في يوم 14 أيار / مايو 1948م، كان صخب إعلان المجرم اليهودي «بن غوريون» إقامة «إسرائيل» كموطن يهودي على أراضي الشعب الفلسطيني يَملأ الفضاء ، بالتزامن كانت العصابات اليهودية قد ملأت البلدات والأرياف والمدن الفلسطينية بالدم والأشلاء والحرائق والدمار والجثث، حتى ذهبت العصابات اليهودية – التي كان يقودها المجرمان مناحم بيجين «رئيس وزراء كيان العدو الإسرائيلي فيما بعد» وإسحاق شامير «خلف بيجين في رئاسة الوزراء » إلى اجتياح البلدات الفلسطينية.
وتعمدت إبادة السكان الفلسطينيين في دير ياسين واللد وفي صفد وفي القدس ووصلت إلى غزة ورفح وجنين ويافا وغيرها، قامت العصابات بقتل البشر بأساليب إجرامية متعددة، وهدم المنازل وإحراق الزروع والممتلكات بما فيها الأبقار والأغنام والجمال والخيول وكل ما يتقوم به الناس لحياتهم.
سبق إعلان اليهودي بن غوريون جملة من المذابح الجماعية التي ارتكبتها العصابات اليهودية المارقة، إذ مارست جرائم قتل وإبادة جماعية حتى ذهبت العصابات التي كان يقودها المجرمان بيجين وشامير إلى ارتكاب مذابح بالجملة في الأسواق في القرى في المنازل في المساجد في الطرقات، مستخدمة التفجيرات للقطارات وإطلاق القنابل على الأسواق وقتل النساء والأطفال حرقا في المنازل ورميهم في الآبار ودفنهم أحياء إلى آخر تلك الممارسات الشيطانية التي فعلتها عصابات الصهاينة.
تسجل ذاكرة فلسطين أحداثاً رهيبة جداً من أعمال القتل والترويع والذبح والفساد في الأرض التي مارستها العصابات اليهودية المدعومة من الاحتلال البريطاني آنذاك، والتي كونت فيما بعد الجيش الإسرائيلي، فكانت تلك العصابات تُنفذ مجازر مروعة خاصة في عام 1948م، وتتعمد الترويج لتلك المجازر الوحشية، من أجل إخافة المدن والقرى الأخرى، و فرّ بالفعل جزء كبير منهم خوفًا على أرواحهم، خاصة بعد مجزرة «دير ياسين»، التي حدثت قبيل إعلان العصابات اليهودية لدولتها المروعة.
قبل إعلان بن غوريون – وتحديداً في 9 أبريل 1948م- قامت عصابات يهودية الأولى تطلق على نفسها «الأرغون» (كان يتزعمها مناحم بيجين، رئيس وزراء العدو الإسرائيلي فيما بعد) وأخرى «شتيرن ليحي» (التي كان يترأسها إسحاق شامير الذي خلف بيجين في رئاسة الوزراء)، بارتكاب مذبحة في دير ياسين : وهي قرية عربية فلسطينية تبعد حوالي 6 كم للغرب من مدينة القدس، إذ قامت العصابات بإبادة العرب بشكل مروع وهمجي.
فبعدما قامت باقتحام القرية وتدميرها وقتل من فيها بأمر من قائد “الهاجاناة” بالقدس (دافيد شلتيئيل)، عمدت العصابات إلى إلقاء القنابل في وسط الأسواق المزدحمة، ثم قامت بقصف القرية بمدافع الهاون لتسهيل مهمة العصابات المهاجمة، ثم فخخت المنازل باستخدام الديناميت وتفجيرها بيتاً بيتاً، وبعد الاستيلاء عليها استولوا على القرية، وبعد أن انتهت المتفجرات لديهم قاموا «بتنظيف» المكان من آخر عناصر المقاومة عن طريق القنابل والمدافع الرشاشة، حيث كانوا يطلقون النيران على كل ما يتحرك داخل المنزل من رجال، ونساء، وأطفال، وشيوخ، ثم أوقفوا العشرات من أهل القرية إلى الحوائط وأعدمتهم بالرصاص.
نفذت العصابات الصهيونية عمليات تشويه سادية (تعذيب ـ اعتداء ـ بتر أعضاء ـ ذبح الحوامل والمراهنة على نوع الأجنة) وأُلقي بـ أكثر من 100 من الأطفال الأحياء وراء سور المدينة القديمة، وقامت باقتياد 25 من الرجال الأحياء في حافلات ليطوفوا بهم داخل القدس، ثم إعدامهم رمياً بالرصاص، وألقيت الجثث في بئر القرية، بينما قام أفراد الهاجاناة الذين احتلوا القرية بجمع جثث أخرى، على الإثر أرسل مناحم بيجين برقية تهنئة إلى رعنان قائد الأرجون المحلي قال فيها: «تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم، وقل لجنودك إنهم صنعوا التاريخ في إسرائيل».
وفي كتابه المعنون (الثورة) كتب بيجين يقول: «إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي» وأضاف قائلاً: «لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل»، لقد كانت هذه المذبحة واحدة من جرائم العصابات اليهودية، فقد سبقها مذابح عديدة، وتلاها آلاف المجازر التي فعلتها هذه العصابة اليهودية المارقة في فلسطين ثم في لبنان، واتخذت القتل الجماعي والتدمير والإبادة الشاملة وسيلة للإخضاع واستراتيجية للبقاء.
