مقدمة الترجمة
في مقاله المنشور في مجلة “إيكونوميست” البريطانية، يُعلِّق فرانسيس فوكوياما، الكاتب والمفكِّر الأميركي ذو الأصول اليابانية، وأحد أشهر المُنظِّرين لما صار يُعرف بتيار “المحافظين الجدد”، على مشاهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وإذا ما كان هذا الانسحاب من أفغانستان يُمثِّل علامة على نهاية سطوة أميركا على العالم، مؤكِّدا أن تراجع الحضور العالمي لواشنطن يعود لأسباب داخلية في المقام الأول، حتى وإن كان في ظاهره مرتبطا بأخطاء في سياسة البلاد الخارجية.
نص الترجمة
لا شك أن الصور المُرعبة التي انتشرت هذا الأسبوع للأفغان وهم يستميتون للخروج من كابول، في أعقاب انهيار الحكومة التي كانت تدعمها الولايات المتحدة، مَثَّلت لحظة فارقة في التاريخ، وبداية لحقبة نأي أميركا بنفسها عن العالم. ولكن في حقيقة الأمر، فإن نهاية حقبة سيطرة أميركا حصلت قبل هذه اللحظة بكثير. ليس ذلك فحسب، بل إنني أزعم أن عوامل ضعف أميركا وتدهورها مصدرها محلي أكثر من كونه خارجيا. هذا لا يمنع أن تظل أميركا قوةً عظمى في العالم لسنوات عديدة، غير أن مدى فاعلية هذا النفوذ سيعتمد بالطبع على قدرتها على حل قضاياها الداخلية وليس مراجعة سياساتها الخارجية.
لقد استغرقت حقبة هيمنة السيادة الأميركية على العالم أقل من عشرين سنة، من لحظة سقوط جدار برلين عام 1989 إلى فترة الأزمة المالية في الفترة من 2007-2009. خلال تلك الفترة، فرضت أميركا هيمنتها على عديد المجالات، العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
وقد شكَّل غزو العراق عام 2003 ذروة الهيمنة والغطرسة الأميركية في العالم، حيث كانت تأمل أن تتمكَّن من وراء تلك الخطوة ليس فقط من إعادة تشكيل العراق وأفغانستان (التي اجتاحتها قبل عامين من غزو العراق) فحسب، بل إعادة تشكيل الشرق الأوسط بأكمله.
من الواضح أن أميركا قد بالغت في تقدير فاعلية قدرتها العسكرية في إحداث تغيير سياسي جذري، في حين قلَّلت من شأن أثر نموذج اقتصاد السوق الحر على التمويل العالمي. ولهذا انتهت هذه الحقبة بتعثُّر جيوشها في حربين، وحدوث أزمة مالية عالمية زادت الفوارق الهائلة التي أحدثتها العولمة التي تتزعَّمها الولايات المتحدة.
الجدير بالذكر أن الأُحادية القطبية التي اتسمت بها تلك الفترة كانت من الأمور النادرة في التاريخ. ولهذا، فسرعان ما بدأ العالم يعود إلى وضعه الطبيعي الذي تسود فيه تعددية الأقطاب، فاكتسبت بلدان كالصين وروسيا والهند والمحاور الأخرى كأوروبا نفوذا على حساب أميركا.
مع ذلك، فمن المرجَّح أن يكون للانسحاب من أفغانستان أثر ضئيل على الجيوبوليتيك. فقد واجهت أميركا من قبل تداعيات هزيمة مهينة حينما انسحبت من فيتنام عام 1975، لكنها سرعان ما استعادت سطوتها في أقل من عقد، وهي اليوم تتعاون مع فيتنام لكبح جماح التوسُّع الصيني.
