قال مركز الجزيرة العربية للإعلام والذي يديره المعارض السعودي محمد العمري في تقرير له أن وفاة الزميلة الحقوقية الإماراتية آلاء الصديق في حادث سير بالعاصمة البريطانية لندن، وعدم كشف المسئولين البريطانيين حتى الآن عن تفاصيل الحادث وملابساته أكان جنائيا أم سياسيا سوى ما نقل عن أقارب المتوفاة أن الوفاة كانت نتيجة لحادث سير بالعاصمة البريطانية أثار العديد من التساؤلات عند الكثير من الناشطين الحقوقيين والمهتمين، خاصة وأن المتوفاة كانت ناشطة حقوقية من الطراز الأول، فبينما كانت تدافع عن والدها المعتقل في سجون الإمارات، كانت أيضا ترفع صوتها مدافعة عن عشرات ومئات المعتقلين في ذات السجون التي افتتحها أولاد زايد في الإمارات ليغيب فيها أصوات الحق، والمدافعين عن الكرامة والإنسانية الممتهنة في دولة الإمارات.
فآلاء الصديق من أبرز الناشطات الحقوقيات الإماراتيات، وهي ابنة أستاذ الشريعة وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين محمد عبد الرزاق الصديق المعتقل في السجون الإماراتية، وزوجها المعارض الإماراتي عبد الرحمن باجبير، أحد أبرز المطلوبين على قوائم السلطات الإماراتية.
وأضاف المركز الحقوقي الإعلامي في تقريره أن آلاء الصديق لم تكن وحدها التي قضت نحبها في هكذا حادث، فكثير من الإماراتيين المعارضين خارج الإمارات من أسرة آل نهيان ومن أسرة القاسمي قضوا نحبهم أيضا في ظروف غامضة، وهو ما يجعلنا نميل إلى القول بإن الحادثة مقصودة وأنها لا تعدوا أن تكون “اغتيال سياسي” وليست حادثة عرضية.
ولكن دعونا لا نسبق الأحداث، فبالتأكيد ستكشف التحقيقات ملابسات الحادثة، وسيعلن قريبا عن الأسباب والدوافع، خاصة وأن الشرطة البريطانية موثوق بقدراتها-بحسب التقرير-إلى حد كبير والتحقيقات جارية ولم تنته.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا دائما ما تفضل المعارَضات بريطانيا؟
في الماضي كانت بريطانيا ملجأ وحصنا آمنا للمعارضين لسياسات بلدانهم، بل حتى عندما كانت بريطانيا نفسها مستعِمرة للهند لم يجد المعارض الكبير “غاندي” موانع من التردد على بريطانيا، والنضال ضد المستعمرين من هناك.
سبب آخر ربما يعود ذلك لنظامها القضائي الصارم، أو لأنها لا تضع قيوداً على المعارضين، بخلاف بعض الدول التي تقيد سكنهم وتستجوبهم، بالإضافة إلى أن عالمية اللغة الإنجليزية كان لها دور بارز في اختيار المعارضين لبريطانيا دونا عن بقية الدول التي تتكلم بلغات قليلة التداول.
ولعل المنفعة الحقيقية التي تجنيها السلطات البريطانية من تواجد المعارضين في بلادهم هي منفعة سياسية، إذ قد تلجأ السلطات البريطانية لممارسة الضغوطات على أنظمة الدول التي لها معارضة في بريطانيا للتوقيع معها على مصالح كبيرة وتوقيع صفقات كبيرة تستفيد منها الدولة البريطانية.
غير أن حادثة “آلاء الصدّيق” أعادت إلى الأذهان صفحات دامية من تاريخ الاغتيالات السياسية التي شهدتها شوارع وأحياء العاصمة البريطانية، والتي وُجّهت فيها الاتهامات لأجهزة استخبارات من جميع أنحاء العالم. ومن أشهر الشخصيات والأسماء التي لقيت حتفها اغتيالا في لندن، رجل الأعمال المصري “أشرف مروان” 2007، الذي وجدت الشرطة جثته ملقاة تحت شرفة منزله في منطقة سانت جيمس بارك وسط العاصمة البريطانية لندن، والممثلة المصرية “سعاد حسني” 2001، والذي وجدت الشرطة البريطانية جثتها ملقاة في الشارع الخلفي لمبنى “ستيوارت تاور” في منطقة ميدافيل، غربي لندن. وعلى الرغم من أنه لم يتم حتى الآن الكشف أو التوصّل إلى الأسباب الحقيقية لوفاة “حسني”، إلا أن هذه القضية صاحبها جدل وأحاديث تقول إنها كانت على وشك كتابة مذكراتها، وأنها تنوي كشف الكثير من الأسرار، حيث كانت على علاقات وثيقة برجال كثر في النظام المصري.
وما أكثر جرائم الاغتيالات التي نفذت في بريطانيا، ووُجّهت الاتهامات فيها إلى أجهزة استخبارات العقيد الليبي الراحل معمر القذافي. ففي عام 1995، اغتيل المعارض الليبي علي محمد أبو زيد، في دكانه وسط لندن. كما وُجّهت لأجهزة الاستخبارات الليبية اتهامات باغتيال عدة معارضين منهم المعارض محمد مصطفى رمضان، والمعارض محمود عبد السلام نافع في لندن (1980) ، فقد كانت الاغتيالات التي نفذتها المخابرات الليبية في بريطانيا تفوق في عددها وخطورتها نشاطات أي دولة عربية أخرى.
