الانسحاب الأمرييكي من أفغانستان ليس مفاجئاً ولم يجر من دون ترتيبات مع “طالبان”، التي تتقاطع، كما يبدو، مع دور أميركيّ جديد جرى إعداده خلال مفاوضات الدوحة.
من المؤكّد أنَّ أميركا الإمبريالية تلقَّت هزيمة أخرى في أفغانستان، كما في معظم غزواتها واعتداءاتها هنا وهناك، وخصوصاً فيتنام، ولعلَّها في طريق الهزيمة في العراق أيضاً، بعد أن هزم مشروعها في سوريا، إلا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان هو انسحاب مفاجئ، ومن طرف واحد، ومن دون ترتيبات مع “طالبان”، التي تتقاطع، كما يبدو، مع دور أميركيّ جديد جرى إعداده خلال مفاوضات الدوحة.
ومما يعزّز ذلك، أنَّ السنوات التي سبقت تسليم كابول لم تشهد أية صدامات عسكرية حقيقية بين الطرفين، بعكس فيتنام، التي ظلَّت تقاتل حتى آخر لحظة وآخر جندي، وهو ما يعني أنَّ كابول سُلِّمت إلى “طالبان”، كما سُلِّمت الموصل إلى “داعش” مع أسلحة وذخائر متطورة،
وذلك في ضوء الاعتبارات التالية:
1- الأهمية الدولية المتزايدة لآسيا الوسطى في العقود القادمة، فالقوى الكبرى الصاعدة تتشكَّل هناك: الصين طريق الحرير، روسيا الأوراسية، وكذلك قوى إقليمية مثل إيران، وهو ما يعني أنَّ أميركا وهي تخلي مواقع أساسية في الشرق الأوسط (من دون أن يعني ذلك الانسحاب منها) معنيّة بمواقع أساسية في آسيا الوسطى، ما يجعل الحديث عن الانسحاب من أفغانستان حديثاً بلا معنى، والأدقّ إعادة انتشار جيوسياسي بأدوات وأشكال ومقاربات جديدة.
2- إنَّ الصدام القادم في آسيا الوسطى لا يعني بالضرورة أن يكون صداماً عسكرياً فقط، بل يمكن لواشنطن وتفاهماتها مع “طالبان” وغيرها أن تدير أشكالاً أخرى من الصراع انطلاقاً من أفغانستان.
3- ثمة دور واضح للدّوحة، التي كما كانت قاسماً مشتركاً مع تركيا خلال السنوات السابقة من ربيع الفوضى في الشرق الأوسط، هي اليوم حاضرة كقاسم مشترك مع “طالبان” وتقاطعاتها مع الاستراتيجية الأميركية الجديدة إزاء آسيا الوسطى.
وإضافةً إلى البعد السياسيّ المعروف، فإنّ الدوحة اليوم من أهمّ المراكز الأميركية لإعادة تأهيل “الإسلام السياسي” الأميركي- البريطاني، وخصوصاً مؤسَّسات مثل “راند” التابعة لاستخبارات البنتاغون، والتي تتولّى منذ سنوات إعادة التأهيل المذكور لكلِّ جماعات “الإسلام السياسي” المرتبطة بها و”نوعمة” أساليبها وأدواتها وتحويل الملحقات اللوجستية، مثل الإعلام والمال في محمية الغاز والأدوات الأخرى في الشارع العربي، إلى ملحقات في إسطنبول الجديدة (كابول)، ولا يستبعد إنتاج زعيم أفغاني للدهماء بديلاً من إردوغان، الذي تؤشر معطيات عديدة على أفول نجمه في تركيا نفسها.
ومما يعزّز هذه القراءات أنَّ زعامة تركيا الحالية وُلدت من رحم البنتاغون، كما أظهرت دراسات لويس- بريجنسكي، لتشكيل مركز إسلاموي لمنع الصحوة الروسية وتطويقها عبر الجمهوريات السوفياتية الإسلامية السابقة، لكن ضغط التجاذبات الداخلية والإقليمية ومصالح البرجوازية الكبيرة حوّلت تركيا إلى لاعب مزدوج بين واشنطن وموسكو، وهو الأمر الذي لم تعد أميركا ترحّب به، وراحت تبحث عن بديل له في مواجهة التحديات المتصاعدة من قوى مثل الصين وروسيا وإيران،
غير أنَّ هذه المحاولات الأميركية غالباً ما ستنتهي بالفشل في ضوء المعطيات التالية:
1- في ما يخصّ الصين التي باتت المنافس الاقتصادي الأول للإمبريالية الأميركية، فإنَّها لم تعد “إمبراطورية الفضة”، كما كانت في نهضتها الأولى، التي واجهتها الإمبريالية البريطانية آنذاك بأقذر حرب في التاريخ، هي حرب الأفيون، كما لم تعد المقاومة الصينية من نمط “البوكسرز”، فالصين اليوم إمبراطورية من ذهب بالمعنى الرمزي والمادي، ولها أسنانها النووية والسيبرانية، ناهيك بإزاحتها المتسارعة للرأسمالية الأميركية والأوروبية من أسواق كبرى متزايدة، وتحوّلها إلى إمبراطورية برية – بحرية.
ومما يخدمها اليوم، أنَّ الإمبرياليات الكبرى مثل أميركا ليس لديها ما تفعله سوى استخدام أدوات وتحالفات غير مؤثرة. ومن المؤكّد في هذا السياق أنَّ النصائح الأخرى ضد الصين، كما اقترحها جورج فريدمان، تلميذ بريجنسكي، لم تعد عملية تماماً، لا في اليابان وكوريا الجنوبية، ولا حتى في الباكستان، فعولمة الاقتصاد والبضائع والأسواق والمرافئ جعلت من الحرب الاقتصادية حرباً معقَّدة ومتداخلة.
وإذا كان المثال الياباني والكوري الجنوبي، ناهيك بسنغافورة التي أصبحت شبه صينية، واضحاً، فباكستان نموذج آخر على استقطابات كان للصين حصّة كبيرة فيها مقابل بقايا الأمن المرتبطة بالأميركيين، ومقابل طفرة اقتصادية برعاية صينية وملامح “شيعية”.
2- في ما يخصّ إيران، فإنَّ الظروف في أفغانستان لم تعد مؤاتية للأميركيين، بالنظر إلى الفسيفساء العرقية والمذهبية الأفغانية، انطلاقاً من عدة معطيات (البعد القومي الفارسي لجماعة سنية مثل الطاجيك، والبعد المذهبي الشيعي لجماعة مثل الهزارة). وكذلك دور مدن مثل هرات وغيرها في إعادة تدوير وشهادات المنشأ لبضائع إيرانية يجري تصديرها كبضائع أفغانية هرباً من الحصار الأطلسي على إيران (السجاد، الزعفران، الفستق…)، وذلك بخلاف ما تروجه وسائل إعلامية مشبوهة معروفة.
3- أما في ما يخصّ روسيا، فـ”طالبان” اليوم “طالبانات”؛ طالبان مثقلة بالإرث الأيديولوجي ضد الشيوعية، وبارتباطات مع الاستخبارات الأميركية والباكستانية والرجعية العربية، وتيار براغماتي يقيم منذ سنوات علاقات سرية وعلنية مع موسكو، ناهيك باستعادة روسيا لدورها كإمبراطورية برية – بحرية وقوة أوراسية.
وربما تتفاقم الأوضاع في بانشير بين “طالبان” وجماعة شاه مسعود وتحالف الشمال، الذي يقيم علاقات متعددة مع الفرنسيين والروس معاً.
_____
موفق محادين – كاتب ومحلل سياسي أردني