في خطوة مثيرة للسخرية كونها صادرة عن دولة يديرها رأس الفساد فيها, تبنت منظمة الأمم المتحدة، الخميس، مشروعاً عالمياً أعدته السعودية لمكافحة الفساد الذي ينتشر في جميع دول العالم، وتكافح الحكومات للحد منه، بهدف توفير أموال طائلة لا تتم الاستفادة منها في الغرض الذي خُصصت له.
ويحمل المشروع اسم “الشبكة العالمية لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد” (GlobE)، وأعدته السعودية إبان رئاستها لمجموعة العشرين، العام الماضي، ونال رضا تلك الدول حينها قبل أن تتبناه الأمم المتحدة.
الشبكة الجديدة ستعمل على إنشاء شبكة عمليات عالمية لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد، وإنشاء منصة عالمية لتسهيل تبادل المعلومات بين تلك السلطات، وإطلاق برنامج لبناء القدرات داخل الشبكة لتلك السلطات أيضًا، خاصةً في الدول النامية.
وتهدف مبادرة الرياض أيضا إلى تعزيز التعاون الدولي المشترك في مجال إنفاذ القانون بين الجهات المختصة في مجال مكافحة الفساد، وتطوير أداة سريعة وفعالة لمكافحة جرائم الفساد العابرة للحدود.
وقالت الأمم المتحدة في بيان، إن “مبادرة الرياض” تؤسس لمنصة عالمية تربط بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم، وإن هذه الشبكة العالمية ستوفر أموالًا مهمة لمواجهة تداعيات جائحة كورونا.
واعتبرت الأمم المتحدة أن نجاح شبكة مكافحة الفساد العالمية يعتمد على الحوار بين الشركاء والتي يجب أن تعمل أيضًا على مكافحة الإرهاب عبر الحدود.
بدوره، كعم عضو مجلس الشورى السعودي، “هادي اليامي”، في تصريحات تليفزيونية، إن مبادرة بلاده العالمية في مجال مكافحة الفساد، هي امتداد لجهود داخلية في المملكة، متوقعًا تحقيق نتائج إيجابية في مكافحة الفساد إذا التزمت الدول بالمبادرة.
وحضر مسؤولون سعوديون كبار، تدشين مبادرة الرياض في مقر الأمم المتحدة في فيينا.
وأنشأت السعودية هيئة مكافحة الفساد عام 2011، ومنحتها صلاحيات كشف الفساد في كل المؤسسات الحكومية، قبل أن تنال دعما رسميا بارزا في السنوات القليلة، بعد احتجاز الرياض العشرات من رجال الأعمال والأمراء في فندق “ريتز كارلتون” بالرياض، في حملة قالت إنها تهدف لمكافحة الفساد عام 2017.
وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان”، في تصريحات نقلتها “واس”، إن مجموع التسويات التي تحصل عليها جراء حملاته التي أعلن عنها لمكافحة الفساد في السعودية بلغت 247 مليار ريال (65.8 مليار دولار)، بما يوازي 20% من الإيرادات غير النفطية للمملكة.
وقاد “ابن سلمان” حملة قال إنها لمكافحة الفساد، قبض خلالها على أمراء ووزراء ورجال أعمال وسياسة ومستثمرين، وتحفظ عليهم داخل فندق “ريتز كارلتون” بالرياض، ولم يطلق سراح إلا من وافق على التنازل عن جزء من ثروته للحكومة، في حملة اعتبرها حقوقيون ومسؤولون حول العالم وسيلة عنيفة لتثبيت أقدامه ونفوذه في المملكة وسط العديد من خصومه.
ولكن اللافت في حملة الريتز كارلتون المزعومة عن الفساد انها استثنت بندر بن سلطان صاحب فضيحة صفقة اليمامة.. وليس هذا فحسب بل كوفيء بندر بن سلطان بأن اصبحت ابنته ريم سفيرة السعودية في واشنطن وابنه سفيراً للسعودية في لندن.
فضيحة صفقة اليمامة
“صفقة اليمامة” هي سلسلة من مبيعات الأسلحة من بريطانيا إلى السعودية بدأت عام 1985، تلقت مقابلها لندن ما يصل إلى ستمئة ألف برميل من النفط السعودي الخام يوميا. وتوصف الصفقة بأنها الأضخم في بريطانيا والأكثر ارتباطا بالفساد الذي تورط فيه أمراء سعوديون.
وأبرمت السعودية وشركة “بي أيه إي سيستمز” البريطانية لصناعة الأسلحة في سبتمبر/أيلول 1985″صفقة اليمامة” التي تجاوزت قيمتها 43 مليار جنيه إسترليني (حوالي 56 مليار دولار أميركي). وتمت الصفقة بدعم من رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر.
ووقع وزير الدفاع البريطاني الأسبق مايكل هيزلتاين ونظيره السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز المرحلة الأولى من صفقة اليمامة التي نصت على تزويد السعودية بـ 102 طائرة حربية (72 من طراز تورنيدو وثلاثين من طراز هوك) بالإضافة إلى مجموعة كاملة من الأسلحة وأجهزة الرادار وقطع الغيار، وبرنامج تدريب للطيارين.
وبدأت شحنات طائرات “بي أيه إي سيستمز” إلى السعودية عام 1989.
سرية وفساد
وأحيطت الصفقة بسرية تامة بطلب من العائلة الحاكمة بالسعودية، وحاولت حكومة تاتشر إخفاء كل التفاصيل المهمة عن الصفقة لسنوات، لكن وثائق رسمية نشرت عام 2016 في بريطانيا كشفت أن تاتشر أجرت محادثات سرية مع حُكّام السعودية عام 1985 بشأن أكبر صفقة أسلحة، والتقت الملك آنذاك فهد بن عبد العزيز قبل خمسة أشهر من إبرام الصفقة.
وأظهرت الوثائق الجهود الحثيثة التي كانت تبذلها حكومة تاتشر لبيع طائرات تورنيدو ومن طرازات أخرى للسعودية.
الإعلام البريطاني من جهته تمكن من رفع السرية عن تلك الصفقة، من خلال التقارير التي أوردتها تباعا وكشفت فيها حجم الفساد الذي شاب الصفقة والمتعلق بعمولات لأفراد بالأسرة الحاكمة السعودية.
فقد نشرت صحيفة إندبندنت في مايو/أيار 2004 مقالا أوردت فيه أن الصفقة تمت بمساعدة حساب مصرفي سري كان بمثابة القناة التي تم عبرها دفع رشى، وأن وزارة الدفاع فتحت تحقيقا في دفع “بي أيه إي سيستمز” لأكثر من ستين مليون جنيه خلال تنفيذ الصفقة.
واعترفت الشركة البريطانية بأنها قدمت “خدمات مساعدة” لمسؤولين سعوديين معتبرة أن ذلك ليس منافيا للقانون، وذلك في رسالة مؤرخة في نوفمبر/تشرين الثاني 2005 وجهتها إلى مكتب مكافحة الفساد الذي كان يحقق حينها في احتمال تلقي رشى في صفقة اليمامة.
وجاء التحقيق الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) يوم 7 يوليو/تموز 2007 ليكشف المزيد من الأسرار المخفية، حيث أكد أن السفير السعودي السابق في الولايات المتحدة الأميركية الأمير بندر بن سلطان -والذي لعب دور المفاوض عن الرياض في صفقة اليمامة- كان قد تلقى أكثر من ملياري دولار على مدى عقد من الزمن كعمولات مقابل دوره في إبرام الصفقة المذكورة.
وأشار التحقيق إلى أن وزارة الدفاع البريطانية وافقت على المدفوعات السرية.
كما نشرت صحيفة الجارديان يوم 18 يناير/كانون الثاني 2008 تحقيقا عن وجود أدلة على طلب أفراد من الأسرة المالكة بالسعودية عمولات مالية مقابل دورهم في إبرام صفقات سلاح بين الرياض ولندن.
ويقول المعلق بالصحيفة سايمون جينكينز إن الصفقة كانت منذ بدايتها محاطة بالفساد، حيث إن الوسطاء كانوا يطلبون في كل مرحلة من مراحلها إيداع عمولات في حسابات سويسرية وشقق وغيرها، مشيرا إلى أن كل شيء دخل هذه الصفقة، وذلك كما ورد في حديث الصحفي بالشريط الوثائقي الذي يحمل عنوان “سوداء اليمامة” وبثته قناة الجزيرة في أغسطس/آب 2012.
وتحدث أيضا المالك السابق لشركة ” ترافرلز وورد” بيتر غاردينز بشريط وثائق “سوداء اليمامة” عن الخدمات التي كانت تقدمها شركة “بي أيه إي سيستمز” للمسؤولين والأمراء السعوديين، قائلا إنها شملت حجوزات طيران وفنادق ورعاية طبية وغيرها.
