كل المعطيات التي تؤشر لوجود قرار إسرائيلي بتنفيذ اعتداء على ايران كانت مكتملة، بعد أن استطاعت “تل ابيب” تجميع رأي عام غربي واسع معها، مدّعية أن وحدات الحرس الثوري الايراني مسؤولة عن استهداف السفينة ميرسر ستريت المملوكة لاسرائيلي بطائرة مسيرة، والتي قتل اثنان من طاقمها (بريطاني وروماني).
من جهة أخرى، لم يظهر الأميركيون – حينها – معارضتهم للقرار الإسرائيلي، والذي بدا أنه يتجه نحو تنفيذ اعتداء ما على ايران، وتظاهروا بأنهم تركوا لـ”اسرائيل” الخيار بالقرار، دون ضغط ظاهر، بعد أن كانوا قد شكلوا في أكثر من فرصة ومناسبة حاجزًا، فرمَل الجنون الاسرائيلي ولجم جنوحهم الى المغامرات غير المحسوبة ضد ايران،
ليس محبة بالأخيرة طبعًا، بل كونهم يملكون أكثر من الاسرائيليين فكرة أوسع عن تداعيات أي اعتداء على ايران، ولديهم خبرة أكبر في الاحتكاكات المباشرة مع الأخيرة، واستهداف قاعدة عين الأسد خير نموذج على ذلك، ولكن بقيت التهديدات الاسرائيلية – حتى الآن – حبرًا على ورق، وبقي الصهاينة بعيدين عن اتخاذ القرار الفعلي والنهائي بتنفيذ الاعتداء.
طبعًا، لم يكن الأميركيون مقتنعين بقرار ترك “اسرائيل” تغامر وحدها ضد ايران، فهم كانوا فعليًا لن يتركوها وحيدة في تلك المواجهة حتى ولو حصلت بغير رضاهم، والأسباب في ذلك كثيرة، ليس أقلها عدم منح طهران فرصة تاريخية قد تكون حاسمة وفاصلة لمصلحة الأخيرة في إنهاء الصراع مع الكيان الصهيوني بشكل نهائي، ولكنهم راهنوا على بعض “التعقل” الاسرائيلي وأرادوا أن تقتنع “تل أبيب” وحدها بخطورة تلك المغامرة. وتأتي زيارة رئيس الـ”سي آي إيه”، وليام بيرنز، إلى “إسرائيل”،
وحسب “صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية لتؤكد ذلك، حين اعتبرتها ليست “زيارة مجاملات”، بل هي لتذكير “إسرائيل” بحدود المناورة وطلب ضبط النفس في الملف الإيراني، ولتضيف الصحيفة العبرية أنه: “حين أراد المسؤولون الإسرائيليون التحدّث مع مدير الـ “سي آي إي” عن إيران، تحدّث الأخير عن عدم التخلّي عن محاولة الاتفاق مع إيران، وأنه تحدّث كثيرًا عن الفلسطينيين”.
الأهم أيضًا في زيارة المسؤول الأمني الأميركي لـ”تل أبيب”، وحسب ما ذكرته وسائل إعلام إسرائيلية، أنّه في الموضوع الإيراني، فهم الإسرائيليون من رئيس الـ”سي آي إي” أنّ “الولايات المتحدة لم تتخلَّ عن محاولة الوصول لاتفاق” مع إيران، وأنّه “لا نية لديها للرد عسكرياً على الهجمات الإيرانية على السفن”.
