قبل أكثر من عشر سنوات زارني في مكتبي الدّاعية عمر أبو عمر (أبو قتادة) بعد الإفراج عنه من سجنه البريطاني بكفالةٍ، وكان سِوار المُتابعة الإلكتروني في أسفل ساقه، سألته عن أسباب تسليم نفسه “غير المُباشر” للسّلطات بعد نجاحه في الهرب والتخفّي لأكثر من خمسة أشهر تقريبًا، أجاب بأنّه تَعِبَ من المُطاردة، وأتعب الكثيرين من أنصاره ومُحبّيه الذين استضافوه وحمَوه في منازلهم، وبات عبئًا ثقيلًا على كاهِلهم، ولهذا تخلّى عن العديد من إجراءات الأمن الذّاتي وبما في ذلك استِخدام هاتفه الجوّال، والاتّصال بأُسرته، وكأنّ لسان حاله يقول “أنا هُنا” تفضّلوا اعتقلوني.
تذكّرت هذه الواقعة، وأنا أُتابع أنباء اعتقال أربعة من الصّقور الستّة حتّى الآن، الواحِد تِلو الآخَر الذين نجحوا في تحرير أنفسهم من سجن جلبوع الإسرائيلي، بعد خمسة أيّام من التخفّي في عمليّة هُروب ستَدخُل التّاريخ بسبب دقّتها وجُرأتها وشجاعة المُنخَرطين فيها، وإظهارهم أروع صُور التّخطيط والتّنفيذ، وتحقيق انتِصارهم الكبير في معركة الأدمغة ضدّ دولة احتِلال تدّعي بأنّها “الأخبر” أمنيًّا على مُستوى العالم بأسره.
فِلسطين المُحتلّة دولةٌ صغيرة لا تزيد مِساحتها عن 27.009 كم2، والأكثر اكتِظاظًا بشريًّا، ولا تُوجد فيها غابات ولا جِبال شاهقة وَعِرَة، ويحتلّها عدوٌّ عُنصريّ يملك تاريخًا حافلًا في المجازر والتّعذيب والقمع، ولكنّها تملك رصيدًا كبيرًا من الرّجال والنّساء المُقاومين، ولهذا من الصّعب على الصّقور الستّة التخفّي لفترةٍ طويلة، لغِياب الحاضنة، وكثرة العسعس والجواسيس، ليس من قوّات أمن الاحتِلال، وإنّما من قِبَل “أبطال” التّنسيق الأمني الفِلسطيني أيضًا، الذين باتت قضيّتهم “المُقدَّسة” حِماية الاحتِلال ومُستوطنيه والحِفاظ على أمنهم ورفاهيّتهم.
قوّات الاحتِلال أقامت 260 حاجِزًا أمنيًّا، وأعلنت حالة الطّوارئ القُصوى في صُفوف قوّاتها، وجنّدت كُل جواسيسها وعُيونها، لمحو العار، والفشَل الكبير، والضّربة المعنويّة القاتلة التي لَحِقَت بها وبصُورتها وهيبتها، بأسرعِ وَقتٍ مُمكن، وبأقلّ الخسائر، وطالما أنّ الصّقور الستّة لم يتمكّنوا من عُبور الحُدود إلى مكانٍ آمِن في دول الجِوار، وخاصَّةً المُنخرطة في صُفوف “محور المُقاومة،فإنّ اعتقالهم يظَلّ مسألة وقتٍ، لا أكثر ولا أقل.
نعترف أنّ إعادة اعتقالهم بعد خمسة أيّام من الحُريّة، والهُروب البُطولي الإعجازي غير المسبوق، كان صدمة مُؤلمة بالنّسبة إلينا وكُلّ الذين يقفون في خندق المُقاومة في مُواجهة احتِلال إجرامي شَرِسْ، ولكنّها معركة مُشَرِّفة، في حَربٍ طويلة، ستتلوها معارك وبُطولات ربّما أكبر وأكثر إيلامًا لخصم مدعوم عالميًّا، بدأ ينهار أمام هزائم مُتلاحقة على أيدي رجال لن يتراجعوا مُطلَقًا عن هدفهم الأسمى لتحرير أرضهم، ومُقدّساتهم مهما تعاظمت التّضحيات.
الصّقور الستّة انتصروا نصرًا كبيرًا جدًّا على أجهزة الأمن الإسرائيليّة الأكثر تَقَدُّمًا في العالم، والمُدجَّجَة بأحدث أجهزة المُراقبة والتَّلصُّص على المُعتقلين الشّرفاء في سُجونها، وهزموا هذا العدوّ المُتغطرس، ووجّهوا له ضربةً قاتلةً في خاصِرته الأكثَر إيلامًا بهُروبهم المُبهِر عبر نفق الحُريّة الذي حفروه بأظافرهم، وهذا يكفيهم، ويكفي الأمّة العظيمة التي أنجبتهم.
المَهمّة جرى إنجازها، وعلى الوجه الأكمل، والباقي تفاصيل، فهؤلاء الأبطال طُلّاب شهادة، ورجال مُقاومة، والعودة إلى الاعتقال وزنازينه شَرفٌ كبيرٌ لهُم، وقُدوة حسنة لزُملائهم، وأجيال المُقاومة، سواءً داخِل المُعتقلات أو خارجها، لقد وضعوا قضيّتهم وثوابتها الوطنيّة إلى الصّدارة، ومحور الاهتِمام الإقليمي والدّولي مُجَدَّدًا، في زمن التّطبيع والاستِسلام.
أسماؤهم ستُكتَب بدِماء الشّرف على جُدران كلّ الزّنازين، وفي الشّوارع والميادين، وهُم الشّهداء الأحياء، وسيستقبلهم أشقاؤهم بالأهازيج الوطنيّة وبالاحتِفالات والدّبكة، والأحضان، كمُقدِّمَة، وعربون لاحتِفالٍ أكبر في يوم حُريّة أضخم، ونهائي، سيتحقّق بعد الإفراج عنهم في يوم تبادل الأسرى، أو في يوم الهُروب الكبير للمُستوطنين من فِلسطين المُحتلّة، ونَراهُما قريبان جدًّا.
لا مكان للحُزن في الحديث عن إعادة اعتقال هؤلاء الأبطال من قبل السجّان المُحتَل وأجهزته، بل للفخر والاحتِفال بانتِصارهم البُطولي الكبير الذي حقّقوه وقدّموه هديّة لشعبهم والأجيال القادمة، وانتظروا العديد من المُفاجآت السّارّة في المرحلة المُقبلة.. والأيّام بيننا.
_____
عبدالباري عطوان