العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.. فجأةً، اكتشف الإعلام الأمريكي والغربي مصطلح المقاومة، وسار على ذات النهج إعلام النفط، الذي أصبحت مفردة المقاومة لازمة إخبارية لديه، وقنوات النفط التي اعتادت وصف كل مقاومة للهيمنة الأمريكية وحتى للعدو”الإسرائيلي” بـ”الميليشيا” ووصمّها بالإرهاب، أصبحت على حين غرّةٍ تتبنى لفظ المقاومة في أوكرانيا شكلاً ومضموناً، وهذا يدخل في باب الإعجاز التاريخي.
إنّ هذا الإعلام وذاك، كان يلقي علينا المحاضرات ليل نهار، في رغد الاستسلام وبحبوحة الانبطاح، وكان دائم التلقين لمشاهديه عن الشياطين أدعياء المقاومة، بينما في أوكرانيا، صارت المقاومة هي الوسيلة وهي الغاية وهي الحق المطلق، وأنّ الأوكرانيين ما خُلقوا إلّا ليقاوموا، بينما من سُلبت أوطانهم، وقُتلوا وشُردّوا وهُجّروا وحُوصروا، ودُمرت بيوتهم ومدارسهم ومصائرهم، على يدّ العدو”الإسرائيلي” أو الاحتلال الأمريكي، ما عليهم إلّا تقديم الشكر لأمريكا و”إسرائيل”، واعتبار كل تلك المجازر ما هي إلّا قضاءً وقدر، وما علينا إلّا التسليم، حتى دون استرجاعٍ أو حوقلة.
ولكن من الجيد أن نسأل، إن كان المشاهد لذلك الإعلام، الذي تشيطنت في رأسه فكرة مقاومة الاحتلال والعدوان والهيمنة، كيف سيعتاد ملائكية المقاومة؟ وكيف تُصاغ في عقله أو تُستساغ في نفسه أحقية المقاومة ووجوبها بل وشدة ألقها؟
ولكن ما لم يأخذه ذلك الإعلام في عين الاعتبار، أنّ الأمر مؤقت، وأنّ ما يحاول تضخيمها من مقاومةٍ أوكرانية، ما هي إلّا بالونٌ فارغ، أو زوبعة في فنجان، أيّ أنّ الوقت لن يُسعفه لإعادة هيكلة الوعي من جديد.
حيث أنّ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بعيدةً كل البعد عن فكرة الاحتلال بمعناه السائد والكلاسيكي، والتي يحاول الغرب ترويجها أولاً، كما أنّ التجربة الروسية في سوريا، لا زالت ماثلة في العقل العسكري الروسي ثانياً، وسيصطدم الرهان الأوكراني على الغرب بسدود التخلي المعتاد، أو عدم الرغبة في الوصول لطريق اللاعودة مع روسيا ثالثاً، وأنّ الجدية الروسية لا تُقارن بالارتعاش الأمريكي والأوروبي رابعاً، كما أنّ دعوات التطوع للمقاومة من خارج أوكرانيا،
لا تُقارن سخريتها إلّا بهزالها خامساً، ومن يقرأ بيانات وزارة الدفاع الأوكرانية عن الخسائر الروسية، يدرك أنّ الأمر شديد الكوميديا سادساً، وأنّ ما يجري هو تريّث روسي لكسب أكبر مكاسب سياسية بأقل قدرٍ من القتال، أكثر منه دفاع أو صمود أوكراني، والخلاصة أنّ أفغنة أوكرانيا مسألة تخطاها الزمن، وقفزت فوقها وقائع الميدان.
ولكن ما يثير الانتباه في ردود الأفعال والمواقف منذ انطلاق العملية الروسية في أوكرانيا، هي عملية التناسخ، فأطراف المعسكر الأمريكي هي ذاتها، والجهات التي تعاديه هي ذاتها، فلا يوجد طرفٌ في الخندق الأمريكي راجع حساباته، أو حتى قرر مجرد النأي بالنفس، رغم التخلي الأمريكي مثلاً، أو الوهن الأمريكي، وهذا يدل دلالة قاطعة، أنّ التبعية أبعد ما تكون عن تحالفٍ أو التقاء مصالح، ولا حتى انتظار مغنم، بل هي عبودية مطلقة، بغض النظر عن نتائجها وتبعاتها.
بينما نحن نتابع تلك الحرب، فإنّ أهم ما يعنينا، أنّها المَعلم الأبرز في طريق انتهاء العصر أحاديّ القطب، وأنّ نتائجها التي تبدو حاسمة حتى قبل أن تبدأ، هي العروة الوثقى لتدشين عالم القرن 21، حيث سيغدو أبعد ما يكون عن كونه قرناً أمريكياً، وهذا بدوره يدفعنا دفعاً للتساؤل عن مصير الخرائط والعروش والكيانات، التي كانت تتنفس الأوكسجين الأمريكي، وتستظل بالحماية الأمريكية كركيزة بقاء، وهذه الأسئلة قطعاً تثور في الرأس”الإسرائيلي”، ولا أريد الجزم بثورانها في رأس النفط، لأنّي لست على يقين من وجود دماغ هناك.
قد تبدو المقارنة بين أوكرانيا و”إسرائيل” في العقل الأمريكي، بعيدة كل البُعد عن الواقع والتاريخ، ولكن الوقائع تشير بقوةٍ نحو البون الشاسع بين الرغبة والقدرة، وبين ما هو مهم وبين ما هو على المحك، حيث أنّ الإمبراطوريات التي تبدأ بالانكماش، تتخلص ابتداءً من أثقالها الطرفية، وتحضرني هنا كلمة للسيد حسن نصر الله في إحدى خطاباته، حيث قال”قد لا نحتاج حرباً لإزالة”إسرائيل”.
إنّ أخطر تطور قد تشهده هذه الحرب على مستقبل الغرب، هو تضامن أو تحالف عسكري روسي صيني، وهو ما سيُعتبر فرصة ذهبية لدولٍ أقليمية عظمى مثل إيران، لتكون جزءً من التحالف، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج، وإن كان حدوث ذلك التحالف مرهون بتطور الأحداث، فإنّ المقطوع به هو هزيمة الغرب وإن بالقطعة.
إيهاب زكي