فهل يقتنع الاسرائيليون بمضمون زيارة مدير الـ”سي آي إي”، ونشهد التزامًا منهم بالامتناع عن قرار الاعتداء على ايران؟ وما هي المعوقات الفعلية لذلك الاعتداء؟ وأساسًا، ما هي أشكال هذه الاعتداءات الممكن أن تنفذها “اسرائيل” لو قررت ذلك؟
لناحية العمل العسكري البري الاسرائيلي ضد ايران، مبدئيًا، هناك استحالة لتنفيذ عمل اسرائيلي بري ضد ايران حيث لا حدود برية مع فلسطين المحتلة، وحتى مع دول خليجية حليفة أو مطبعة مع الكيان الإسرائيلي، بالإضافة للكثير من المعوقات الأخرى، فيما لو تأمن للوحدات الإسرائيلية امكانية تنفيذ انزالات واسعة على السواحل الايرانية، كضخامة مساحة ايران وامتدادتها المترامية الاطراف،
أو بسبب توزع نقاط الارتكاز العسكرية الدفاعية الايرانية على كامل مساحة الجمهورية الاسلامية، والأهم من بين هذه المعوقات والصعوبات يبقى في المستوى المتميز للوحدات الخاصة الايرانية، والتي لن تكون إلاّ بمستوى وحدات حزب الله على أقل تقدير، والتي أذاقت وحدات النخبة الاسرائيلية الأمرَّين على مداخل بنت جبيل ومارون الراس وغيرها من نقاط الاشتباك المباشر في حرب تموز عام 2006.
لناحية تنفيذ اعتداء عبر عمل بحري وحده، أيضًا توجد استحالة في ذلك. وستدخل نفس أسباب استحالة وصعوبة العمل البري تقريبًا، يضاف اليها سيطرة وقدرة ايرانية بحرية واضحة في الخليج وخليج عمان وبحر العرب، تتمثل ليس فقط بالسفن والمدمرات والغواصات القريبة من المستوى العالمي، بل بما يؤمنه سلاح الردع البحري المتفوق عبر آلاف الزوارق الانتحارية الفتاكة.
لناحية امكانية العمل العدواني الجوي، والذي تتفوق فيه “اسرائيل” مبدئيًا نظرًا لما تمتلكه من قاذفات جيل خامس (اف 35) هي الأكثر تطورًا على مسرح الوحدات الجوية عالميًا، وحيث إنها سوف تنجح في استهداف الكثير من الأهداف الاستراتيجية الايرانية عبر تلك القاذفات وعلى مسافات بعيدة جدًا،
بالرغم من حتمية نجاح وحدات الدفاع الجوي الايراني المتطورة بمنع القاذفات الاسرائيلية من تحقيق نسبة كبيرة من أهدافها، فسيكون لهذا الاعتداء الجوي الكثير من التداعيات، ليس أقلها استهداف واسع وجنوني للعمق الاسرائيلي بآلاف الصورايخ الدقيقة وغير دقيقة، ومن عدة مصادر، مسافاتها تتوزع بين القريبة والمتوسطة والبعيدة من فلسطين المحتلة.
لناحية الاعتداء على ايران عبر عمل سيبراني أو عمل ارهابي أو مشترك بين الاثنين، يستهدف مروحة واسعة من المواقع والمراكز والمنشآت الاستراتيجية الايرانية، فهذا المجال موجود أساسًا، و”اسرائيل” لم تتوقف أبدًا عن شن مثل هذه الاعتداءات، حيث هناك مواجهة سيبرانية متبادلة بين الأخيرة وبين ايران، وهناك سلسلة من الأعمال الارهابية الصهيوينة ضد ايران لم تتوقف أبدًا.
لم يتبق إلّا الاعتداء غير التقليدي، النووي أو الجرثومي أو الكيميائي الواسع، وهذا النموذج من الاعتداءات لن يكون حينها آمنًا، لا لـ”اسرائيل” ولا لغيرها من حلفائها، القريبين والبعيدين، وسيكون عملًا جنونيًا لن يستطع أحدٌ ضبط تداعياته المدمرة على الجميع.
مع هذه المروحة الواسعة من أشكال الاعتداءات الاسرائيلية الممكنة على ايران، وأمام استحالة النجاح في أغلبها، مع التداعيات الخطيرة والكارثية لكل تلك الاعتداءات لو حصلت، سوف تبقى “اسرائيل” تدور في دائرة التهديد الفارغ ضد ايران، وسوف تبقى بعيدة عن امكانية التأثير الجدي أو الفعلي في تغيير أو تبديل موقف الجمهورية الاسلامية الايرانية قيد أنملة، لناحية الصراع التاريخي دائمًا أبدًا ضد الكيان المحتل والمغتصب للحقوق والمقدسات العربية والاسلامية.
__
شارل ابي نادر