أٌعلنت حدود أوكرانيا المعروفة اليوم بما هي عليه بواسطة فلاديمير لينين بين العامين 1918-1921، حيث أعلنت أوكرانيا بحدودها الجديدة كواحدة من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي. لم يكن يومها يقع في الحسبان أن الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى سوف يصبح آيلاً للسقوط، وستنهار جمهورياته الواحدة تلو الأخرى،
ومن ثم ستدخل إليه الشركات الأميركية وبعض من “الإسرائيلية” للسيطرة على آبار البترول والغاز في جمهورياته المتعددة، وأن جورجيا، التي دجنت على يد بوتين، ستغدو واحدة من هذه الجمهوريات التي ستشكل خطراً مباشراً على روسيا.، وستتبعها أوكرانيا لتكون أكبر مصدر لتهديد الوجود الروسي ودخولها في حروب مع إحدى أقوى الدول في العالم.
في حديث قديم مع إحدى الصديقات الأوكرانيات المتحدرة من أم روسية، تحدثت – نقلا عن والدتها – عن المأساة التي حلّت بأوكرانيا بعد دخول الجيش السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية إليها، وتعرض المواطنين للمجاعة والنهب والسرقة وحتى الاغتصاب.. مأساة حقيقية ما تزال ذكراها حاضرة حتى اليوم. لكن الصديقة تأبى الحديث عن الدولة السوفياتية التي أخذت بيد أوكرانيا نحو الحضارة والتحضر والحداثة. يومها حكم ستالين البلاد ـ التي كانت تحارب الاحتلال النازي ـ بيد من حديد.
أما المجاعة التي ضربت اوكرانيا خلال الحرب العالمية الثانية، فضربت بنفس الوقت العاصمة موسكو أيضًا، وتسببت سياسة ستالين بالمعالجة يومها بشرخ كبير وبالكراهية تجاه الجيش والشعب الروسي. عادت الكراهية لتطفو على السطح وابتدأ اللعب عليها منذ عهد الرئيس فيكتور يانكوفيتش، وليحفر أعمق في جروحها في عهد فلادييمير زيلينسكي، رجل أميركا إلى الحكم.
من الواضح تماماً أن بوتين جاء كرئيس استثنائي لروسيا في أصعب المراحل من التدهور الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. وهي مرحلة تحتاج إلى كتب في الحديث عنها. لقد تحولت روسيا في أيام بوريس يلتسين من دولة عظيمة إلى ما يشبه الدولة الرخيصة. ودخلت الولايات المتحدة إلى دوائر القرار ومرافق الدولة العامة والخاصة. ويكفي أن نعلم أن سلسلة مطاعم “ماكدونالد” بما ترمز إليه كأسلوب حياة أمريكي، انتشرت على كامل الأراضي الروسية خلال وجود يلتسين في السلطة.
أعطى يلتسين لأوكرانيا استقلالها وسيادتها على كامل الأراضي التي منحت لها كجمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي. ولكن في الحقيقة فإن أكثر من نصف أراضي أوكرانيا المعروفة اليوم، اشتراها قيصر روسيا من القيصر البولندي. اذ إنه بعد توقيع اتفاق بيريسلاف بين روسيا والقوزاق عام 1654 وفي أعقاب الثورة القوزاقية ضد بولندا دفعت الاتفاقية نحو اندلاع الحرب الروسية البولندية (1654- 1667)، والتي عرفت أيضاً باسم الحرب حول أوكرانيا أو حرب الشمال الأولى او الطوفان الروسي.
ونتيجة للحرب وقعت اتفاقية السلام الأبدي في العام 1668، والتي نصت على ضم الجزء الشرقي من أوكرانيا الواقع في شرق نهر الدنيبر إلى الإمبراطورية الروسية، ودفع القيصر مبلغاً وقدره 146000 روبلاً كتعويض للحكومة البولندية. لم يصادق في البرلمان الخاص بالكومنولث البولندي الليتواني على الاتفاقية حتى العام 1710. ولم تؤكد الاتفاقية حتى تاريخ عقد المؤتمر للبرلمان المذكور والذي يدعى بـ (السيم) في العام 1764. وفيما حكمت روسيا شرق نهرالدنيبر، حكمت بولندا غربه.
وبحسب “ناشونال جيوغرافيك”، فإن شرق أوكرانيا كان خاضعاً للحكم الروسي، أو للتصحيح عما جاء في الموقع، كان جزءاً من روسيا بصك بيع. وبسبب كون شرق نهر الدنيبر جزءاً من روسيا، فمن الطبيعي أن الناس في الشرق بأغلبيتهم كانوا من الروس واللغة الروسية هي السائدة في المنطقة وهم أقرب ميلاً لدعم القيادة الروسية.