التحدي الأكبر
إن التحدي الأكبر الذي يُهدِّد مكانة أميركا في العالم -بحسب تقديري- هو العامل المحلي. يشهد المجتمع الأميركي استقطابا حادا، ويجد صعوبة بالغة في التوصُّل إلى اتفاق حول كل شيء تقريبا. ابتدأ هذا الاستقطاب بالاختلاف على السياسات التقليدية المعتادة مثل سياسات الضرائب والإجهاض، لكنه بعد ذلك تحوَّل إلى صراع مرير حول الهوية الثقافية.
وأُشير هنا إلى أن قضية المطالبة بالاعتراف من جانب الجماعات التي تشعر بأنها هُمِّشت من قِبَل النُّخب هي مسألة كنت قد حدَّدتها منذ 30 عاما على أنها نقطة ضعف الديمقراطية الحديثة .
ومع أن التهديد الخارجي الكبير للبلدان مثل تهديد الجائحة العالمية يُفترض أن يكون في العادة مناسبة لالتفاف المواطنين لتشكيل رد مشترك، فإن أزمة “كوفيد-19” أدَّت إلى تعميق الانقسام وسط الأميركيين، فاختلفوا حول تأويل التباعد الاجتماعي وارتداء الأقنعة، والآن باتوا ينظرون إلى عمليات التطعيم ليس على أساس كونها تدابير للصحة العامة، ولكن باعتبارها إجراءات سياسية.
امتدت هذه الصراعات إلى جميع جوانب الحياة، من الرياضة إلى العلامات التجارية للمنتجات الاستهلاكية التي يشتريها الأميركيون في الحزبين الجمهوري والديمقراطي. واستُبدِلت الهوية المدنية التي افتخرت بها أميركا باعتبارها أمة ديمقراطية متعددة الأعراق في حقبة ما بعد الحقوق المدنية بروايات متناحرة على تفسير تاريخ ميلاد الدولة الأميركية عام 1619 مقابل عام 1776، أي السجال على ما إذا كانت الدولة قامت على ميراث العبودية أم أنها قامت على أساس النضال من أجل الحرية .
وهكذا، صار الصراع يتوسَّع في خلق وقائع يراها كل طرف بصورة مستقلة ومنفصلة، وهو ما جعل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2020 تبدو لأحد الطرفين واحدة من أكثر الانتخابات نزاهة في التاريخ الأميركي، في حين نظر إليها الطرف الآخر باعتبارها انتخابات شهدت تزويرا واسع النطاق وأدَّت إلى رئاسة غير شرعية.
طوال سنوات الحرب الباردة إلى أوائل سنوات الألفية، كان هناك إجماع وتوافق قوي في الآراء وسط النُّخَب الأميركية لصالح المحافظة على تقلُّد أميركا دفة القيادة في سياسات العالم. غير أن ضراوة الحروب التي أضحت تَدُور بلا أُفق في أفغانستان والعراق جعلت العديد من الأميركيين يضيقون ذرعا بقضايا التدخُّل، ليس في الأماكن الصعبة كالشرق الأوسط فحسب، بل بالتدخُّلات الدولية في العموم.
هذا الاتجاه أثَّر بصورة مباشرة على السياسة الخارجية. ففي سنوات أوباما، اتخذ الجمهوريون مواقف مُتشدِّدة ووبَّخوا الديمقراطيين واتهموهم بالسذاجة فيما يتعلَّق بموقفهم من الرئيس بوتين. ثم جاء الرئيس السابق ترامب فقلب تلك الموازين واحتفى علنا بالسيد بوتين، حتى أصبح اليوم ما يقارب نصف الجمهوريين يؤمنون بأن الديمقراطيين يُشكِّلون الخطر الأكبر على نمط الحياة الأميركية أكثر من روسيا.
ومن الشواهد على هذا الاستقطاب سفر “تاكر كارلسون”، المذيع التلفزيوني المحافظ، إلى بودابست للاحتفاء بفيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري الدكتاتوري. فلاحظ كيف أصبح استعداء التيار الليبرالي (أي استعداء اليسار) أكثر أهمية من الدفاع عن القيم الديمقراطية.
