادٍ لروسيا. وكان من ضمن الخطوات الغربية خطط تجهيز مختبرات بيولوجية. وعلى ما يبدو، فإن الاستخبارات الروسية تمكّنت من كشف تلك التحركات. فالعملية العسكرية للجيش الروسي في أوكرانيا بدأت في الوقت الذي كان من المفترض أن تعمل فيه عدة مختبرات ومعامل بحثية، بعد استكمال التجهيزات وتدريب العاملين.
قد يقول البعض إن الحديث عن الحرب البيولوجية مبالَغاً فيه، وقد يكون ضمن البروباغندا الروسية بهدف دفع الروس إلى تأييد التحرك العسكري، غير أن البحث أكثر في تفاصيل هذه القضية سيجعلنا أكثر إدراكاً لأهمية مثل هذه الحرب لدى الطرف الغربي، وهو من قام بنشر عدة مراكز أبحاث في دول شرقي أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول آسيا الوسطى.
ولعل هذا الحديث يفسّر سبب اهتمام الجيش الروسي بالسيطرة على المفاعلات النووية في أوكرانيا، وعلى مراكز الأبحاث أيضاً، مع الحرص على أن تكون السيطرة مشتركة حتى لا يستخدمها الطرف الآخر ضد الجيش الروسي نفسه، ناهيك بأن الخطاب الرسمي الروسي يكرّر تأكيد منع كييف من امتلاك الأسلحة النووية ضمن الحديث عن أوكرانيا المستقبلية، كبلد محايد ومنزوع السلاح.
محاولة موسكو الأخيرة
تنظر روسيا إلى تحركها العسكري الأخير على أنه ضرورة قصوى للحفاظ على روسيا ومكانتها، ولا يوجد خيار آخر، ولاسيما بعد أن حاولت موسكو دفع الغرب إلى صياغة اتفاق جديد للأمن العالمي. فقراءة الموقف الروسي وطريقة التعامل مع الخطوات التصعيدية الأمريكية، ولاسيما في مجال الأسلحة النووية وتهديد روسيا في مجالها الحيوي، تشيران إلى أن الغرب يحاول إشعال فتيل كارثة عالمية جديدة من خلال الاستمرار في خطوات تحويل أوكرانيا إلى رأس حربة في المعركة ضد روسيا، معتقداً أن هذا المسار، الذي وصل إلى مرحلة متقدمة من التنفيذ.
سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف روسيا التي تمتلك كثيراً من عوامل القوة، ولديها مزيد من الأوراق. وبالتأكيد، فإن آخر ما يمكن أن نتوقعه من الكرملين هو الاستسلام. لهذا، نجد أن وزير الخارجية الروسي يتحدث عن أن الحرب العالمية الثالثة ستكون نووية ومدمرة، وأنه لا يوجد بديل عن العقوبات سوى الحرب العالمية، مشيراً إلى رفض الغرب التعامل مع المطالب الروسية وصياغة رؤية جديدة للأمن الأوروبي.
في الأخير، ليس من السهولة الانحياز إلى الغرب أو إلى روسيا من دون الاطلاع على حقيقة التحركات والمواقف وتطورات الأزمة، ولاسيما أن العالم يحبس أنفاسه في ظل التصعيد المستمر. ويكفي هنا أن أشير إلى المحاولات الروسية من أجل إقناع الغرب بالتوصل إلى اتفاقية جديدة للأمن، وهو ما رفضه الغرب. واستناداً إلى ذلك، لم يجد بوتين أمامه من خيار سوى استخدام القوة.
هذا ليس تبريراً أو دفاعاً أو انحيازاً، بل حديث عن مبادرة حرصت موسكو على تقديمها. ويمكن للجميع أن يقرأ هذه المبادرة، وأن يطّلع على بنودها، ثم يسأل نفسه: لماذا تعاملت واشنطن معها بالتجاهل وعدم الاهتمام؟ هل لأنها ترى نفسها في موقع المتفوق حين غدت معركتها على أبواب روسيا، ولم يتبقَّ أمامها إلاّ خطوات إجرائية بسيطة، كضمّ أوكرانيا إلى حلف الناتو، وبالتالي إركاع روسيا وإخضاعها إلى الأبد؟
___________________
نائب مدير دائرة التوجيه المعنوي
عبدالله بن عامر