ونحن هنا نتحدث عن المناطق التي يتم تداول أسمائها في الوقت الحالي، ومنها إقليم الدونباس وجمهوريتا لوغانسك ودونيتسك، وغيرها من المناطق والمدن، التي دخلها الجيش الروسي في الآونة الأخيرة مثل لوغنسك وخاركوف، وإلى الغرب منها منطقتا زوبوريجيا ودنيبر وبيتروفسكا ومدينة تشيرنوبل، والتي جميعها تقع في أوكرانيا الشرقية. وفي هذه المناطق جالية روسية كبيرة جدا، وهي مناطق بحسب “ناشونال جيوغرافيك”، ما تزال تأمل بالعودة إلى ما كانت عليه الأمور أيام الاتحاد السوفياتي.
وأما غرب نهر الدنيبر فقد بقي واقعا تحت الحكم البولندي، والذي تأثرت المنطقة به من حيث الديانة، اذ تبع شرق الدنيبر المذهب الأرثوذكسي فيما تبع غربه المذهب الكاثوليكي، لأن بولندا كانت وما تزال بمعظمها تتبع الكنيسة الكاثوليكية. لذا ظهور مجموعات في اوكرانيا عنفية وراديكالية وعنصرية له علاقة بتاريخ العلاقة مع اوروبا والكنيسة الكاثوليكية، والتي بحسب “ناشونال جيوغرافيك” أمضت “قروناً تحت السيطرة المتغيرة للقوى الأوروبية مثل بولندا والإمبراطورية النمساوية المجرية، وهو أحد الأسباب التي جعلت الأوكرانييين في الغرب يميلون إلى دعم السياسيين ذوي الميول الغربية”.
وهذه المجموعات تعتبر منبت أوكرانيا “النيونازية”. ولكن في المقابل فإن من عاشوا على شرق الدنيبر، فقد كانوا في حالة استقرار كامل مع الإمبراطورية الروسية والكنيسة الأرثوذكسية وفي المراحل التاريخية لقيام الدولة السوفياتية. وبذلك، يمكننا أن نفهم عمق العلاقة مع روسيا الأم التي لم تتغير. وكان الانتقال السياسي إلى نظام رأسمالي مؤلمًا وفوضويًا لسكان شرق الدنيبر، الذين لا انتماء لديهم للقومية الأوكرانية.
والأكثر من ذلك بحسب ما يقول “أدريان كاراتنيكي”، الخبير الأوكرانى والزميل السابق فى المجلس الأطلنطي بالولايات المتحدة، أن “أكبر انقسام بعد كل هذه العوامل هو بين أولئك الذين ينظرون إلى الإمبراطورية الروسية والحكم السوفياتي بتعاطف أكبر مقابل أولئك الذين يرونهم مأساة”.
يعد القسم الشرقي من البلاد مجالاً حيوياً لأوكرانيا، ولذلك لا يمكنها الاستغناء عنه، وإلا فإن أزماتها الاقتصادية ستزداد عمقاً، اذ تعتبر منطقة دونيتسك، على سبيل المثال، منطقة صناعية وهي تشتهر بكثرة مناجم الفحم والحديد فيها، وبالتالي تقع فيها معامل فحم الكوك وقضبان الحديد، حيث يعمل معظم السكان.
ولكن في الوقت نفسه، فإن الأجزاء الجنوبية الشرقية من أوكرانيا الحالية، والروسية سابقاً، هي منطقة السهوب المعروفة بالتربة الزراعية الخصبة، بينما تمتد الغابات في المناطق الشمالية والغربية.
أي إن الخزان الغذائي لأوكرانيا يقع في القسم الروسي سابقاً، إضافة إلى أن معظم سكان المدن الرئيسية في الضفتين هم من الروس. وبالتالي فإن انفصال القسم الشرقي الذي ابتدأ فعلياً، سيشكل نهاية أوكرانيا كما نعرفها. ويبدو أنه كما ابتدأ الأوروبيون اليوم بتقاسم الأوكرانيين “اللاجئين”، فقد ننتهي بتشتيت القسم الغربي للدولة الأوكرانية.
علينا أن لا ننسى أن الأزمة الأوكرانية ابتدأت مع وصول جورج بوش الابن إلى الحكم، والذي في العام 2004 حث الرئيس الاوكراني فيكتور يانكوفيتش على قبول انضمام أوكرانيا للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فرفض، وأطيح به خلال مظاهرات العام 2014، حيث عمت الاضطرابات في أوكرانيا آنذاك. وجاء بعده بترو بوروشنكو ذو الأصول الروسية، ومثلت مرحلته مرحلة هدوء نوعاً ما.
ولكن الأميركيين كانوا يسعون منذ ذلك الوقت للضغط على بوتين، بعد أن اتضحت سياساته التي تحاول إعادة روسيا إلى مكانتها الحقيقية. خلال العام 2014 بعد أن تم انتخاب بوتين لدورة رئاسية ثالثة في العام 2012، وصل خلالها فلاديمير زيلنسكي إلى الحكم في أوكرانيا، واتضحت معه السياسات الغربية والأميركية التي باتت تسعى لحصار روسيا وبالتالي حصار صعود العملاقين روسيا والصين اللذين باتا يقضان مضجع أمريكا بديمقراطييها وجمهورييها.
عبير بسام – العهد الأخباري