مَــرَّةً أُخرى، تُثبِتُ صَنعاءُ قُدرتَها على تثبيت المعادلات الاستراتيجية التي تتجاوز وتتخطى كُـلَّ حسابات ومناورات العدوّ، كما تثبت جهوزيتَها العسكرية العالية وتطور وتفوق قدراتها وتكتيكاتها، وثبات أرضية المسار التصاعدي التي تتجه فيه عملياتها النوعية بشكل يتسق مع التطورات السياسية والميدانية، ويحقّق أعلى درجة من التأثير المرجو، سواء على مستوى تحقيق “الوجع”، أَو على مستوى إيصال الرسائل التي ينطوي عليها في توقيته ونوعيته وتقاطعاته مع الأحداث.
بصورة يمكن أن يقال عنها مفاجئة؛ نظراً لـ”سوء تقديرات” النظام السعوديّ، وجد الأخيرُ نفسَه أمام العملية السابعة من سلسلة ضرباتِ “توازن الردع” اليمنية التي ربما ظنت الرياضُ لفترة أنها -وبما تمثّله من كارثةٍ متصاعدة ومتدرجة- قد انتهت، أَو تم تقييدُها والتحكُّمُ بها بتأثير مناورات “السلام” المزيفة التي رعتها الإدارة الأمريكية طيلة الأشهر الماضية.
العملية بحسب بيان ناطق القوات المسلحة العميد يحيى سريع، نُفذت بـ10 طائرات مُسَـيَّرَة نوع (صمَّـاد3) شديدة الانفجار، وستة صواريخ بالستية، أحدها من نوع “ذي الفقار” طويل المدى، والبقية من نوع “بدر”، استهدفت جميعها منشآت تابعة لشركة “أرامكو” السعوديّة، عصب اقتصاد المملكة، في كُـلٍّ من “رأس تنورة” بالدمام (أقصى الشرق) وجدة (أقصى الغرب) وجيزان ونجران جنوباً.
البيانُ كان مرتقَباً، ليوضح تفاصيلَ ليلةٍ حافلةٍ بالانفجارات، عجز النظامُ السعوديّ عن السيطرة على الرواية الإعلامية الخَاصَّة بها؛ لأَنَّ إعلانه عن اعتراض صواريخ بالستية وطائرات مُسَـيَّرَة كان بلا أي تأثير تلك الليلة، وسط زحمة مقاطع الفيديو التي بثها سكان المملكة على امتداد الجغرافيا الواسعة التي توزعت ضمنها أهداف العملية، وقد وثقت تلك المقاطع وصول الصواريخ والطائرات اليمنية إلى أهدافها بدقة محدِثةً انفجاراتٍ شديدةً، فسرت أَيْـضاً ارتباكَ حركة النقل الجوي في أكثرَ من مطار رئيسي داخل المملكة، وقد لجأ النظام مرتبكاً إلى الإفصاح عن بعض الأهداف، معلناً أنها “لم تتأثر” ليتحول ذلك إلى تأكيد إضافي رسمي على دقة الإصابة.
حتى قبل أن يوضحَ البيانُ العسكري أن العملية تنتمي إلى سلسلة ضربات “توازن الردع”، وأن أهدافها كانت كلها منشآت تابعة لأرامكو، كان من الجلي أن صنعاء أعادت ضبطَ المشهد من جديد وِفْـقاً لمعادلات “القوة” التي تنفردُ منذ مدة بفرضها على الميدان، خُصُوصاً وأن العملية جاءت عقب وعود استثنائية ملفتة أطلقها قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في خطابه الأخير، وحملت إشارات واضحة إلى مواصلة مسار “فرض المعادلات” الاستراتيجية الكبرى.
أما بعد الإعلان عن العملية، وأهدافها، فلم يعد هذا الأمر “تحليلاً” بل واقعٌ يمكن البناءُ عليه لفَهم المشهد، فاستئنافُ عمليات “توازن الردع” الشهيرة التي تمثل خَطًّا استراتيجيًّا رئيسيًّا من خطوط مسار المواجهة الشاملة، يعني إعادةَ وضع النظام السعوديّ ورُعاته أمامَ “ضرورة” وقف العدوان والحصار بالنسبة إليهم، وخُصُوصاً بعد فترة كانت حافلةً بالضجيج حول “السلام”، إلى حَــدِّ أن الرياضَ وواشنطن تجرَّأتا على إظهار مؤشرات “اطمئنان” لنجاح مناورتهما الرامية لتقييدِ خيارات صنعاء العسكرية، من خلال رفع شعار وقف الحرب وتصعيد الابتزاز بالمِلف الإنساني.
هذا ما يؤكّـده أَيْـضاً مضمونُ تعليق رئيس الوفد الوطني، ناطق أنصار الله، محمد عبد السلام، على العملية، والذي جاء فيه “بمقابل إصرارهم على مواصلة العدوان والحصار، سيستمر الشعب اليمني في الدفاع عن نفسه”، وَأَضَـافَ مباركاً عملياتِ الردع الصاروخية والجوية أن “هذه عمليات مشروعة تأتي التزاماً بالموقف الدفاعي للشعب اليمني المحاصَر والمعتدَى عليه، ومن شأنها بإذن الله أن تتسعَ وتكبر وتتصاعد”.
