في وقت يتواصل فيه الشدّ والجذب في الماراتون التفاوضي الدائر بين العواصم المعنيّة بالملفّ الفلسطيني، يعكف كلّ من العدو الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية على تقييم نتائج «معركة القدس» والبناء عليها، على اختلاف المحقَّق بين الطرفين، من هزيمة للأوّل ونصر للثاني.
من جهة إسرائيل، ثمّة قناعة بضرورة تعديل جدول الأولويات الذي كانت غزّة دائماً في أسفله، بعدما لمس الاحتلال نيّة لدى المقاومة والمحور الداعم لها في التأسيس على ما أفرزته المعركة من أجل تعظيم حالة الربط بين ساحات المحور وجبهاته. على خطّ موازِ، تتعمّق الانقسامات داخل محور التطبيع بقديمه وجديده، وآخر مظاهرها حرد الإمارات من تطنيش مصر لها في الملفّ الفلسطيني، الذي تجد أبو ظبي أن كلّ ما حاولت زرعه فيه عن طريق «اتفاق أبراهام» يضيع هباءً منثوراً
لعلّ واحدة من أهمّ نتائج معركة «سيف القدس»، بين العدو الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، أنها رفعت مستوى تهديد غزة في سلّم التهديدات التي تواجه الأمن الإسرائيلي، بما لم يَعُد معه دقيقاً توصيف القطاع بالتوصيف التقليدي: الأقلّ تهديداً والأكثر قابلية للانفجار. ومن شأن تغيير التوصيف، تبعاً لمحدّدات الواقع ونتائج المواجهة، أن يفرض على إسرائيل مواجهة واقعٍ من نوع آخر مع غزة، التي لم يَعُد تهديدها متعلّقاً بها فحسب،
بل بات ممتدّاً ومتّصلاً بخارجها، بما يتعدّى مناطق فلسطين وقضاياها على اختلاف تقسيماتها ومسمّياتها. المعنى العملي لذلك، من ناحية إسرائيل وأمنها واستراتيجياتها في مواجهة التهديدات، أن احتواء تهديد غزة عبر فرض أو قبول الهدوء معها، وإن في ظلّ خطورة تفجير دائمة (مقدور عليها)، مع رفع مستوى الردع إلى حدود تمنع القطاع من المبادرة العسكرية، لم يَعُد استراتيجية ناجعة ومقبولة، بل أضحى مرفوضاً، علماً بأن سبب الاحتواء، في أساسه، مرتبط بساحات التهديد الأخرى، التي لا مجال للمقارنة بينها وبين غزة.
حتى الأمس، كانت غزة، بالمعنى المشار إليه، «مقدوراً عليها». كان يمكن ربط هدوئها بحوافز تمنع تفعيل تهديدها، بعدما اعتقدت إسرائيل طويلاً أنها نجحت في ريط التهديد الغزّي بتنازلات متبادلة: تهدئة مقابل تليين جزئي للحصار وتقديمات اقتصادية ومالية، جنّدت لها دولاً عربية ترى في امتثالها للإرادة الإسرائيلية موضع رضى السيد الأميركي. لكن اليوم تغيّرت المعادلة؛ بات سلاح غزة وإمكان تفعيله متّصلَين بالقدس وقضاياها. وهي معادلة لم تترسّخ بعد، ولأنها لم تترسّخ، ستستهلك من إسرائيل جزءاً كبيراً من انشغالها الأمني والعسكري والسياسي، للحؤول دونها.
كذلك، مطلب إرجاع غزة إلى حدودها، يتعلّق من ناحية إسرائيل باتجاهَين رئيسيَن اثنين: منع تفعيل سلاح غزة ربطاً بغيرها هو هدف في ذاته، إن لم يتحقّق سيؤثّر سلباً على مجمل التموضع الإسرائيلي في داخل فلسطين المحتلة، ويُعقّد من استراتيجيات الكيان المُفعَّلة ضدّ الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، التي تراءى له، وإن بشكل مغلوط، أنها في المرحلة الأخيرة من إسقاطها.
