باكراً، تعلَّم وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، فنون الجاسوسيّة، من مُلهمه، وليّ عهد أبو ظبي محمد بن زايد، الذي خَبِر، على مدى سنوات حُكمه، أصول المراقبة وفروعها. خبرةٌ تيقّن ابن سلمان مدى حاجته إلى الاستعانة بها لتعبيد طريقه الوعرة إلى العرش الذي شكَّل – ولا يزال – هاجسه الأوّل، وربّما الوحيد.
أراد الأمير السعودي الذي أحاط صورته، في السنتَين الأوليَيْن لصعود نجمه، بمظاهر برّاقة مِن مِثل الانفتاح والعبور توازياً إلى عصر ما بعد النفط، جذْب الغرب إلى التحوّلات الكبرى التي ستطرأ على يديه بفعل خطته الإصلاحية الرائدة «رؤية 2030».
وفي موازاة الرضى الذي أغدقته الولايات المتحدة عليه إبان حُكم الرئيس السابق دونالد ترامب، شكّلت إزاحة كل من يقف في درب صعوده، من مخالِفين ومعارِضين ونشطاء ومسؤولين وأقرباء، أولويّة حُكمه.
وفي صيف عام 2017، الذي شهد تعيين ابن سلمان وليّاً للعهد بعد إزاحة ابن عمّه محمد بن نايف، قامت السلطات بعدما عزلت كبار المسؤولين السابقين في الأمن والاستخبارات، وبهدوء، بإعادة تنظيم أجهزة النيابة العامة والأمن السعودية، لتضعها مباشرةً تحت إشراف الديوان الملكي. وشنّت بعدها، في أيلول من ذلك العام، حملة اعتقالات استهدفت عشرات المنتقدين الفاعلين والمحتملين لسياسات النظام السعودي، ومنهم رجال دين ومثقّفون وأكاديميون ونشطاء حقوقيون بارزون، وشملت «موجة التطهير» الثانية، في تشرين الثاني 2017، بعض كبار رجال الأعمال وأمراء آل سعود من المعارضين للحُكم السلماني، والذين انضمّت إليهم، في أيّار 2018، مدافعات سعوديات بارزات عن حقوق المرأة.
سلكت المملكة طريق الجاسوسيّة كسبيل لردع المخالِفين وتكميم الأفواه
لم يكتفِ وليّ العهد السعودي، المسكون بهاجس العرش، بحملة التطهير التي أطلقها تحت عنوان «مكافحة الفساد»، ولقيت، للمفارقة، رواجاً في الغرب الذي بدا معجباً بحزم الأمير «الإصلاحي». بل إن تلك الحملة جرّت وراءها أخرى، وقادت المملكة إلى سلوك طريق الجاسوسيّة كسبيل لردع المخالِفين وتكميم الأفواه، ولو بالقتل تقطيعاً إذا اضطرّ الأمر.
وفي نهاية عام 2016، أي بعد نحو عامين على بدء حُكم سلمان بن عبد العزيز، دخلت شركة «إن إس أو» الإسرائيلية في مفاوضات مع مسؤولين في الاستخبارات السعودية، لبيع نظام التجسُّس، «بيغاسوس»، إلى الرياض. وهي شراكة لم تكن لتحصل من دون حصول الشركة – وهي واحدة من مجموعة شركات تعاونت مع المملكة – على ضوء أخضر من وزارة الأمن الإسرائيلية التي أصدرت، وفق أكثر من تحقيق صحافي نُشر أخيراً في هذا السياق، تصاريح تصدير رسمية لشركات تعمل في مجال البرمجة و»الهاي تك»، لبيع برمجيّاتها الخاصة بالتجسُّس والقرصنة، إلى السلطات السعودية، وكل مَن يرغب في مراقبة مواطنيه.
استمرّت الشراكة الإسرائيلية – السعودية حتى بعد استخدام هذه الأخيرة برمجيات التجسّس لملاحقة المعارضين والناشطين الحقوقين، واغتيال خاشقجي. ويفيد تحقيق نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، السبت، أعدّه محلّل الشؤون الاستخبارية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» رونين بيرغمان، بمشاركة الصحافيَّين مارك مازيتي وبن هابرد، بأن «السبب الحقيقي وراء الصمت الرسمي الإسرائيلي على هذه النشاطات، هو أن ممثّلي الشركات الضالعة في أنشطة التجسُّس والقرصنة، ذهبوا إلى السعودية بتصريح خاص صادر عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي منحتهم موافقتها الكاملة»، بل و»شجعتهم» على العمل مع المملكة، مشترطةً أن تبقى المداولات في إطارٍ سرّي.
مع بداية عام 2017، باعت «إن إس أو» برنامج القرصنة الرئيس الذي طوّرته، «بيغاسوس»، للاستخبارات السعودية، ليتم استخدامه من قِبَل فريق سعود القحطاني، المستشار المُقال في الديوان الملكي، والذي اتُّهم، في نهاية عام 2018، بإصدار أوامر قتل خاشقجي، فيما كشفت المعلومات التي جمعتها الاستخبارات الأميركية أن القحطاني حافظ، خلال عام 2017، على اتصالات مكثّفة مع كبار مسؤولي الشركة الإسرائيلية.
الصمت الطويل الذي استغرقته تل أبيب للتعليق على جريمة اغتيال خاشقجي، كان شاهداً على «حرجها» حيال القضيّة التي وإن كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وصفها بـ»المروّعة» في بيان أصدره يوم الثاني من تشرين الثاني 2018، أي بعد شهر كامل من ارتكابها داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، إلّا أنه شدّد، في الوقت ذاته، على ضرورة التعامل معها بالشكل الصحيح: «من المهمّ للغاية أن تبقى السعودية مستقرّة، لأن إيران هي المشكلة الكبرى في المنطقة».
على هذا، تفيد التقارير المنشورة في الإعلام الغربي، بدخول الرياض وتل أبيب، منذ عام 2014، في اتصالات غير رسمية، توّجها ابن سلمان بلقاء جمعه إلى نتنياهو نهاية العام الماضي، من دون أن يُنتِج اتفاقاً رسمياً لتطبيع العلاقات على الطريقة الإماراتية.
تفرّعت ماكينة التجسّس السعودية لتغطي نشاطاتها أكبر مساحة ممكنة، وتطاول أكبر عدد من المخالفين الذين «يهدّدون» مستقبل العرش. ففي آب 2020، كشفت وكالة «بلومبرغ» عن ارتباط قضية التجسّس الضالع فيها موظفون في شركة «تويتر» (2015) لمصلحة السعودية، باعتقال معارضين سعوديين واختفاء آخرين، من مثل الناشط عبد الرحمن السدحان الذي اعتُقل على يد الشرطة السرية في الرياض في آذار 2018، علماً أنه عمل موظّفاً في الهلال الأحمر، فضلاً عن نشاطه «السرّي» على «تويتر».
كذلك، حدّدت وكالات حقوقية هوية ستة سعوديين كانوا يديرون حسابات مجهولة أو بأسماء مستعارة تنتقد الحكومة وتم اعتقالهم، بفضل عملاء المملكة في الشركة، وهم الموظفان أحمد أبو عمو، وهو لبناني يحمل الجنسية الأميركية، وعلي آل زباره، السعودي الجنسية، بالإضافة إلى أحمد المطيري، وهو اختصاصي تسويق سعودي له علاقات مع سلطات بلاده. وقبل ذلك، وتحديداً في آذار 2020، كشفت صحيفة «غارديان» البريطانية، عن استغلال المملكة ثغرة في شبكة الهواتف المحمولة الدولية، لتتبُّع مواطنيها المسافرين إلى الولايات المتحدة، ورصْد تحركاتهم والتجسّس عليهم. وذكرت أن أحد المبلّغين أطلعها على ملايين طلبات التتبُّع السرية المرسلة من السعودية، منذ تشرين الثاني 2019،
والتي هدفت إلى تحديد مواقع المواطنين السعوديين في أميركا، عبر رصد مواقع هواتفهم المحمولة المسجّلة في المملكة. وهي طلباتٌ جاءت من جانب «أكبر ثلاث شركات للهواتف المحمولة في السعودية: «سعودي تيليكوم»، و»موبايلي»، والتي أرسلت إلى مشغّل الهاتف المحمول الأميركي في المتوسط، 2.3 مليون طلب تتبُّع شهرياً في المدّة ما بين تشرين الثاني 2019 وآذار 2020.
الاخبار اللبنانية