أما فلسطينيا فإن الذاكرة الفلسطينية والعربية لازالت تتذكر اسم رسام الكاريكاتير الفلسطيني “ناجي العلي”، والذي اغتيل وهو يسير في أحد شوارع لندن، على يد مجهول أطلق عليه النار فأصابه في عينه اليمنى، وظل في غيبوبة حتى وافته المنية في أغسطس من العام 1987. ولم تعرف على وجه الدقة حتى الآن الجهة التي خططت لاغتياله، وإن وُجّهت أصابع الاتهام لـ”الموساد”، بسبب معارضته المستمرة للاحتلال الإسرائيلي، فيما اتهم آخرون أنظمة عربية أخرى بالوقوف وراء مقتله.
في عام 2004 ومع تنامي نفوذ رئيس الوزراء توني بلير، حاولت بريطانيا عقد صفقة أسلحة تاريخية مع السعودية قيمتها سبعون مليار دولار. وتضمنت بنودها إعادة تجهيز القوات السعودية بمقاتلات تايفون الأوروبية التي صنعت القسم الأكبر منها شركة صناعة الطائرات البريطانية “بي إي إي”. لكن السلطات السعودية اشترطت على الحكومة البريطانية ثلاثة شروط لإتمامها، أولها وأهمها تسليم اثنين من أبرز المعارضين لديها “الدكتور محمد المسعري والدكتور سعد الفقيه”.
محاولات السلطات السعودية لإسكات معارضيها داخل بريطانيا لم تتوقف عند المخاطبات الرسمية مع الحكومات البريطانية، وربط مصير صفقات السلاح بتسليم المعارضين. لكن الأمر امتد لعدد من محاولات الاغتيال والتجسس والاعتداءات، واستهداف المعارضين السعوديين المقيمين في بريطانيا.
ففي عام 2003 طرق باب الدكتور الفقيه في لندن اثنان من العمال، قالا إنهما يعملان سباكين لإصلاح التمديدات داخل المنزل. وبمجرد دخولهما قام أحدهما برش مادة مخدرة على وجه الفقيه الذي حاول الدفاع عن نفسه فتعرض لعدة طعنات من الشخص الآخر. نقل الفقيه إثر ذلك إلى مستشفى في العاصمة لندن. وفي شهادته أمام الشرطة اتهم السلطات السعودية بإرسال هذين العاملين لقتله أو اختطافه في محاولة منها لإسكاته بعد أن أطلق قناته الفضائية قبلها بفترة ليست ببعيدة.
كذلك التجسس على المعارضين السعوديين في بريطانيا إحدى الطرق التي تنتهجها السلطات السعودية تجاه معارضيها. ففي عام 2004 صدم الرأي العام البريطاني بفضيحة تورط بها ضابط شرطة من أصل يمني يدعى غازي قاسم. فقد ضبط متلبسا بعدة محاولات تجسس على مواطنين من الشرق الأوسط مقيمين كان أبرزهم الدكتور المسعري.
بدأت القصة عندما ذهب الضابط -الذي يعمل بمنطقة فولهام- إلى منزل المسعري وبدأ يسأله عن بعض المعلومات الشخصية. بعد فترة من المراقبة داهمت الشرطة مكتبه وعثرت على صور شخصية للمسعري، وأرقام لوحات سيارته وسيارة زوجته، وصور التقطها الضابط لمنزله وأدوات للتجسس على أجهزة الحاسوب الخاصة به. وبمواجهته بهذه الأدلة اعترف الضابط البريطاني بتفاصيل المؤامرة التي وصلت خيوطها إلى أحد المكاتب داخل سفارة السعودية حيث يعمل الدبلوماسي السعودي د. علي الشمراني الذي قدم رشوة لقاسم بمبلغ 14 ألف جنيه إسترليني من أجل التجسس على المسعري. تم فصل الضابط من عمله في جهاز الشرطة وسجن. وطالبت الحكومة البريطانية من السعودية إبعاد الشمراني خارج البلاد وهو ما تم بالفعل.
وأخيرا، نحن لا نشك قط أن السلطات البريطانية غير راضية على ما يجري من اغتيالات في أرضها للمعارضين السياسيين، ولا يوجد دولة ترضى أن تكون بلادها بؤرة للاغتيالات ناهيك عن بريطانيا الدولة العظمى في التاريخ، لكننا نؤكد أن الدول القمعية في منطقتنا لا تتورع عن أن تنفذ جرائمها في أي مكان أو زمان، فالطغاة دائما ما يتألمون من الصوت العالي الصادق، الذي يكشف جرائمهم، أو يفضح استعبادهم لشعوبهم. فيسارعون لقمع ذلك الصوت، والتخلص منه، وبأي ثمن كان، خاصة أن ذلك الثمن إنما يقدمونه من أقوات الشعوب المسكينة.
وهنا نوجه صرخة لكل المعارضين الصادقين مع الله ومع الأوطان، نقول لهم إن أصواتكم وصلت لأسماع الطغاة، فأقلقتهم، وأزعجتهم، وباتوا يعملون لها ألف حساب. لكن مع ذلك فالحذر واجب، والحيطة واجبة، وسيأتي اليوم الذي تتنفسون فيه الصعداء، وتزول فيه الغمة، وينقشع فيه غبار الطغاة والمجرمين، وسيرجع الأمر إلى نصابه، ويرجع الجميع إلى أوطانهم أحرارا أعزاء.