ومن بين الخبايا التي كشفها غاردينز أن الشركة البريطانية دفعت فاتورة شهر عسل طويلة لابن الأمير تركي بن ناصر، وسيارة رولز رويس الفخمة قدمها هدية لابنته نورة.
وبشأن المستفيدين من صفقة اليمامة، يؤكد رئيس قسم التحقيقات في غارديان أن الأمير سلطان وابنه بندر كان لهما النصيب الأكبر، بالإضافة إلى الأمير تركي بن ناصر زوج ابنة الأمير سلطان الذي كانت له أيضا صلة وثيقة بالصفقة.
ونفى الأمير بندر بن سلطان عام 2007 اتهامات صحفية بريطانية بتقاضيه رشى بلغت أكثر من مليار إسترليني، أي ما يعادل ملياري دولار في إطار صفقة اليمامة للأسلحة.
وقف التحقيق
وبعد اتهام شركة الأسلحة البريطانية بدفع رشي لمسؤولين سعوديين لضمان حصولها على عقود من الرياض، قام مكتب مكافحة التزوير البريطاني بفتح تحقيق في صفقة اليمامة في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، لكن الحكومة البريطانية التي كان يقودها حينها توني بلير قررت وقف تحقيق صفقة اليمامة.
وأغلق النائب العام البريطاني السابق اللورد غولدسميث التحقيق في ديسمبر/كانون الأول 2006 لأسباب تتعلق بحماية الأمن القومي بعد تهديد السعودية بوقف تعاونها الأمني مع لندن في مجال مكافحة الإرهاب.
ووفق صحف بريطانية، فإن العائلة الملكية السعودية هددت عام 2007 بإلغاء الجزء النهائي من عقد اليمامة لشراء 72 مقاتلة من طراز تايفون بمئات الملايين من الجنيهات ما لم توقف الحكومة البريطانية تحقيق الفساد.
غير أن قرار حكومة بلير جلب له انتقادات واسعة داخل بريطانيا وخارجها، بينما قضت المحكمة العليا في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 بأن مكتب مكافحة التزوير خرق القانون بقراره وقف التحقيق بقضية الفساد المتعلقة بصفقة الأسلحة السعودية، وأمرت بفتح تحقيق قضائي شامل في قرار الحكومة وقف التحقيق في صفقة اليمامة.
واعتبرت واشنطن حينها أن القرار البريطاني وضع حكومة بلير أمام تهمة خرق لكل من روح ومبادئ ميثاق منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، كما رفعت عدد من الدول شكوى بهذا الصدد إلى اجتماع لمجموعة مكافحة الرشى التابعة لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي.
وعادت قضية صفقة “اليمامة” إلى الواجهة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بعد أن قالت عضو البرلمان البريطاني عن حزب العمال آن كلويد إنها ستقدم طلبا للجنة العلاقات الخارجية لإعادة فتح التحقيق في قضايا الفساد المرتبطة بالصفقة.
وأشارت كلويد إلى أن إعادة فتح التحقيق في صفقة اليمامة سيكون مناسبا في سياق الاعتقالات الأخيرة بالسعودية على خلفية قضايا فساد، في إشارة إلى الحملة التي شنتها اللجنة العليا لمكافحة الفساد التي شكلها الملك سلمان بن عبد العزيز برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان وطالت عددا من الشخصيات البارزة، بينهم عدد من الأمراء والوزراء الحاليين والسابقين والمسؤولين ورجال الأعمال.
فساد ابن سلمان
مع تكرار الإعلانات السعودية عن مكافحة الفساد من خلال تنفيذ حملات اعتقال؛ تارة بحق أمراء ومسؤولين، أو بحق موظفين وقادة كبار في أكثر من جهة وهيئة بذريعة تبديد الأموال تارة أخرى؛ يتساءل مراقبون عن جدية هذه الادعاءات بعد صدور تقارير غربية عن تبذير وبذخ غير مسبوق يقوم به ولي العهد محمد بن سلمان.
هذه الاعتقالات لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة على ما يبدو؛ ففي عام 2017 شنت السلطات حملة اعتقالات طالت أمراء ورجال أعمال بارزين ووزراء سابقين، وقالت الرياض حينذاك إن هذه التوقيفات تأتي في إطار حملة لمحاربة الفساد.
وبعد أسابيع، قالت وكالة بلومبيرج الأميركية -نقلا عن مصادر مطلعة- إن الموقوفين في فندق ريتز كارلتون بالرياض بدأوا دفع مبالغ التسوية التي طُلب منهم سدادها مقابل إطلاق سراحهم.
