لطالما كانت السيطرة على أوروبا عنصراً أساسياً في الهيمنة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، لعل هذا هو السبب في أن الإنذار الروسي، بالمناسبة، لا يتعلق فقط بالتوسع المحتمل لحلف شمال الأطلسي “الناتو” نحو الشرق بدءا من أوكـرانيا، وإنما كذلك بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا بشكل عام.
لقد أدّت عملية إمدادات النفط السوفيتي إلى أوروبا، والتي بدأت عام 1968، إلى تقليص سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية عليها. وتمكنت ألمانيا في ذلك الحين من التغلب على مقاومة واشنطن، وإطلاق خط أنابيب الغاز، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن، كان الاعتماد المتبادل بين روسيا وأوروبا في المجال الاقتصادي ضماناً للحفاظ على السلام والاستقرار في أوروبا. وكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن ترضخ للأمر، خاصة وأن ذلك لم يهدد مكانتها في زعامة الغرب.
كذلك تضطر الولايات المتحدة الأمريكية، لمواجهة نقص الموارد، إلى إنفاق حتى أكثر أصولها قيمة: أوروبا، حيث وضعت الولايات المتحدة أوروبا في دور “الكاميكازي” الانتحاري، الذي يجب أن يموت من أجل تحييد العدو.
والأفضل لو تمكنت الولايات المتحدة من تنظيم صراع عسكري بين أوروبا وروسيا بغرض القتال معها بالوكالة. ولتحقيق ذلك، تبدو الحرب في أوكـرانيا مناسبة للغاية. لم تتوقف واشنطن عن استفزاز روسيا بأيدي أوكـرانيا منذ عام 2014، إلا أن روسيا لم ترد على تلك الاستفزازات. ومع ذلك، فلم يعد هناك أمام الولايات المتحدة الأمريكية المزيد من الوقت، فاقتصادها آخذ في الانهيار، وأصبحت واشنطن مضطرة لتسريع تنفيذ السيناريو الأوكراني.
ويقوم الغرب الآن بوضع اللمسات الأخيرة على حزمة من العقوبات التي ينبغي أن تفضي إلى قطع كامل للعلاقات بين أوروبا وروسيا. والتي يُزعم أنها لن تدخل حيز التنفيذ سوى في حالة “الغزو الروسي لأوكرانيا”، لكن من الواضح أنه بمجرد الموافقة على مسودة مشروع العقوبات، والموافقة عليها، ستنظم واشنطن على الفور استفزازاً أوكـرانيا في إقليم الدونباس، من أجل الحصول على رد من جانب روسيا، وبالتالي ذريعة لفرض عقوبات شاملة.
هل أوروبا مستعدة للمضي على مسار الخطة الأمريكية؟
إن أوروبا منقسمة وباستثناء الدول التي تعاني من “رهاب الروس” المرضي مثل بولندا ودول البلطيق، يدرك الجميع في أوروبا تقريباً أن الخطة الأمريكية لأوروبا تعني الانتحار. ومع ذلك، فقد اعتاد معظم الأوروبيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية على الخضوع لواشنطن، وهم غير قادرين على تحمّل مسؤولية أمنهم. وكل أحاديث ميركل وماكرون وغيرهما من القادة الأوروبيين بشأن الحاجة إلى إنشاء جيش أوروبي خاص بهم، وعدم موثوقية الولايات المتحدة الأمريكية، لم تفضي في نهاية المطاف إلى أية نتيجة.
فقد رفضت ألمانيا وضع خط أنابيب الغاز “السيل الشمالي-2” ضمن أهداف العقوبات المناهضة لروسيا، وهو خط الأنابيب الذي تؤيد إطلاقه بشدة وإلى جانب ألمانيا النمسا، كما اعترفت كلاً من إيطاليا وفرنسا بأن “السيل الشمالي-2” هو أمر حيوي بالنسبة لأوروبا.
فيما أعلنت الحكومة البلغارية كذلك أنه لن يشارك في الصراع المحتمل مع روسيا أي جندي بلغاري دون موافقة البرلمان، كما رفضت الحكومة المجرية هي الأخرى استضافة وحدة من وحدات “الناتو”، مصرّحة بأنها ستضمن أمن البلاد بنفسها.
بل إن أوكـرانيا نفسها قد أدركت أخيراً أن قدرها الاحتراق في إطار تنفيذ خطط واشنطن، وحث وزير الدفاع ورئيس البلاد واشنطن بشكل مباشر على وقف التأجيج الهستيري، مشيرين إلى أنهما لا يشعران بخطر أي غزو من روسيا.
ومع ذلك، فإن هذه الأصوات المتعالية ليست سوى ثغاء الأغنام بينما تساق للمذبح. فالولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى حرب في أوكـرانيا لإسكات كل هذه الأصوات الأوروبية التي تطالب بالسلام والتعاون المستمر مع روسيا.
لهذا، لا ينبغي المبالغة في أهمية مقاومة الإجراءات المعادية لروسيا، أو ضد مشاركة أوروبا في العقوبات المفروضة عليها ضد روسيا. فأوروبا الآن محرومة من سيادتها، ولا تزال محتلة من قبل القوات الأمريكية، وليست رقماً فاعلاً في السياسة العالمية. في الوقت الراهن، يمكن إهمال موقفها، وهو ما تفعله موسكو، ومخاطبة واشنطن مباشرة بإنذار نهائي.
من الواضح كذلك أنه في بداية الحرب العالمية، لن ينتصر الأقوى، بل ينتصر من يمكنه تحمل الألم لفترة أطول. فجميع القوى العالمية الكبرى ضعيفة داخلياً، وبغض النظر عن حجم القوات المسلحة، أو حجم الاقتصاد، ستواجه صدمة اقتصادية في حالة نشوب صراع عالمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف