– لا أحد يستطيع تفسير كلّ حالات فشل واشنطن والغرب بمعايير الخصوصية التي تحيط بكلّ حالة منها، لمجرد الرغبة بنفي صفة المشترك بينها، وهو التراجع التاريخي للمشروع الغربي وفي طليعته المشروع الأميركي. فالمعادلة التاريخية سياق وليست حدثاً منفصلاً يليه حدث منفصل تفسرهما الخصوصية، وثمة مسار بين نهاية الحرب العالمية الثانية والانسحاب من أفغانستان وبينهما سقوط جدار برلين يحكي حكاية تراجع مسار السيطرة، حيث الأميركي الذي كان يمثل 6% من سكان العالم ويستحوذ على 50% من ثرواته، وصار عام 1990 يمثل 4% من سكان العالم ويستحوذ على 40% من الثورات، هو اليوم أقل من 3% من سكان العالم ويستحوذ على أقل من 30% ثروات العالم.
عقدين من الفشل
واشنطن التي أنهت التحالف النازي الذي قادته ألمانيا بالشراكة مع الاتحاد السوفياتي، ثم أنهى الاتحاد السوفياتي وتفرد في حكم العالم، أمضى عقدين من الفشل والتراجع في كل الحروب التي خاضها في محاولة فرض نموذجه كمثال عالمي أحادي يمثل نهاية التاريخ، وهو لا يملك اليوم سبيلاً سياسياً أو عسكرياً للخروج من هذا الفشل، والفشل في أفغانستان يختصر هذا العجز، حيث السبيل السياسي انتهى بالفشل، والسبيل العسكري لن يحل شيئاً ولو بقي لعشرين عاماً أخرى كما قال جو بايدن، والبديل الثالث هو الذهاب لتفاهمات دولية كبرى تمنح الخصوم الكبار انتصارات كبرى، أو الدخول في مسلسل عنوانه العناد على البقاء منعاً لذل الهزيمة، وانتقاماً لصورة الهروب الكبير من أفغانستان، أو الانسحابات المتلاحقة وصولاً لمزيد من الفراغ يملأه الخصوم المحليون أو الإقليميون أو الدوليون، منفردين أو مجتمعين، كما يقول مثال أفغانستان أيضاً.
ساحة المعركة
– يتداخل في وضعية واشنطن والغرب، على رغم الكلام الانفعالي الأوروبي وأوهام الانفراد العسكري والسياسي، كل شيء، فالغرب كله أمام خطر الهزيمة الإستراتيجية، لأن ساحة المعركة هي آسيا، وفي آسيا أكثر من نصف سكان العالم وأكثر من نصف مساحته وأكثر من نصف ثرواته وأكثر من نصف قوته العسكرية، وجوهر عنوان المعركة هو استقلال آسيا، التي تنتمي اليها كل دول وقوى المواجهة مع أميركا والمشروع الغربي على تنوعها، ولا ينتمي إليها أي من دول الغرب، ولذلك فالغرب بقيادة الأميركي يخوض مواجهة يائسة من الخارج مع نضوج ونمو قوى الداخل الآسيوي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وشعبياً لمعركة الاستقلال، واختلال التوازن لصالحها، وأفغانستان ليست إلا العينة الصغرى لهذه المعركة.
ولم يعد ممكناً للأميركي بعد أفغانستان إلا الاختيار بين مواجهة قد تتصاعد نحو حرب، تحت شعار استعادة الهيبة المجروحة في أفغانستان، ووقف مسلسل الانهيارات، أو مواصلة الانكفاء والتراجع تفادياً للمواجهة، والاختبار هو في العراق وسورية، وفي هذه الحال سيكون أمام مواجهة مع قوى ودول ليس عندها مجال للتهاون مع بقاء القوات الأميركية وليس لديها الاستعداد لمنح الأميركي جوائز ترضية كثمن للانسحاب.
ما يعني أن الشهور المقبلة ستحمل تصاعداً تدريجياً في المواجهة، وصولاً إلى انفجارها بصورة دراماتيكية بمجرد انكشاف صورة القرار الأميركي برفض الانسحاب، بعد نهاية المهلة المعقولة لاحتواء نتائج الانسحاب من أفغانستان، وفي هذه المواجهة التي ستتحول إلى حرب، أمام الأميركي ومن خلفه حلفائه في الغرب فرضية كان قد ناقشها مراراً، وهي أن أي خيار مواجهة يعني فرضية حرب كبرى، قد تشترك فيها دول كثيرة في المنطقة وخارج المنطقة، لكن الأخطر فيها هو أن «إسرائيل» ستصبح ميدان الرمي الحر في هذه الحرب، وهو ما سبق وقاله الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في حوار مع صحيفة «هآرتز» عام 2012 في تفسيره لسبب عدم تكرار نموذج ليبيا، مع سورية، وكل شيء يقول إن «إسرائيل» لن تستطيع الصمود وجودياً إذا واجهت هذه الفرضية في أي حرب مقبلة.
البديل المتاح
– البديل المتاح هو مواصلة الانكفاء، والانكفاء الذي بدأ في أفغانستان قدم مثالاً، فهو بدأ بتفاوض لعام كامل مع حركة طالبان بشراكة حليف موثوق لواشنطن هو دولة قطر، وانتهى إلى تفاهم على حكومة شراكة بين طالبان والنظام الذي أقامه الأميركيون في كابول، يحميها توازن عسكري يمثله الجيش الذي قاموا ببنائه مقابل مقدرات طالبان العسكرية، لكن كل شيء تهاوى عندما بدأوا الانسحاب، فتقدمت طالبان وتفكك نظام أشرف غني وجيشه وهرب الرئيس وأركان حربه، ثم ذهبت واشنطن إلى الخطة (ب) والتي تقوم على الانخراط مع طالبان بتفاهمات تقطع الطريق على خصوم واشنطن الكبار، روسيا والصين وإيران، وتحرمهم من الوقوف على خط الرابحين.
لكن الأمور سارت سريعاً باتجاه مخالف، فروسيا ضامن ضروري لحسم طالبان مع أحمد مسعود الذي يدعمه بعض الغرب وينغص على طالبان نصرها بحكم محورية دورها في طاجكستان، وإيران مصدر الضرورات الحياتية اليومية لأفغانستان من محروقات ولحوم وخضار وطحين، والصين هي دولة التمويل المتاح بسخاء لإنعاش الاقتصاد وشق الطرق وسكك الحديد وخطوط نقل الطاقة واستكشاف واستخراج الثورات المعدنية وتطوير صناعاتها، كما قال قادة طالبان علناً، وإذا كررت واشنطن تجربة الانكفاء في حالتي سورية والعراق كما فعل في أفغانستان، ستنهار التشكيلات التي بناها في البلدين بأسرع من انهيار حكومة غني وجيشه، وسيتقدم الروسي والصيني والإيراني أسرع مما يتقدمون في أفغانستان، والأخطر هو أن محور المقاومة الذي يمثل القوى المحلية الصاعدة سيمسك بزمام المبادرة في الإقليم وسيضع أمن كيان الاحتلال في دائرة الخطر عاجلاً أم آجلاً.
– لبنان في قلب هذا الارتباك الأميركي في الخيارات، وفي قلب محاولة محور المقاومة الإمساك بزمام المبادرة، كما يقول اختبار سفن المحروقات الإيرانية، الذي أطلقته المقاومة، غداة الانسحاب من أفغانستان، يسرع حسم الخيارات الأميركية، ويجعل معادلة خاسر خاسر أسرع بالنسبة للأميركيين بعد رهانات لسنوات على إسقاط لبنان على رأس المقاومة، وإظهار المقاومة سبباً لكل ما لحق ويلحق بلبنان، وإذا بواشنطن تظهر وهي تعلن أنها ستفك بعضاً من حصارها لتنافس المقاومة على صورة من يخفف المعاناة، وكانها تعترف بأن هذا الحصار هو السبب الرئيسي للأزمات، ولكنها تصيب حلفاءها بالذهول لتجنبها خيار المواجهة، واعتمادها طريق المنافسة على حلول لأزمات كانت هي المسبب الرئيسي لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ناصر قنديل