ما قامت به “الميادين” من عرض متسلسل وممنهج لمستندات ووثائق مرتبطة بشكل مباشر بمسار الباخرة “روسوس” المحمّلة بشحنة الأمونيوم القاتلة التي سببت انفجار مرفأ بيروت الكارثي، وبما حصل من وقائع مرتبطة بحركة الشحنة والسفينة، منذ خروجها من جورجيا، وصولاً إلى إسطنبول، ولاحقاً بعد دخولها إلى المياه الإقليمية اللبنانية، ومن ثم إلى حرم مرفأ بيروت.
فالرصيف رقم 9، إلى العنبر رقم 12، إلى الانفجار المشؤوم، يشكّل مرجعاً مهماً يمكن الاستناد إليه للإضاءة على الكثير من الثغرات والخفايا والنقاط المتحفّظ عليها في ما رشح حتى الآن من معطيات عن التحقيق الذي يقوم به المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في الانفجار، استناداً إلى تكليف مجلس الوزراء الذي أحال القضية إلى المجلس العدلي.
إن طريقة عرض “الميادين” للمستندات بطريقة مجردة وموضوعية وعلمية منهجية، تقدم للمتابع المعني بالملف، بمختلف توجهاته أو اختصاصاته أو اهتماماته، رزمة ضخمة من المعطيات، مناسبة لكي تضيء على فكرته أو نظرته أو مستوى وأبعاد فهمه للملف.
ومن جهة أخرى، توسع استنتاجاته إلى الكثير من الاحتمالات التي يمكن أن يأخذها المسار الحالي للتحقيق، أولاً من خلال دراسة هذه الوثائق وتحليلها، وثانياً من خلال مقارنة الموضوع مع الكثير من الملفات الحساسة ذات الطابع الدولي أو الإقليمي أو الداخلي اللبناني، والتي كان لها تأثيرات مفصلية في الكثير من الأوضاع السياسية والأمنية والقضائية المرتبطة بها.
لقد أضاءت هذه المستندات على دور كل المعنيين بمسار القضية منذ البداية وحتى المرحلة الوسطى التي تعقد الملف خلالها بعد تداخل صلاحياتهم، حتى مرحلة الحجز في العنبر رقم 12 ومسار الإجراءات المرتبطة أو المؤثرة بالشحنة، إلى مرحلة الانفجار الكارثية، وصولاً في النهاية إلى المرحلة الأهم، وهي استثمار الانفجار سياسياً وشعبياً ودولياً وإقليمياً ومحلياً.
كشفت هذه المستندات عملياً دور اليونيفيل أولاً، وكيفية مساهمة تقاعسها أو تواطؤها في دخول شحنة خطرة إلى مرفأ بيروت، بينما كانت مهمتها الأساسية، استناداً إلى القرار 1701، تفترض بها التدقيق والتشدد أكثر، ووضع احتمالات تسرّب هذه الشحنة أو قسم منها للاستعمال كمتفجرات وعبوات ناسفة. وتندرج ضرورة ضبطها ومنعها ضمن بنود أساسية في القرار 1701 الذي يرعى مهمتها ودورها في لبنان بشكل عام، وعلى مداخل مياهه الإقليمية بشكل خاص.
أيضاً، كشفت هذه المستندات مسؤولية الجيش اللبناني، على الأقل من الناحية المعنوية غير المباشرة كمسؤول عن أمن المرفأ والبلاد، وخصوصاً في انتشاره على المعابر البحرية، وتحديداً في تواجده على المرفأ، لناحية عدم قيامه بكل الإجراءات المطلوبة من ضمن دوره الأساسي والرئيسي لمنع هذا الانفجار المدمر، مع وجود أكثر من تساؤل غامض عن مستوى وصحة مسؤوليته المباشرة، في ظل وجود قرارات صادرة عن سلطات قضائية معنية، تمتلك وحدها، استناداً إلى القوانين والأنظمة المرعية، صلاحية اتخاذ الإجراءات والقرارات المناسبة لإبعاد خطر نيترات الأمونيوم المتفجرة، عبر السماح ببيعها بالمزاد أو إخراجها من البلاد أو إتلافها.
من هذه الوثائق التي عرضتها “الميادين” أيضاً، يمكن استنتاج مسؤولية المعني بمسار العمل الإداري الذي قامت به السلطات المسؤولة مباشرةً عن ضبط عملية إدخال البضائع أو عملية مراقبتها وتخزينها، مثل مديرية الجمارك وإدارة مرفأ بيروت، وصحَّة الإجراءات التي قامت بها أو التي تابعتها بعد إدخال النيترات ووضعها في العنبر رقم 12، حتى الانفجار.
