كان الانكسار واضحا في الشكل والمضمون، وجميع التفاصيل تشي بهزيمة مبرمة للإمبراطورية الأمريكية الاستعمارية، التي فاض جوهرها المتوحّش في مشهد الهرولة والتدافع إلى الطائرات المغادرة، التي سقط عن سلالمها بعض الأفغان، الذين عملوا في خدمة الاحتلال، وتعلقوا بالأجنحة والعجلات قبل إقلاعها، وقدّمت عليهم القيادة العسكرية الحيوانات التي اصطحبها الغزاة في طريق الخروج.
أولا: مسار التطور السياسي في أفغانستان ومستقبل السلطة سيكون حاصل التشكّل الوطني والخصائص الوطنية الأفغانية، وبعيدا عن الهيمنة الأمريكية، التي تحكّمت بالبلاد منذ الغزو.
ومما لا شك فيه إن تعقيدات وتعرّجات كثيرة تُرتقب في هذا المسار، لكن الحصيلة ستكون سلطة سياسية ونظاما سياسيا بعيدين عن المشيئة الاستعمارية واملاءاتها. وننصح المتابعين والمحللين في بلدنا ان يتابعوا التجربة بدون أحكام مسبقة، وأن يعاينوا هذا المخاض بخصائصه.
ويقينا سيقيم الشعب الأفغاني مؤسسات وطنية تعكس إرادة أبناء البلد وأهله وتجسدها، وهو ما يُفترض أن يحظى باحترام وقبول جميع الدول القريبة والبعيدة، عملا باحترام حقّ تقرير المصير دون قيد أو شرط، وحتى ما يمكن أن يعتور الواقع الجديد من شوائب في نظر الأخرين من غير الأفغان، هو شأن وطني سيادي، لا ينبغي التدخّل فيه أو اتخاذه ذريعة.
وعلى هذه القاعدة يُفترض أن تُترك للتجربة الأفغانية الجديدة عملية تشكيل السلطة، ورسم هويتها وخياراتها في الشكل السياسي والدستوري والنظام الاقتصادي والعلاقات الخارجية، وهذا هو معنى احترام حقّ تقرير المصير دون إملاءات أو تدخلات. وسوف تتكفّل التجربة بتبلور الشكل والمحتوى الأنسب، الذي يلائم الواقع الاجتماعي والسياسي، ويعبر عن الحاصل الوطني العام للإرادة الشعبية.
ثانيا: يمثل الهروب الأمريكي من أفغانستان هزة عنيفة لجبروت الإمبراطورية المهيمنة، وصفعة مدوّية لمنصات العمالة والتبعية في العالم الثالث، ولاسيما في الشرق العربي والإسلامي، وهو سيطلق مناخا مشبعا بنزعة التمرّد والرفض في وجه أنماط الاحتلال الأمريكي المباشر والمقنّع. ويصح ارتقاب فعل الدومينو بتساقط معاقل الاحتلال والتواجد العسكري الأميركي بالتتابع، والسؤال: ماذا بعد أفغانستان عن مصائر جيوب العدوان، والتدخّل في الشرق العربي، ولاسيما في العراق وسورية،
حيث توجد جيوش وطنية وقوى تحرّر، ستجد في المناخ الجديد بعد الحدث الأفغاني فرصة مؤاتية لطرد الوجود الاستعماري، واقتلاعه من جذوره. مما سيعني تتابع الخروج الأمريكي من غرب آسيا، ونشوء ظروف جديدة، تجعل حياة الجماعات والحكومات العميلة أشدّ صعوبة. وليس من المستبعد تزايد الهفوات والارتباكات والانعطافات وملامح التوتّرات والصراعات الداخلية، واشتدادها في ظل هذا التحول الاستراتيجي، الذي فاجأ الكثير من الزمر الحاكمة العميلة، التي استندت لعقود إلى الطغيان والجبروت الأميركي.
ثالثا: إنه التوقيت المناسب لإطلاق عمل هجومي شامل بتضافر جهود القوى والحكومات الحرة، لاقتلاع القواعد والبؤر العسكرية الاستعمارية الأميركية، وجيوب العمالة دون رحمة من منطقتنا في أقصى سرعة ممكنة، والعين على سورية والعراق واليمن. والمطلوب جهد جماعي تتكامل فيه إمكانات محور المقاومة والتحرّر على الصعيد الإقليمي، واخراج التوقيت والشكل من جميع دوائر التوهّم عن التكيّف مع الظروف الجديدة، أو الرهان البائس على مكاسب ظرفية. وواجب الحكومات المناهضة للهيمنة الاستعمارية الأمريكية في الشرق الكبير أن تساند تلك الجهود، وتدعمها، وتؤازرها،
بدلا من أوهام البعض حول حسابات تكتيكية، لا تغني ولا تسمن، فهي هدر للوقت وللمقدرات بلا طائل، بينما الفرصة العظيمة، هي مطاردة فلول قوات الإمبراطورية المندحرة، وعدم إعطائها فرصة لالتقاط الأنفاس، لأن خروجها من المنطقة مهزومة تحت النار، يقيم حزاما رادعا، يحصّن إرادة الاستقلال والتحرّر، ويحمي بلداننا، ويصون خيارات الشعوب وإرادتها في التحرّر والاستقلال والبناء الوطني المستقلّ على أنقاض الهيمنة والحروب الاستعمارية وويلاتها، وبما يجسّد الإرادة الشعبية الحرّة في كل من بلدان المنطقة.