يَجدر بالسعودية، في أعقاب إنهاء عدوانها على اليمن وخروجها من هذا البلد، أن تعكف على إعداد دليل تَهتدي به الأمم، في كيفية خسارة الحروب، عسكرياً وسياسياً ودعائياً. ذلك أن المملكة لم توفّر أيّ مغطس يمكن أن يسقط فيه غازٍ، إلّا نزلت فيه، وكأن مهمّتها كانت هزْم نفسها، وليس الانتصار على «أعدائها».
وبعد قرابة سبْع سنوات من هذه الحرب التي ترفض أن تمنح الرياض مكسباً، لا يزال محمد بن سلمان يضرب خبْط عشواء، ويسير على غيْر هدى، حتى تكاد قصّته مع «أنصار الله» تتحوّل إلى ملهاةٍ تُدرّس. هو البؤس المثير للشفقة عَيْنُه الذي كان يَظهر به أحمد عسيري في الأيام الأولى للحرب، عاد تركي المالكي ليستنسخه على أعتاب العام السابع، إنّما بصورة أردأ وأكثر استدعاءً للدهشة، لا من حجم المغالطات فقط، وإنّما أيضاً من الإخراج المضحك ــــ المبكي، والذي يكاد لا يستدعي إلّا نُصح ابن سلمان بالاستغناء عن مستشاريه «الملهِمين».
على أن السعودية قد تكون معذورة في ذلك كله، فإلى جانب ما يجري في مأرب، جاءت تطورات جبهة اليتمة بمحاذاة نجران، لتسحب من المملكة «ورقة القوة» التي ظلّت ضنينة بها لستّة عقود، وتجعل حدودها مكشوفة أمام «أنصار الله»، بلا أيّ حائط صدّ
لم يكد تحالف العدوان، يُعلن عن موعد المؤتمر الصحافي للمتحدّث الرسمي باسمه، تركي المالكي، لعرْض «أدلّة تحويل مطار صنعاء إلى مركز لإطلاق الصواريخ الباليستية والمسيّرات»، حتى تولّت الآلة الإعلامية السعودية والخليجيّة قيادة حملة كبيرة من التهويل، قائمة في الأساس على استنتاجات وتخيّلات حول مدى اختراق «التحالف» للهرَم القيادي لـ«أنصار الله»، وحجْم التغيّرات المهولة التي ستُحدثها المعلومات «الخطيرة» التي استُخلصت من قلب صنعاء، بفضْل «حرب الأدمغة» التي تخوضها الرياض. إلّا أن الخيبة أتت على قدْر الحملة، ما إنْ باشر المالكي مؤتمره الصحافي.
في الواقع، قدّم المتحدّث السعودي ما يمكن استثماره ضمن الأجندة السياسية – الإعلامية السعودية في اليمن ولبنان؛ فهو ظهَر كمعلّق سياسي أكثر من كونه مسؤولاً عسكرياً ينطق باسم تحالف عسكري يخوض حرباً منذ سبع سنوات، مقدّماً مطالعة سياسية، فيها الكثير من الاتهامات لإيران و«حزب الله»، كـ«أطراف ثالثة» تسبّبت بتفوّق «أنصار الله» وخسارة «التحالف».
وفي ظلّ تردّي الموقف الميداني للأخير، حاول المالكي تثبيت معادلة «ضرْب الأعيان المدنية» في حال استمرار الضغط الهائل الذي تعاني منه بلاده وأتباعها في مختلف الجبهات، وخصوصاً في مأرب وحديثاً في الجوف، حيث بدا وعيده بأنّنا «نحن سنقرّر متى وأين نستهدف هذه القدرات»، محاوَلة للقول إنه في كلّ مرّة يخسر فيها «التحالف» في المواجهة العسكرية، فإنه سيرفع الحصانة عن المدنيّين والمنشآت المدنية، كما حدث في صنعاء أخيراً، مع تغليف هذا التهديد بعبارة: «بما يتوافق مع القانون الإنساني الدولي».
جهدٌ كبير بذله المالكي في محاولة التقليل من إنجازات اليمنيّين وبصماتهم الواضحة في المعارك العسكرية والأمنية مع «التحالف».
إذ ربط كلّ إنجازات الجيش «واللجان الشعبية» في اليمن، برّاً وجوّاً وبحراً، بإيران و«حزب الله»، بما يَخدم استراتيجية السعودية في الفترة الأخيرة، والقائمة على تشكيل قوّة ضغط دولية على طهران والمقاومة في لبنان، لدفعهما إلى المساعدة في إيجاد «مخرج مشرّف» للمملكة من الحرب.
