من خلال متابعة أغلب الأزمات الدولية التي شغلت وتشغل العالم بتداعياتها وتأثيراتها المختلفة، يتبين أنه نادرًا ما كانت تحصل (هذه الأزمات) دون تدخل أميركي، مباشر أو غير مباشر. كان لواشنطن مصلحة واضحة في خلق أغلب هذه الأزمات، أو في توتيرها بعد أن تكون قد نشأت لأسباب مختلفة.
اليوم تضيء الأزمة الروسية – الأوكرانية التي أخذت عمليًا طابعًا أوسع بكثير من حدود الدولتين، بشكل أساسي على الدور الأميركي المشبوه فيما وصلت إليه، ولِتُظهِر بشكل واضح ومؤكد بنسبة كبيرة، الأهدافَ الأميركية من خلق وتسعير هذه الأزمة، والتي يمكن تحديدها بالتالي:
لناحية روسيا، من الواضح أن واشنطن عملت كل ما يمكن لاستدراج موسكو الى مستنقع أوكرانيا وشرق أوروبا، وذلك من خلال الامتناع عن تقديم الضمانات الأمنية الجدية لروسيا، والتي طلبتها الأخيرة كتعهد خطي من الـ”ناتو”، وأهمها الالتزام بعدم العمل لانخراط أوكرانيا في الـ”ناتو”.
وبدلًا من تخفيف الاحتقان وتبديده من خلال تقديم هذا الالتزام لموسكو، عملت واشنطن على تعقيد الموقف من خلال تحريض أوكرانيا بأن الالتزام يشكل تخليًا عن سيادة أوكرانيا أولًا، ومن خلال تحريض دول الـ”ناتو” الأوروبية بأن هذا الالتزام يشكل استهدافًا لنفوذ حلف الـ”ناتو”.
يدرك الأميركيون أهمية هذا الموضوع بالنسبة للرئيس بوتين، وتداعيات دخول أوكرانيا في الـ”ناتو”، ويعلمون جيدًا أنه سيكون لدخول أوكرانيا في الـ”ناتو” تاثير سلبي جدًا على روسيا، معنويًا وعسكريًا.
معنويًا: كانت أوكرانيا تاريخيًا، وعلى الأقل في عهد الاتحاد السوفياتي، توأم روسيا، لناحية روابط الدم، وتداخل القوميات المشتركة، والاقتصاد المتشابك بقوة وغير ذلك من أمور أساسية، وبالتالي، فإن عضويّة أوكرانيا في الـ”ناتو” الذي تم تأسيسه أصلًا بهدف مواجهة روسيا، أمرٌ ستراه موسكو فظيعًا.
عسكريًا: عضوية أوكرانيا في الـ”ناتو” تعني أنها ستصبح تحت جناح واشنطن مباشرة، حيث سيكون للأخيرة الإمرة والقدرة على تحريك الوحدات العسكرية لأوكرانيا ولباقي دول الحلف كما تريد. والمادة الخامسة من بروتوكول الحلف واضحة، وستكون بابًا لإدخال كل ما يريده الأميركيون إلى الحدود الروسية الغربية مباشرة، من أسلحة دفاع جوي متطورة وصواريخ قصيرة فعالة، ومن أجهزة رصد ومراقبة وتنصّت، ومن الأسلحة الفعالة التي تزداد فعاليتها على الحدود المباشرة الأوكرانية – الروسية، وكل ذلك يمكن أن يدخل ضمن العناصر المناسبة لتضييق الخناق على روسيا.
الأسلحة التي أمّنتها واشنطن لأوكرانيا، تشكل فخًا خطيرًا لاستدراج الوحدات الروسية إلى ما يشبه الاستنزاف العسكري والميداني، تمامًا كما حصل مع الوحدات الروسية في أفغانستان سابقًا. نتكلم عن الصاروخ الأميركي المضاد للدبابات وللآليات المدرعة “جافلين”،
والذي يعتبر من أكثر المضادات فعالية ضد الآليات عالميًا، والصاروخ الأميركي المحمول على الكتف المضاد للطائرات وللطوافات نوع “ستنغر” الفعال والعملي لوحدات المشاة، بالاضافة لتسهيل منح تركيا لأوكرانيا طائرات مسيّرة دون طيار نوع “بيرقدار”، والتي أثبتت فعاليتها وخطورتها على وحدات المشاة والوحدات المؤللة، في معارك ناغورنو غاراباخ ومعارك ليبيا.
الهدف هنا من تزويد أوكرانيا بهذه الأسلحة هو تعقيد الاشتباك من خلال إسقاط أكبر عدد من الإصابات لدى الوحدات الروسية، تمامًا مثل ما حصل في أفغانستان، ولو كان الهدف الأميركي الفعلي مساعدة أوكرانيا لحماية نفسها، كان يمكن تزويدها بأسلحة فعالة مثل: القاذفة اف 35 أو منظومة دفاع جوي فعالة مثل “ثاد” أو “باتريوت باك 3″، حيث كانت هذه الأسلحة ستجعل روسيا تتردد في توسيع أو تعميق أي مناورات داخل أوكرانيا.
لناحية العقوبات على روسيا، كما يبدو، وصلت واشنطن إلى ما كانت تريد: وقف خط الغاز نورد ستريم ٢ وارتفاع سعر الغاز في أوروبا بشكل جنوني ودفع الدول الأوروبية الى البحث عن مصادر طاقة أخرى، وهذا هدف استراتيجي أميركي طالما عملت له واشنطن.
نقطة أخرى من نقاط الخبث الأميركي يمكن استنتاجها من تعقيدها للأزمة بين روسيا وأوكرانيا، ومن فرض عقوبات على روسيا. فبعد أن أصبح الاتفاق النووي مع إيران شبه منتهٍ، سيعود معه الغاز والنفط إلايراني إلى الساحة الاوروبية، لأن هذا الأمر هدف طهران الأساسي من العودة للاتفاق، أي وقف العقوبات مقابل عودتها للالتزامات التي يرعاها الاتفاق لناحية وقف التخصيب وحصر نسبته بـ ٤ بالمئة أو أقل وتحديد أجهزة الطرد المركزي وتفعيل عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية داخل منشآتها النووية.
لذلك، أن يكون السوق الاوروبي مقفلًا على الروس ويُفتح لايران التي قد تكون قادرة على التعويض عن الغاز والنفط الروسي بنسبة معقولة، هو أمر سيشكل نقاطًا حساسة قد تكون – وفق النظرة الأميركية – خلافية ومنتجة للتوتر بين موسكو وطهران.
من هنا يمكن أن نستنتج الأهداف الأميركية الخبيثة من وراء مناورتهم المشبوهة في تعميق وتعقيد الخلاف بين روسيا والـ”ناتو” وبين روسيا وأوكرانيا، إضافة طبعًا للهدف الاستراتيجي الأساسي والمتمثل بتضييق واشنطن الخناق بشكل كبير على موسكو وإكمال آخر خطوط محاصرتها بين اوكرانيا وبين البحر الأسود وبحر ازوف، في حال حاذرت روسيا الدخول في هذه المواجهة اليوم وانكفأت وتراجعت أمام متابعة ما طلبت من ضمانات.
شارل أبي نادر