جاء حديثُ الرئيس مهدي المشَّاط، خلال لقائه التلفزيوني الأول، والذي خص به قناة “المسيرة”، مليئاً بالرسائل المباشرة وغير المباشرة لجميع أطراف العدوّ، كما قدّم توصيفًا واضحًا للواقع الراهن، بشكل ربما يغني عن معرفة تفاصيل الكثير مما يدور في الكواليس، ويكفي لاستخلاص حقائقَ رئيسيةٍ يمكن البناءُ عليها لفهم مسار اتّجاه الأوضاع سياسيًّا وعسكريًّا وإداريًّا أَيْـضاً، في صورةٍ يتضحُ فيها مدى عجز تحالف العدوان عن عكس هذا المسار، وتتضح فيها بالتالي حتمية –وربما أَيْـضاً قرب- تحقُّقِ المكاسب الرئيسية التي تسعى نحوها صنعاء.
سياسيًّا، وعلى خلاف أُسلُـوب مسؤولي أطراف العدوّ، أَو حتى الوسطاء، والذين لا يقدّمون في العادة تصريحاتٍ حاسمةً لنتائج المشاورات واللقاءات بل يراوغون، أَو يركزون دائماً على إظهار “تفاؤل” يبدو غير واقعي بالنظر إلى مؤشرات الواقع، كان حديثُ الرئيس واضحًا على إيجازه، وحاسمًا في التأكيد على أنه “لا يوجد حَـاليًّا أُفُقٌ للحل السياسي، سوى جهود ضئيلة ومتردّدة بين السعوديّة وعُمان”.
هذا التأكيد يمثل تقييمًا واضحًا لمجمل الوضع السياسي فيما يتعلق بالسلام، وملخص هذا التقييم هو أن “الحل” بمفهومه الكامل والشامل والحقيقي الذي يمكن أن يؤدي إلى إنهاء الصراع تماماً، لم يتم الاقتراب منه بعدُ، وبعبارة أوضح: لا زال العدوّ يرفض تماماً التعاطي مع مسألة إنهاء العدوان والحصار وسحب القوات الأجنبية من البلد، وبالتالي أي “تفاؤل” أَو “تقدم” قد توحي به التحَرّكاتُ الجارية لا زال محصوراً في منطقة ضيقة يجب فهمُها بدقة؛ تجنباً للوقوع في شرك سوء التقدير.
هذه المنطقةُ يوضحها الرئيس من خلال تسليط الضوء على جانب من كواليس المشاورات واللقاءات السياسية، حَيثُ يؤكّـد أن “الرغبة السعوديّة تتدحرج” ويتأثر بهذا التدحرج أَيْـضاً تحَرُّكُ الجانب العماني الوسيط (بكل الأحوال لا يمكنُ تحميلُ السلطنة مسؤولية التعثر؛ لأَنَّ المشكلة كلها لدى طرف العدوان)، وعلى ضوء التأكيد السابق يمكن القول إن “الرغبةَ السعوديّةَ” نفسَها لم تَرْقَ إلى مستوى فتح أُفُقٍ للحل السياسي الحقيقي، بل إنها متعلقةٌ بتفاصيلَ محدودة، يبدو بوضوح من حديث الرئيس أنها تتمحورُ حول “مقايضة المِلف الإنساني” مقابلَ مكاسبَ معينة، أي أنه فعليًّا، لا يوجد على الطاولة أي جديد.
هذا التوصيفُ الواضحُ والصريح يمثل في حَــدِّ ذاته رسالةً للعدو بأن صنعاءَ لن تتعاطى مع أية “آمال”، ولن يكون هناك “تفاؤل” حقيقي، قبل أن يحدث تغييرٌ حقيقي في الموقف، ولا شك أن هذا الأمر غير مريح لأطراف العدوّ التي تحاول بشكل متواصل أن “توهم” صنعاء بأن هناك تغييراتٍ جديةً قادمة، وتحرِصُ بشدة على أن يُظهِرَ الإعلامُ “إيجابيةً” ولو زائفةً، لتقنع العالم أنها تفعل شيئاً للوصول إلى السلام.
ويدفع الرئيس بهذه الرسالة إلى مكانٍ أبعدَ، إذ يكشف أن “من يعملون في الكواليس لم يجدوا أيَّ منطق في ربط تحالف العدوان المِلف الإنساني بغيره من المِلَـفَّـات، ويتفهمون وجهة نظرنا”، وهو ما يقطع الطريق أمام العدوّ للبحث عن ألاعيب أُخرى تجعل صنعاء هي المطالبة بتغيير موقفها، وهذا مسار يتحَرّك العدوّ فيه بوضوح من خلال خلق ضغوط متنوعة على صنعاء، وبالتالي فَـإنَّ التوصيف الذي يقدمه الرئيس هنا لمجريات الميدان السياسي، يزيل الكثيرَ من التشويش (سواء الإيجابي الدعائي أَو السلبي) الذي يعتمد عليه العدوّ في تضليل الرأي العام وكسب الوقت.
وفي هذا السياق أَيْـضاً، يقدم الرئيس تقييماً مماثلاً لدور الأمم المتحدة (بالتزامن مع قيام مبعوثها الجديد بأولى جولاته في المنطقة)، حَيثُ حرص الرئيس على ألا يتواطأ مع الأمل الزائف الذي قد يسعى “غروندبرغ” لبثه في الأجواء، فقط لتكريس فكرة أن المنظمةَ الأممية ودول العدوان تتحَرّكُ لإيقاف الحرب، كما كان الحال طيلة الأشهر الماضية، بل يؤكّـدُ الرئيس بكل صراحة أنه تم إبلاغُ المبعوث باستحالة “تجديد الورقة بعد إتلافها” مع تأكيد قاطع على استحالة التعاطي مع أي صفقة مقايضة أَو ابتزاز.