في المقابل، هناك توافق أكثر وضوحا فيما يتعلَّق بالصين، فالجميع في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يُجمِع على أن الصين تُمثِّل تهديدا للقيم الديمقراطية. ولهذا فإن تايوان ستكون الاختبار الأصعب للسياسة الخارجية الأميركية أكثر من أفغانستان، خاصة إذا تعرَّضت تايوان إلى هجوم صيني مباشر.
فهل ستكون الولايات المتحدة على استعداد للتضحية بأبنائها لمصلحة الدفاع عن استقلال تلك الجزيرة، أي تايوان؟ والسؤال الآخر هو: هل تُخاطر الولايات المتحدة بالدخول في صراع عسكري مع روسيا لو قرَّرت هذه الأخيرة غزو أوكرانيا؟ هذه تساؤلات جدّية وليس من السهل الإجابة عنها، لكن من المرجَّح أن يُجرى نقاش عقلاني حول المصلحة الوطنية الأميركية، لكنه في المقام الأول سيكون من منظور تأثير تلك القضايا على الصراعات الحزبية.
زمان الاضمحلال الأميركي
لقد أضرَّ الاستقطاب بالفعل بتأثير أميركا العالمي، قبل حصول مثل هذه الاختبارات في المستقبل. لطالما اعتمدت أميركا في ذلك التأثير على ما أطلق عليه جوزيف ناي، الباحث في السياسة الخارجية، “بالقوة الناعمة”، أي جاذبية المؤسسات الأمريكية والمجتمع الأميركي للناس في جميع أنحاء العالم. لقد تراجعت جاذبية هذا النموذج إلى حدٍّ كبير: من الصعب على أي شخص أن يقول إن المؤسسات الديمقراطية الأميركية كانت تسير على ما يُرام في السنوات الأخيرة، أو إن أي دولة يجب أن تُقلِّد العصبية السياسية والاختلال الوظيفي الذي شهدته أميركا.
إن السمة المميزة للديمقراطية الناضجة هي القدرة على إجراء عمليات انتقال سلمي للسلطة بعد الانتخابات، وهو الاختبار الذي أخفقت فيه البلاد إخفاقا مذهلا في 6 يناير/كانون الثاني 2021.
إن أكبر كارثة سياسية لإدارة الرئيس جو بايدن خلال الأشهر السبعة التي قضتها في الحكم هي فشلها في التخطيط بشكل يتناسب مع الانهيار السريع لأفغانستان. لكن مهما بدا ذلك غير موفَّق، فإنه لا يُلغي الحكمة وراء القرار الأساسي بالانسحاب من أفغانستان، فقد تُثبت الأيام في النهاية أنه القرار الصائب.
أشار السيد بايدن إلى أن الانسحاب من أفغانستان كان ضروريا من أجل التركيز على مواجهة التحديات الكبرى من روسيا والصين في المستقبل، وآمل أن يكون جادا في هذا الأمر. فباراك أوباما لم ينجح أبدا في إبرام “حلف” لآسيا لأن أميركا ظلَّت مشغولة على الدوام بمكافحة العصيان والتمرُّد في الشرق الأوسط. لهذا، فإن الإدارة الحالية تحتاج إلى إعادة توزيع الموارد واهتمام صانعي السياسة من أماكن أخرى من أجل ردع المنافسين الجيوسياسيين والانخراط مع الحلفاء.
ليس من المرجَّح أن تستعيد الولايات المتحدة وضعها السابق في الهيمنة، بل ولا ينبغي لها أن تطمح إلى ذلك. ما يمكن أن يأمل فيه الأمريكيون هو العمل مع البلدان ذات التفكير المماثل للحفاظ على نظام عالمي صديق للقيم الديمقراطية.
في التحليل الأخير، فإن مدى قدرة الولايات المتحدة على القيام بذلك لا يعتمد على الإجراءات قصيرة المدى في كابول، ولكن على قدرتها على استعادة الشعور بالهوية الوطنية والإحساس بالهدف داخل البلاد.
العصر التحليلية