مع اشتداد المعارك الحربية على تخوم العاصمة الأوكرانية كييف، حث الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أعضاء حلف “الناتو” مرارًا وتكرارًا على “إغلاق الأجواء”. بمعنى أوضح، طلب اقامة منطقة حظر طيران، من خلال نشر طائرات “الناتو” في المجال الجوي الأوكراني لمنع روسيا من استخدام قوتها الجوية لدعم عملياتها العسكرية.
في الواقع إن هذه الفكرة تجتذب الدعم في الغرب، لا سيما من قبل جنرالات أميركيين، وحتى بعض السياسيين في دول “الناتو” الذين بدأوا يروجون لمثل هذه الخطوة. فعلى سبيل المثال، غرد النائب آدم كينزينغر (جمهوري عن إلينوي) في 25 شباط/ فبراير الماضي “الولايات المتحدة يجب أن تعلن عن #NoFlyZone فوق أوكرانيا بهدف تعطيل العمليات الجوية الروسية”.
هل يمكن تنفيذ هكذا خطوة فعلًا؟
عمليًا، يعتبر هذا الطرح فكرة كارثية. بمجرد إعلان الولايات المتحدة عن منطقة حظر طيران في أوكرانيا، سيكون إعلانًا أمريكيًا للحرب على روسيا، وسيتحول مباشرة الى أول صراع كبير بين الدولتين اللتين تتحكمان معًا في 90 بالمائة من الأسلحة النووية في العالم.
فمنطقة حظر الطيران ليست مظلة سحرية تمنع الطائرات من التحليق في منطقة معينة. إنه قرار إطلاق النار على طائرات في أجواء منطقة معينة أي الذهاب إلى الحرب.
ما هو موقف الولايات المتحدة من هكذا فكرة؟
تدرك إدارة بايدن المخاطر الناجمة عن مغامرة من هذا النوع. ففي مؤتمر صحفي في 24 شباط/ فبراير الفائت، استبعد الرئيس بايدن بشكل قاطع التدخل الأمريكي المباشر في أوكرانيا قائلا “قواتنا ليست ولن تشارك في الصراع مع روسيا في أوكرانيا”. يقودنا هذا الكلام الى الاستنتاج ان الرئيس الاميركي أزال بشكل فعال “منطقة حظر طيران” ذات مغزى من على طاولة البحث، وليس هناك ما يشير إلى أن بايدن سيغير رأيه.
ومع ذلك، فإن الدعوات إلى منطقة حظر طيران (NFZ) تستحق أن تؤخذ على محمل الجد، بسبب وجود أنصار لها بين العديد من نخب السياسة الخارجية الأمريكية. فهؤلاء الذين يطالبون بالتدخل في أوكرانيا، ما زالوا عالقين في حقبة التسعينيات من القوة العظمى الأمريكية، حيث بدا كما لو أن الولايات المتحدة يمكن أن تفرض رؤيتها للنظام العالمي تحت تهديد السلاح في أي مكان تقريبًا.
والأسوأ أنه غاب عن أذهانهم، أن العملية العسكرية في أوكرانيا هي واحدة من مظاهر اندثار هذه الحقبة، وسياسة الولايات المتحدة التي ترفض الاعتراف بهذا الواقع، هي بمثابة نكبة حقيقة، خصوصًا وأن من شأن فرض منطقة حظر طيران في أوكرانيا أن يضع العالم على شفا حرب نووية.
ماذا عن تجارب أميركا في مناطق حظر الطيران؟
استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها مناطق حظر الطيران ثلاث مرات في العقود الماضية: العراق بعد حرب الخليج الثانية، والبوسنة (منتصف التسعينيات)، وليبيا بعد تدخل “الناتو” في العام 2011. في كل حالة من هذه الحالات، كانت الولايات المتحدة وشركاؤها يواجهون قوات عسكرية ضعيفة إلى حد كبير، ولم يكن هناك نقاش حقيقي حول قدرت أميركا على السيطرة على السماء.
لكن روسيا قصة مختلفة تمامًا، فقوتها الجوية تُقزّم أوكرانيا، وهي الثانية من حيث الحجم بعد القوات الجوية الأمريكية. وعليه لن تكون محاولة فرض منطقة حظر للطيران في أوكرانيا بهذه السهولة استنادا لتلك التجارب السابقة، ولا يمكن القياس مطلقًا على هذا الأمر.