وفي هذا السياق، جدّد المتحدث السعودي تفنيد نظرة بلاده الثابتة إلى «أنصار الله»، بالقول إن «الحوثيّين ينفون أمام الشعب اليمني أيّ تبعية، فيما لا يوجد لديهم أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي بل يأتمرون بأوامر الحرس الثوري وحزب الله»، وهو ما لا يبدو غريباً؛ فكما لا تفهم السعودية كيف يمكن أن لا تكون «أنصار الله» أداة بيد حلفائها، فهي أيضاً لا يمكنها أن تصدّق كيف للحركة المحاصَرة والمحارَبة على مدى سبع سنوات، أن تُطوّر سلاحاً جوياً وتثبّت معادلات ردع فعّالة في وجه تحالف عسكري عربي – أميركي كبير.
لم تَنظر قيادة صنعاء إلى المالكي إلّا بوصْفه «مثيراً للشفقة»
كذلك، ادّعى المالكي أن «الحركة الحوثية مخترَقة، ولدينا الكثير من التفاصيل والأدلة التي سيتمّ الإعلان عنها في الوقت المناسب». لكنه قدّم مقطع فيديو مضحكاً، حمَل حتى «الذباب الإلكتروني» السعودي الذي نشط قبل بثّ الفيديو في الترويج له بكثافة، على التراجُع أمام موجة السخرية العارمة التي قابله بها الناشطون في لبنان واليمن.
المقطع الذي أرادت له الرياض أن يكون دليلاً على قدرتها على اختراق الهرم القيادي لـ«أنصار الله»، ظهر على أنه فبركة رديئة يمكن لهواةٍ إنتاج نسخة أفضل منها شكلاً ومضموناً. وبصرف النظر عن لهجة القيادي المفترض من «حزب الله»، وبمعزل أيضاً عن أن لا لقطة واسعة واحدة تجمعه برئيس الاستخبارات العسكرية في «أنصار الله» أبو علي الحاكم، إلّا أن اللافت كان كثافة المحتوى الذي يخدم البروباغندا السعودية، والذي قدّمه القيادي المُدّعى في فيديو مدّته أقل من دقيقتين، حيث يقول:
1- إن بقاء الحديدة في قبضة صنعاء سببه صمود الأمم المتحدة وهدنتها، في محاولة للإيحاء بأن «التحالف» غير ضعيف، لكن الأمم المتحدة متواطئة مع «أنصار الله».
2- إن الحرب السورية شارفت على الانتهاء، وبالتالي فإن «حزب الله» وإيران سيرسلان مقاتليهما من سوريا إلى اليمن، وذلك من أجل القوْل إن السعودية تقاتل محوراً كاملاً في اليمن، وليس «أنصار الله» فقط، تبريراً للهزيمة.
3- التشديد على ضرورة السيطرة على البحر الأحمر وسواحله، وربط الدعم المالي واللوجستي بميناء الحديدة، وفي هذا إشارة جديدة إلى السواحل اليمنية ودورها في المرحلة المقبلة من الحرب.
وفي ما يتعلّق بلبنان، لم يَخرج المالكي عن نصّ البروباغندا السعودية المترافقة مع الحملة المتصاعدة للمملكة على هذا البلد، إذ قال إن هناك «مسؤولية على المجتمع الدولي لوقف هذه الأعمال العدائية لحزب الله الإرهابي الذي أضرّ بالمنطقة ولبنان نفسه، وأصبح تهديداً مباشراً لأمن دول الخليج والمجتمع الدولي».
وسأل: «ماذا سيفعل اللبنانيون مع هذا السرطان في لبنان (…) أصبح لزاماً أن يكون هناك ردّ حاسم، المسؤولية جماعية (…) ونعلم أنه شريك في هذه العمليات الإرهابية، قد نسامح لكن لا ننسى، ولا نغضب، وإن غضبنا أوجعْنا».
إزاء ذلك، لم تَنظر قيادة صنعاء إلى المالكي إلّا بوصْفه «مثيراً للشفقة»، مشدّدة على الترابط بين «حركته الأخيرة» وبين المسار العام للأحداث في اليمن.
ففيما كان المالكي يحصي عدد الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أصابت السعودية منذ بداية العدوان، كان المتحدث باسم الجيش و«اللجان الشعبية»، العميد يحيى سريع، يعلن عن عملية «فجر الصحراء» التي أدّت إلى تحرير كامل منطقة اليتمة (المركز الإداري لمديرية خب والشعف الحدودية مع نجران السعودية) وما جاورها بمساحة تتجاوز 1200 كيلومتر مربع، مؤكداً أن «محافظة الجوف باتت محرّرة بالكامل، ما عدا بعض المناطق الصحراوية». ولا تقلّ أهمية اليتمة عن أهمية مأرب، بالنسبة إلى صنعاء والرياض على السواء.
ويُضاف إلى ذلك العامل أن «أنصار الله» رفضت، أخيراً، عروضاً سعودية مدعومة أميركياً، لفتح حوار جدّي حول التسوية، ورسمت ملامح واضحة لمرحلة قبول مثل تلك العروض، تمثّل فيها الجبهات واستقرار الكفّة فيها لصالح الحركة، العنصر الحاسم.
الأخبار اللبنانية