إنها مجدّدًا المعادلات التي حاول الأمريكيون والسعوديّون تفاديَها خلال الفترة الماضية، من خلال خلق منطقةٍ وسطى بين خيارَي “وقف العدوان والحصار” وَ”التعرض للوجع المتصاعد”، وهي المنطقة التي كان يُفترَضُ أن تدورَ فيها أحداثُ “مبادرة” الابتزاز بالمِلف الإنساني والمعيشي، والتي اتضح لاحقاً أنها ليست مُجَـرّد “مقترح” رديء، بل استراتيجية عدوانية رئيسية تتبناها إدارة بايدن كمنهجٍ وقاعدة للتعامل مع الملف اليمني.
وعلى عكس تقديرات النظام السعوديّ والولايات المتحدة التي بدا بوضوح أنها أساءت تفسير انفتاح صنعاء على مناقشات السلام واعتبرتها “نتيجة إيجابية” نوعاً ما للابتزاز والخداع، جاءت عمليةُ توازن الردع السابعة لتؤكّـد أن المعادلات الاستراتيجية التي فرضتها صنعاء بالقوة، بعيدة جِـدًّا عن متناول أية ضغوط أَو مناورات مهما كان حجمها، وأن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعفي الرياض من عقوبة استمرار العدوان، هو إنهاؤه تماماً وعبر الطريق الوحيد الذي حدّدته قيادة صنعاء: وقف الغارات ورفع الحصار وسحب القوات الأجنبية، ثم الدخول في مناقشات الحل السياسي.
وتمثل طبيعةُ أهداف “توازن الردع السابعة” إنذاراً مهماً ومرعباً للنظام السعوديّ، فمع عودته إلى مواجهة معادلة “وقف العدوان والحصار أَو الوجع الكبير” تعيدُ القواتُ المسلحة تذكيرَه بأن ذلك “الوجعَ” ليس من النوع القابل للتجاهل، ففي ظل القدرات اليمنية المتطورة التي يمكنها تغطيةُ كامل جغرافيا المملكة بضربات متزامنة ودقيقة وشديدة التأثير، لا سقف يحدّد الأضرار التي يمكن أن يصابَ بها الاقتصادُ السعوديّ الذي تعلم الرياض أنها بدونه لا شيء، وفي مقدمة ذلك “أرامكو” التي يمثل قصفها بـ16 طائرة مُسَـيَّرَة وصاروخاً بالستياً، نموذجاً عمليًّا يفتح الباب أمام احتمالات ربما لا يقوى النظام السعوديّ حتى على تخيلها.
وقد جاءت العملية بعد يومين فقط من تأكيدِ وزير الخارجية الأمريكي، انتوني بلينكن، لنظيره السعوديّ، على “التزام الولايات المتحدة بدعم المملكة في الدفاع عن نفسها وأرضها”، ووسط حملة “إداناتٍ” غربية لاستهداف “البُنية التحتية” السعوديّة، الأمر الذي يوجِّهُ رسالةً إضافيةً مفادُها أن العالَمَ لن يستطيعَ بإداناته أَو بـ”دعمه” حماية أرامكو أَو إيقاف استهدافها.
ومن نافلة القول أَيْـضاً أن التركيزَ على منشآت أرامكو في هذه العملية، وإلى جانب الاعتبارات السابقة، يمثل ردًّا ملائمًا على التصعيد المُستمرّ في الحرب الاقتصادية العدوانية ضد اليمن، وهو ما يضيفُ مِيزةً أُخرى لهذه العملية، وأنها تقاطعت مع كُـلّ تفاصيل المشهد سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا.
وفيما يخص الجانب العسكري بالذات، تبدو علاقة واضحة بين توقيت العملية وبين مستجدات الوضع في محافظة مأرب، وهي علاقةٌ لها أَسَاسٌ معروفٌ في الاستراتيجيات القتالية لصنعاء، حَيثُ تترافق التطورات العسكرية البرية في كثيرٍ من الأوقات مع تصعيدٍ صاروخي وجوي (تأكيدات قائد الثورة في الخطاب الأخير تؤكّـد هي الأُخرى هذه العلاقة)، وقد حرص ناطقُ القوات المسلحة، أمس، على اختتامِ بيانه حول العملية، بالتأكيد على المضي في خيار “تحرير كافة أراضي الجمهورية”،
وذلك بعد ليلة من إعلان السلطة الوطنية في مأرب عن استعادة مديرية رحبة، وبالرغم من أن مبادرة قائد الثورة بشأن المحافظة ما زالت مطروحة، إلا أن هناك تزايُداً في مؤشراتِ عدمِ تعاطي قوى العدوان معها، وعملية “توازن الردع السابعة” قد تكونُ بما تمثله من “إعادة ضبط” للمشهد مؤشراً آخرَ على أن خيارَ استكمالِ تحرير المحافظة عسكريًّا هو الأرجح.
أخيرًا، ومن الجوانبِ التي تتقاطعُ فيها عمليةُ “توزان الردع السابعة” مع التفاصيل السياسية للمشهد العام، تزامُنُها مع إعلان تسلُّم المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن، هانس جرندبيرغ مهامه، حَيثُ تترجمُ هذه العمليةُ التنبيهَ الصريحَ الذي وجّهته له صنعاءُ في وقت سابق والذي أكّـدت فيه أنها “لن تبدأَ من الصفر مع أي مبعوث”.