تفكيك عقدة المشهد الحالي، أو ربطه بمعنى أدق، يكشف أن أسطورة القوة الأميركية – بوهمها ووهجها – التي تنكسر حلقاتها واحدة تلو الأخرى، لن تنهدم في موقف واحد بالتأكيد، ولن تسقط كلها من علياء الهيمنة إلى ذلّ الأفول في لحظة مجيدة، لكن القدرة الأميركية تتضعضع وتضعف وتتراجع في صور تتراءى لمن أراد أن يرى.
فجأة تخبطت الخطوات الأميركية في لبنان، وسقط قانون قيصر الذي حاصر ويحاصر سوريا ولبنان مجتمعين، ويفرض الخط الأحمر لمنع التواصل بين محور المقاومة، وعلى لسان السفيرة الأميركية، في مشهد طوى سنوات طويلة من جهود عزل سوريا وإبعادها عن لبنان.
في هذه اللحظة النادرة، وبناء على سنوات النصر والجهاد في كل ساحة معركة، وفي ظل العجز الأميركي المفاجئ، والمأخوذ بما حدث، جاءت خطوة السيد نحو سوريا. وبالأمس في الذكرى السنوية الرابعة للتحرير الثاني، ربط سماحة السيد حسن نصر الله ما حدث وما سوف يحدث بسوريا، مرة أخرى، وقال: “قانون قيصر لم يكن فقط حصارًا لسوريا بل هو أيضًا حصار للبنان”، لمن ينفي التأثير والمنع عن لبنان، ليعيد السيد الأزمة إلى جذرها الأول والمباشر.
الضربة الإلهية جاءت بالطبع كاسحة للصهاينة، الجانب الأكثر انتكاسة لما يحدث للراعي والحليف والخزانة القادرة، ويبدو الكيان في هذه اللحظة كاللقيط المنبوذ، بلا أب، فاقد للحماية والقدرة على الحركة، وينزف ثقته في المستقبل بتتابع مريع.
النظرة الشاملة للمنطقة، في ظل انسحاب أميركي مهين على أطرافها، تقتضي الاعتراف بأن الشلل الصهيوني الحادث ليس علامة تسليم بالواقع، بل هو وقفة لالتقاط الأنفاس، يريدها قادة الكيان وبشدة، لهضم مفاجأة كسر حصار سوريا ولبنان، وفتح الطريق الواسع بين طهران ودمشق وصولًا إلى بيروت.
المطلع على الإعلام الصهيوني طوال فترة ما بعد خطاب السيد الأول، والذي أعلن فيه الاتفاق على أولى البواخر الإيرانية إلى لبنان، سيجد الصمت أقرب توصيف فعلي للمشهد، والإعلام الصهيوني الخاضع تمامًا لسيف الرقابة العسكرية الصارم لن يسكت على هكذا تهديد دون إشارة توقف قاطعة.
يبدو الكيان في حاجة لفسحة وقت، تمكنه من استيعاب ما حدث والذي شكل مفاجأة عصية على التصديق، ثم فرصة للحركة التي شلها تمامًا زحام الحوادث بعد المفاجأة، فوجد الكيان موقفه ضعيفًا، وفي أفضل الأحوال سيكون رد فعل على قرار لبناني أول، وبالتالي سيضع على كاهله ثمنًا غير معروف لأي خطوة قد يفكر بها، وهو يريد الوقت بالتالي لحساب خطواته القادمة.
التحولات التي بدأت بإشارة سيدنا، سيد المقاومة والنصر، السيد حسن نصر الله، ليست مجرد قلب لقواعد اللعبة، وفقط، والناظر إليها سيعاين وضعًا لأساس عصر جديد، لا يمثل تحدي الأميركي والصهيوني إلا أول غيثه، وستحفر معطيات اليوم، بأصابعها وأظفارها، وجه المستقبل كله.
هدف هذه المرحلة هو ضرب فلسفة الاستمرار الصهيوني في فلسطين، ومن ورائه فلسفة وجوده أصلا على أرضنا العربية، في مقتل، وقلب حياة هذا الكيان الصهيوني هو الجيش أولًا، والذي يحرص الكيان دائمًا على إخراجه بصورة جيش لا يهزم، ثم الاستثمارات الأجنبية الضخمة، وأخيرًا نظرية التفوق الصهيوني على المحيط العربي الواسع.
يستند الكيان في وجوده واستمراره إلى العوامل الثلاثة مجتمعة، الجيش بما صنع له من هالة، وفرت لها القوى الغربية الداعمة أقصى درجات التأثير بالحديد والنار، فلا ريب إن كان متفوقًا بزمن كامل على كل الجيوش العربية مجتمعة، وفي كل حرب خاضها الصهاينة، كانوا ينتقلون من تدمير جيش عربي إلى آخر، بيسر وسهولة تامين وغريبين.
وفي حال الأزمة، كانت الولايات المتحدة حاضرة، بقضها وقضيضها، للمساعدة الفورية الجبارة، في حرب تشرين التحريرية تدخلت القوة الأميركية فور وقوع المحظور، وقرب الهزيمة اللافحة الأولى للصهاينة، لتحوّلها إلى ما يمكن أن يروج كنصر هائل، بتجميد التقدم السوري أولًا، ثم حصار الجيش المصري الثالث، والعبور عكسيًا إلى إفريقيا في يوم وليلة.
في الحالة الثانية كانت الاستثمارات الغربية حاضرة، وفورًا، ممثلة في جيوش من الثروة البشرية، ثم عشرات المليارات من الدولارات جاهزة للضخ في مفاصل وشرايين الاقتصاد الصهيوني، فتنشط أسباب البقاء لدى من يفكر في المغادرة أولًا، ثم تضيف دوافع إضافية لرغبات من يرغبون بالانتقال إلى أرض اللبن والعسل والميعاد، حيث الوظيفة المضمونة والأرض التي هجرها سكانها تبحث عن بدلاء جدد.
بالأخير، وباستخدام السلاح والاقتصاد، يحافظ الكيان الصهيوني على مكانته الدائمة كواحة للنمو والتقدم، وسط بحر عربي يعاني مرارات التخلف وأسر الجهل والفقر، منارة للتفوق، وجيتو حضاري وسط شعوب يتم تصوريها كمجموعات من القبائل البربرية، التي لا تعرف للحضارة طريقًا، ووجب على هذا الكيان المتفوق إخضاعهم، كما أخضع سلف الأميركي الهنود الحمر لحضارته.
بأي مقياس، وبكل مقياس، ستبقى ضربات السيد، بداية من خطاب عاشوراء المبهر والعظيم، ضربة ثلاثية للكيان الصهيوني، ويأتي في ظل وضع أمثل، من تراجع أميركي يسعى لإعادة تموضع مكلفة، بل ومشكوك فيها، ثم إن الكريم يثبت أن الفعل في هذه المنطقة ممكن، عقب انتصارات متتالية، ولّدت بحد ذاتها القدر المطلوب من الثقة بالنفس وفي الإمكانيات، وبدورها منحت محور المقاومة كله الوقود من القوة الدافعة اللازمة لتجاوز الحصار الأميركي والتهديد الصهيوني، بالقدر ذاته الذي كسرت فيه غطرسة القوة الصهيونية، والتي كانت تسمح له بالضرب أنى شاء ومتى شاء، لفرض مطالبه وردع كل تطلع لحقوقنا، إذا ما بدا له ثمة تمرد على زمن الخضوع.
____
أحمد فؤاد