ما هي أوجه الاختلاف بين أوكرانيا ومناطق الحظر الأميركية السابقة؟
من الناحية العسكرية الأميركية، ليس لدى القوات الجوية العدد المناسب من الطائرات بالقرب من أوكرانيا لإطلاق مثل هذه المهمة في المستقبل القريب. والأهم من ذلك، أي جهد لإنشاء منطقة خالية من الطائرات في أوكرانيا، من شأنه أن يجعل “الناتو” منخرطًا بشكل مباشر في صراع ظل خارج نطاقه، وبالتالي ستنشأ فرصة تكاد تقارب 100 بالمائة في أن يؤدي ذلك إلى نزاع مسلح مباشر بين الولايات المتحدة وروسيا.
في سياق متصل، نشرت روسيا ما يقارب 60 بالمائة من مجموع قواتها البرية في مسرح أوكرانيا، وحتما لا تريد أن تفشل. ومن المؤكد أنها لن تقبل بسيطرة “الناتو” على سماء أوكرانيا: القوات الروسية ستقاوم. وهذا يعني حربًا مباشرة بين القوى المسلحة نوويا.
الطامة الكبرى أن بعض السياسيين الاميركيين، يرفضون الاعتراف بحقيقة أن المسألة مع روسيا تختلف عن كل ما واجهته أميركا سابقًا، فهم يجهلون أن الفرق الشاسع بين مناوشة محدودة بعيدة عن حدود موسكو، وبين معركة واسعة النطاق على الأرض التي يعتبرها بوتين روسية بحق.
في سوريا، لم تكن الولايات المتحدة وروسيا مهتمتين بقتال بعضهما البعض: تسعى القوات الأمريكية هناك الى سرقة النفط والثروات السورية، بينما هدف الوجود الروسي دعم الرئيس السوري بشار الأسد بمواجهة مجموعات الارهاب العالمي. ما يجدر الالتفات اليه، أنه كان لدى الأمريكيين والروس آليات اتصال مباشر، تسمى خطوط عدم التضارب، مصممة لضمان عدم وقوع حوادث مميتة.
وبناء على ذلك، الوضع في أوكرانيا مختلف تماما. من هنا فان احتمالات تخلي الروس عن مشروع التدخل في أوكرانيا بالكامل هو ضرب من الخيال، إضافة الى أن اندلاع حرب مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا، ستؤدي الى مخاطر مروعة.
ففي خطابه في الأسبوع الذي أعلن فيه عن العملية العسكرية في أوكرانيا، تعهد بوتين علنًا بأن أي تدخل دولي في الصراع من شأنه أن يؤدي إلى انتقام نووي. واضاف بوتين: “إلى أي شخص قد يفكر في التدخل من الخارج: إذا فعلت ذلك، ستواجه عواقب أكبر من أي عواقب واجهتها في التاريخ. أتمنى أن تسمعني”.
قد يجادل المرء بأن تهديد بوتين خدعة، ولكن هناك أسباب وجيهة لأخذ المخاطر على محمل الجد، لسبب واحد، أنها تتفق مع الموقف العام لروسيا بشأن استخدام الأسلحة النووية، لا سيما بعدما أمر بوتين بالفعل القوات النووية الروسية بإعلان حالة التأهب القصوى مع تصاعد التوترات مع الغرب.
يقول الخبير في كلية “دارتموث” في مجال الأسلحة النووية “نيك ميللر”: “تتضمن استراتيجيتهم (الروس) النووية إمكانية الاستخدام الأول إذا كانوا يخسرون صراعًا تقليديًا أو يواجهون تهديدًا وجوديًا”.
من هنا، ورغم أن أميركا تذرف دموع التماسيح على أوكرانيا، لا يمكن لأي زعيم أمريكي عقلاني أو مسؤول أن يخاطر بتدمير اميركا ـ وربما الجنس البشري بأكمله ـ لإيقاف بوتين.
في المحصلة، فإن الدعوات إلى منطقة حظر طيران هي عبارة عن ضوضاء ومطالبة فارغة بـ “القيام بشيء ما”. ومع ذلك فهي توضح أيضًا مشكلة عميقة في الطريقة التي يفكر بها البعض في المناصب القيادية في الشؤون الخارجية.
د. علي دربج – باحث ومحاضر جامعي