وأشار مسؤول سعودي بارز إلى أنه في حال وافق المعتقلون على دفع مبالغ تسوية فإنهم يجرون مباحثات مع لجنة خاصة للتطرق إلى تفاصيل التسوية المالية، مضيفا أن قيمة التسوية تحدد بناء على المبالغ التي ترى الرياض أن المعتقلين حصلوا عليها بطريقة غير قانونية، وليس بناء على حجم ثرواتهم، كما رجح مصدر مسؤول أن تتراوح قيمة المبالغ المستردة بين 50 و100 مليار دولار.
وتعيش المملكة أوضاعا اقتصادية ومالية صعبة جراء انخفاض أسعار النفط إلى مستويات متدنية، بالتزامن مع تداعيات أزمة جائحة كورونا، التي أدت إلى تباطؤ حاد في نمو الأعمال، ناهيك عن اضطرار الرياض لتحجيم زيارات العمرة وموسم الحج، وهو ما أفقد الميزانية إيرادات ضخمة؛ أجبرت البلاد على اللجوء إلى إصدار سندات من أجل تغطية النفقات وسد العجز الهائل.
غير أن كل أحاديث السلطات السعودية عن مكافحة الفساد والشفافية لا تجد طريقها إلى التصديق، في ظل ما كشفته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية قبل أيام من أن ولي العهد أنفق 50 مليون دولار على حفل خاص بمناسبة توليه ولاية العهد.
وتحدثت الصحيفة عن الواقعة التي شهدها منتجع “فيلا برايفت أيلاند” الفاخر في المالديف، مشيرة إلى رسو قوارب تقل 150 امرأة من البرازيل وروسيا ودول أخرى، حيث نُقلت كل واحدة منهن إلى عيادة لفحص الأمراض المنقولة جنسيا، قبل أن تستقر كل واحدة منهن في فيلا خاصة بها.
وذكرت الصحيفة في تقرير نشرته الخميس الماضي أنه كان من المقرر أن تقضي النساء الجزء الأكبر من الشهر مع مضيفيهن، وهم العشرات من أصدقاء الأمير الشاب، ومُنع الموظفون من إحضار أجهزة نقالة مزودة بكاميرات، وقدم مغني الراب الأميركي بيتبول والنجم الكوري الجنوبي ساي عرضا هناك.
وفي وقت سابق، كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن أن محمد بن سلمان اشترى عام 2015 -أي حينما تولي والده سلمان العرش- أغلى منزل في العالم، وهو عبارة عن قصر الملك لويس الرابع عشر، الواقع في لوفسيان قرب باريس، بقيمة 300 مليون دولار.
وذكرت الصحيفة أن مساحة القصر تبلغ أكثر من 23 ألف هكتار، وتحيط به طبيعة خلابة، وتتوسطه نافورة مطلية بالذهب.
ولم يقتصر بذخ ولي العهد على الحفلات الماجنة والمنازل الفارهة، حيث كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن أن محمد بن سلمان اشترى لوحة “المخلّص” للفنان الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي مقابل 450 مليون دولار أواخر 2017.
وكشفت الصحافة الغربية أيضا عن أن بن سلمان اشترى يختا بقيمة 550 مليون دولار عام 2016 خلال إجازة قصيرة في جنوب فرنسا، حيث يصل طول اليخت إلى 440 قدما، ويضم أحواض سباحة و12 غرفة فاخرة ومنصتين لهبوط طائرات مروحية.
وبذلك يكون الأمير الشاب قد اشترى منزلا ويختا ولوحة بقيمة 1.3 مليار دولار، بينما تنتهج بلاده سياسة تقشفية قادتها إلى مضاعفة ضريبة القيمة من 5 إلى 15% دفعة واحدة، في ظل أزمات اقتصادية بفعل حروب النفط الخاسرة التي يخوضها ولي العهد السعودي.
كما قامت السلطات السعودية في وقت سابق بوقف بدل غلاء المعيشة الذي تصرفه الحكومة شهريا لمواطنيها المستفيدين من معاشات التقاعد والضمان الاجتماعي.
ويرى مراقبون أن دأب الأجهزة السعودية في التركيز على الإعلان عن حملات مكافحة الفساد لا يعدو كونه مجرد محاولات لصرف النظر عن سوء الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها المملكة بسبب بذخ محمد بن سلمان وسياساته المالية “غير الحصيفة”.