من بين الأهداف الإسرائيلية إعادة الاعتبار إلى معادلة الحصار مقابل الغذاء، كما كانت عليه الأمور قبل المواجهة
أمّا الاتجاه الثاني فيرتبط بتهديدات الساحات الأخرى. والمقصود هنا تحديداً الجبهة الشمالية بمركّباتها المتعدّدة، واتّساعها الجغرافي الممتدّ، وإمكاناتها التي تتطلّب من إسرائيل تركيزاً لا تُشوّش عليه الساحة الجنوبية، أي قطاع غزة، بل أيّ قسم من أقسام فلسطين التاريخية. على أن غزة تتّجه اليوم لتكون جزءاً لا يتجزّأ من الساحة الشمالية، بما ينفي عنها وصف الساحة المعزولة التي ينحصر تهديدها في نطاقها.
وفي هذا الإطار، يُعدّ حديث مسؤول حركة «حماس» في القطاع، يحيى السنوار، عن التنسيق على أعلى المستويات مع «حزب الله» خلال المواجهة، كما الحديث الذي سبقه، وهو الأهمّ من ناحية إسرائيل، لأمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، عن الجاهزية للتدخّل إن لزم الأمر لمساعدة الساحة الفلسطينية، مصدر قلق لتل أبيب ومُتّخذي القرارات فيها.
بناءً على ما تقدّم، ستكون إسرائيل، ومعها حليفها الأميركي، والجهات الإقليمية التي تدور في فلكهما، معنيِّين بتحقيق جملة أهداف، على رأسها ما يلي:
– إرجاع غزة إلى حدودها، ومنع ربط سلاحها وإرادة تفعيله بقضايا القدس والحرم القدسي، فضلاً عن أقسام فلسطين الأخرى.
– منع الربط بين قواعد الاشتباك التي تحكم صراع غزة وإسرائيل، وبين أيّ ساحة أو جبهة في الشمال، بما يشمل ردع غزة عن التدخّل، أو الاستعداد للتدخّل، إلى جانب الساحة الشمالية، ربطاً بتموضع القطاع الذي بات إقليمياً، وأيضاً ردع الساحة الشمالية نفسها عن مساندة غزة، إن تطلّب الأمر ذلك.
– إعادة الاعتبار إلى معادلة الحصار مقابل الغذاء، كما كانت عليه الأمور قبل المواجهة، وإغراء القطاع بعطاءات مالية، سيجد العدو دائماً أطرافاً إقليميين يسارعون إلى تلبيتها، ومن جملة ذلك إعادة الإعمار.
– إعادة الاعتبار إلى السلطة الفلسطينية، وإن كانت إسرائيل نفسها، ومَن معها، تسبّبوا في إضعاف مكانتها ودورها لدى الجمهور الفلسطيني. وفي هذا الإطار، تأتي العطاءات المالية الممنوحة للسلطة، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس المحتلة كمُمثّلية أميركية لدى الجانب الفلسطيني، وكذلك المبادرات واللقاءات والاتصالات من جانب دول «الاعتدال العربي» بعد قطيعة مع رام الله.
فيما لا يُستبعد إحياء شكل من أشكال التفاوض مع العدو، أملاً في إعادة السلطة إلى مكان متقدّم نوعاً ما على جدول اهتمام الفلسطينيين. لكن الواقع أن السلطة اليوم باتت تُعدّ لدى الفلسطينيين «شاهد ما شفش حاجة»، في مرحلة هي الأكثر حساسية وتأثيراً على فلسطين والقضية الفلسطينية والقدس، وهو ما يُصعّب مهمّة العدو.
تلك هي الأهداف الإسرائيلية في المرحلة التالية إذاً، لكن الفرق بين تشخيص المصالح التي يُفترض العمل عليها وبين النتائج التي يمكن تحقيقها بالفعل، فرق كبير، وهو ما قد ينطبق على حالة تل أبيب. مع ذلك، لن يدفع الفشل إسرائيل إلى الانكفاء والتسليم بالواقع الجديد، بل هي ستلجأ إلى خيارات أخرى وبديلة، وربّما أيضاً مع استعداد لتحمّل أثمانها إن ارتفعت نسبياً.
على أن الإصرار الإسرائيلي، والدافعية المرتفعة لدى العدو، تقابلهما إرادة صلبة لدى الجانب الفلسطيني الغزّي أيضاً. فالمارد الذي خرج من القمقم لن يكون معنيّاً بالعودة إليه، كما تَصعُب على غيره، مهما بلغت مستويات دافعيّته، إعادته إليه. وللصراع، الذي ثبت أنه لا يخمد، جولات آتية.