كلّ هذه الوثائق المؤثرة التي تمتلك صفة شبه فاصلة في توجيه التحقيق وتنويره، والتي أصبحت أمام الرأي العام، وبالتالي أمام القضاء والسلطات السياسية والأمنية والعسكرية، يجب أن تشكل حافزاً محركاً لإعادة النظر في استراتيجية التحقيق العدلي بعد أن تأخذ بعين الاعتبار وقف الاستنسابية في الاتهام والادعاء والمساءلة والاستدعاء إلى التحقيق، ومن خلال التركيز على النقاط التالية:
لماذا تأخّر التقرير الفني المتعلق بكيفية حصول الانفجار، في الوقت الذي تحتاج الجهات المتضررة، من عائلات الشهداء والمصابين أو المتضررين مادياً فقط، إلى التقرير الفني لبناء ادعاءاتها على أساسه، والذي من المفترض أن يكشف طريقة حصول الانفجار، سواء كان عملاً تخريبياً إرهابياً أو اعتداء إسرائيلياً، كما روج الكثير في الداخل والخارج لأسباب مشبوهة واضحة، وخصوصاً أن القرار الظني الذي من المفترض أن يصدره المحقق العدلي لا يمكن استئنافه.
ويصبح مباشرة لدى المجلس العدلي كهيئة محاكمة نهائية، الأمر الذي يفترض حصول الأطراف المدعية على كل المعطيات الخاصة والضرورية لتحضير طلبات ادعائها، فضدّ من سوف تدعي؟ ضد “إسرائيل” أو ضد جهة تخريبية أو ضدّ إدارة أو جهاز رسمي بتهمة إهمال أو بتهمة جريمة متعمدة؟ وكيف يمكن بناء طلبات التعويض من شركات التأمين؟ وهل يستطيع المتضررون انتظار عشرات السنوات للحصول على حقوقهم؟
هناك من يقول إنَّ القرار الظني ليس الحكم النهائي. وبعد صدوره، تُفتح المحاكمة على مصراعيها لكل طرف عبر دفاعه أو ادعائه، ويكون لديه كامل الصلاحية لتقديم وطرح ما يراه مناسباً أو ما يريده، ويحق له نقض أو دحض كلّ ما تم اتهامه به.
هذا الكلام صحيح في المبدأ، ولكننا نتكلّم عن حالة تشابهت مع الكثير من الحالات في لبنان وخارجه، وكانت الهيمنة الأميركية تسيطر على المسارات القضائية وتوجهها في النهاية كما تريد، من خلال إمكانيات هائلة في الإعلام والتوجيه والضغط المتعدد الأوجه، وأهمها العقوبات والاستهدافات المالية للأشخاص أو الكيانات المعنوية.
الأهم في الموضوع أيضاً، والمرتبط بعدم إفراج المحقق العدلي عن التقرير الفني، أن لهذا التقرير، وفي قضية انفجار المرفأ، أهمية كبرى وحساسة، إذ إن نشره يقطع السجال أو التسييس أو توجيه الاتهام إلى جهة أو جهات معينة تعد مستهدفة، من خلال استغلال ما يتم تقصّد تسريبه إعلامياً وسياسياً بطريقة مشبوهة وموجّهة من الخارج.
من الواضح أنَّ الأميركيين، والذي يحملون راية استهداف حزب الله من خلال الانفجار، استطاعوا سابقاً، وبقدراتهم السياسية والمالية الأخطبوطية عالمياً، تصنيف الحزب كمنظمة إرهابية، في الوقت الذي قاتل حزب الله الإرهاب بفعالية وصدق أكثر من أي طرف آخر. كما استطاعوا أيضاً عزله مالياً عن العالم، عبر ابتزاز كل المصارف وشركات الأموال في لبنان والعالم وتهديدها.
ولذلك هم قادرون، ومن خلال قرار ظني موجّه، أن يؤثروا في حزب الله سلباً، في الإعلام وفي الانتخابات القادمة بدرجة كبيرة، بمعزل عن صحة الاتهامات التي ستوجه إليه، والتي من غير المستبعد، من خلال الاستنسابية في التحقيق، أن تكون جاهزة ومركّبة على قياس خدمة تلك الاستراتيجية الأميركية.
من هنا، تظهر أهميّة ما أشارت إليه “الميادين”، من خلال الوثائق والمستندات التي كشفتها بشكل عام، وتحديداً من خلال خلاصات التقارير الفنية المتعددة المصادر والاتجاهات، حول استبعاد العمل التخريبي واستبعاد الاعتداء الإسرائيلي، واعتبار أنَّ سبب الانفجار محصور بشكل منطقي وكبير بالشرارة النارية التي نتجت من عملية تلحيم أبواب حديدية للعنبر رقم 12، نتيجة ظروف تبعثر النيترات، وبسبب الرطوبة العالية وتداخل مواد حارقة وكيمياوية مع مفرقعات نارية، كانت كلها ضمن مواد ممنوعة مخزنة إلى جانب نيترات الأمونيوم.
كل ذلك شكل نقطة مفصلية في التحقيق، وفي مسار فضح الاستثمار الذي خضع له، إذ إن هذا المعطى الفني الذي صدر عن الخبراء الفنيين المتخصصين الأجانب، كان من الواجب والضروري نشره فور صدوره، لأنه يلغي احتمالات كثيرة تحمل عدة تأويلات وإمكانيات لاتهام حزب الله وتحميله المسؤولية عن حصول الانفجار، من خلال ما رأينا في مسار الاتهام الّذي تعرض له من قبل جماعات إعلامية وسياسية مرتهنة لأميركا وغيرها من الدول الإقليمية.
المصدر : شارل أبي نادر – الميادين نت