إجمالاً، يوجّه الرئيسُ في هذا الجانب رسائلَ للشعب وللعدو مفادُها إجمالاً: أننا في موقف سياسي قوي، ولن نقدمَ التنازلات المجحفة، و”نشحت” السلام، أَو نضيعَ الوقتَ في التعاطي مع آمال زائفة وشكليات لا تتضمن أية حلول واضحة وعادلة.
والرسالةُ الأبرزُ التي تُفهَمُ تلقائياً من هذا التوصيف الواضح لمجريات الوضع السياسي، هي حتميةُ تصاعُدِ شدة الخيارات العسكرية، وهو الأمر الذي أكّـده الرئيسُ بنفس القدر من الصراحة أَيْـضاً، إذ أعلن أن “المتغيرات العسكرية الأخيرة ستخضع دول العدوان للسلام الحقيقي” و”عمليات الردع ستستمر في السياق التصاعدي” وَ.. “كل المفاجآت واردة”.
ولتفادي القصور في فهم هذه التأكيدات، حرص الرئيسُ على تأكيد خصوصية الحسابات والمعادلات التي تحكُمُ العملَ العسكري، وعدم خضوعها للتحليلات السطحية أَو الاندفاعية، وهو أمرٌ بالغُ الأهميّة يؤكّـد مجدّدًا أن المعركة تدار بطريقة احترافية وبصورة تضمَنُ أعلى وأوسع التأثيرات على مختلف الميادين، وهذه من الميزات التي لم تعد فاعليتُها خفيةً، بل إن العدوَّ يسعى بوضوح لتفاديها.
تتجلَّى هذه الميزةُ في إدارة معركة مأرب التي يتقاطع فيها المسار السياسي مع العسكري بشكل حساس، وقد تحدث الرئيس عن مأرب بطريقة وجّه فيها رسائلَ مهمة جِـدًّا، فمن جهة أكّـد حتمية استكمال تحرير المحافظة، وعدم الخضوع لابتزازات وتضليلات العدوّ بشأنها، وأكّـد -بلهجة قاسية- عدمَ وجود أية قيمة للمرتزِقة في هذا المِلف، ومن جهة أُخرى أكّـد على أن مبادرة قائد الثورة لا زالت سارية المفعول، وأن “المنطق ما زال هو المسيطِرَ على الوضع رغم أننا نقفُ على أسوار مدينة مأرب”.
إن الرئيسَ يقدم هنا تلخيصاً ذكياً وجديدًا لهذا المِلف بكل تقاطعاته، وهو أن تأخر هذا حسم معركة مأرب لا يعود إلى الخضوع للضغوط الدولية أَو التهديدات، أَو لعدم القدرة على الحسم، بل إن كلامَه يؤكّـد أن خطةَ الحسم بانتظار إشارة التنفيذ فقط، ولكن القيادةَ تريدُ أن تجرِّبَ أولاً كُـلَّ فُرَصِ واحتمالات تجنب الخيار العسكري؛ لأَنَّ هذه الاحتمالات قد تشكل فاتحةً لحلول حقيقية مهمة (قال الرئيس إن المبادرة قد تذهب إلى أبعدَ مما هدفت إليه).
بعبارة أُخرى، يمكن القولُ إن مأربَ تشكِّلُ اليوم فاتحةً إما لتصعيد أوسعَ سيغيّر موازين المعركة، أَو فاتحة لتوجّـه حقيقي نحو السلام العادل، وهذا يؤكّـد عدة أمور: أولها أن خياراتِ التراجع في مأرب لمصلحة العدوان، أَو الخضوع لضغوطه، ليست موجودةً في الصورة أصلاً، وبالتالي فالخياراتُ الوحيدةُ الموضوعةُ أمام العدوّ اليوم كلها مصمَّمةً بعناية من قبل صنعاءَ، وكلها تتجه في اتّجاه مسار التحرّر، وليس في مسار المقايضات التفاوضية، وهنا رسالةٌ يمكن استخلاصها، ومفادُها أن الموقفَ القتالي القوي لصنعاء يتكاملُ مع الموقف السياسي القوي بصورة تؤكّـد حتميةَ انفراد صنعاء بالمكسب الميداني عاجلاً أم آجلاً.
ولا نستطيعُ إلا أن نلاحِظَ أن السمةَ العامة لكل الرسائل العسكرية والسياسية التي وجّهها الرئيس، هي أنها رسائلُ من موقعِ متقدِّم، واتّجاهها أمامي فقط، مهما كانت احتمالاتُ تحَرّكات العدوّ ومخطّطاته، وهذا إنجازٌ يحملُ الكثيرَ من ملامح “النصر”.
تجلّى ذلك أَيْـضاً في ما كشفه الرئيسُ حول إعلان أربع دول استعدادَها للتعامل مع صنعاء رسميًّا. لقد طويت صفحةُ العزلة والضغوط، وتم إلغاءُ كُـلّ احتمالات التراجُع السياسي أَو العسكري، وبات هذا مُدرَكاً على مستوى إقليمي ودولي.
صحيفة المسيرة