كانت مذبحة دير ياسين عاملاً هاماً في تخويف الشعب الفلسطيني وتهجيره إلى مناطق أُخرى من فلسطين والبلدان العربية المجاورة لما سببته المذبحة من حالة رعب لدى المدنيين، لقد تفاخر مناحيم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بهذه المذبحة في مذكراته فقال: «إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي.. لولا دير ياسين ما قامت إسرائيل».
وأضاف، الوحشية والقتل الجماعي الشامل جزء من نمط صهيوني عام درجت عليه العصابات اليهودية قبل 48 يهدف إلى تفريغ فلسطين من سكانها عن طريق الإبادة والطرد، وبعدها للإخضاع والإخافة والترويع في سبيل البقاء آمناً، ومنذ ذلك الحين لم يترك الكيان الصهيوني اللقيط وداعميه أمريكا وبريطانيا والغرب بشكل عام سلاحاً فتاكاً ولا تكنولوجيا عسكرية إلا واستخدمها في سبيل البقاء ولتحقيق المآرب والأهداف.
منذ إعلان بن غوريون في مثل هذا اليوم قيام دولة اليهود اللقيطة جرت في النهر مياه كثيرة، في الأراضي المحتلة ذهبت أجيال وجاءت أخرى تبدلت الأحوال والأوضاع والظروف، جرت أحاديث عن حلول ومبادرات وخرائط لفلسطين، أشعلت الحروب في المنطقة ثم انتقلت من جغرافيا إلى أخرى، حوصرت شعوب وبلدان واستُهدفت أخرى بالحرب وبالإرهاب وبالطائفية، وُقِّعت اتفاقات وقُدِّمت مبادرات سلام وارتهان مع العدو الصهيوني، استُهدفت المقاومة في غزة بغزوات وحروب عدوانية متلاحقة حوصر القطاع حتى من الهواء.
وتخلى الكثير عنها وأرادوا إخضاعها للعدو وقطعوا عنها المساعدات وسجنوا قادتها في المعتقلات، وها هي المقاومة تتقدم في ميدان المواجهة وتغير ما أراد الصهاينة تكريسه خلال سبعين عاما وأعادوا القضية إلى مسارها الصحيح، وها هو الشعب الفلسطيني داخل المناطق المحتلة يثور دفعة واحدة في مواجهة قطعان العدو وجنوده ويتحدون مع المقاومة في مساق واحد، ها هي الصواريخ تحرق مدن إسرائيل المارقة، لتتراكم الدروس في كل الاتجاهات ولتتكاثر رسائل الردع لعل الصهاينة العجوز تَستيقظ فتَجد طريقاً آخر غير التبعية المُذلة لأميركا، ولعل أميركا تَنكفئ وتتخلى عن عنجهيتها قبل فوات الأوان.
ظل الفلسطينيون ثلاثة وسبعين عامًا يرفعون خلالها مطالبات العودة إلى أراضيهم المسلوبة منذ عام 1948م، مُستعيدين ذكريات النكبة والتهجير القسري لأكثر من 750 ألف فلسطيني، فرّوا من مذابح العصابات الصهيونية التي شيّدت دولة إسرائيل المزعومة، ويطالب الفلسطينيون، بحق العودة المنصوص عليه في كافة محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، لكن دولة الاحتلال ترفض هذا الحق، فيما تؤكد الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذا القرار الذي يدعو إلى عودة أولئك اللاجئين إلى أراضيهم التي طُردوا منها بأبشع الطرق، وفي سبيل القضاء على هذا الحق أعلن ترامب العام الفائت صفقة القرن بالتشارك مع نتنياهو وجملة حكام عرب خانوا القضية وباعوا أمتهم.
طيلة ثلاثة وسبعين عاماً ظل النظام العربي الرسمي يتردى في منحدرات النكوص عن الحق والابتعاد عنه، حالة الاستلاب التي عاشها النظام العربي بدأت بالانكفاء عن مواجهة العدو بالسلاح، ثم انتهت بذهاب الكثير من الأنظمة إلى التطبيع وإشهار العلاقات الخيانية مع الصهاينة، حتى ذهب ترامب لإعلان صفقة القرن العام الماضي، بهدف تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإنهاء الحق في عودة اللاجئين، والحق في القدس الشريف، والحق في فلسطين كأرض عربية، وبعدما قام بنقل سفارته إلى القدس، وقرر العدو الصهيوني توحيد القدس تحت سلطته اللقيطة وإعلانها عاصمة له ظناً منه أن القضية الفلسطينية ماتت ولم يعد أمامه عائق من ذلك.
لن نَسأل اليوم عن صخب إعلان المجرم بن غوريون إقامة دولة اليهود اللقطاء في مثل هذا اليوم عام1948م، ولن نسأل أين ترامب وبن زايد وبن سلمان وخونة السودان والمغرب والبحرين مما تَشاركوه العام الماضي مع نتنياهو وباقي مكونات الاصطفاف الخياني الذي بارك وصفق ودبك لصفقة القرن، وربما لا توجد حاجة للسؤال، إذ أن الانتصارات التي تسجلها المقاومة الفلسطينية، وثورة الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، صواريخ المقاومة الفلسطينية في غزة بسالة المقاومين، سيف القدس التي وضعت كيان العدو الصهيوني في أزمة مصير غير مسبوقة ، تعطي إجابات لا تَقبل التأويل ولا الفهم الخاطئ، أن للحق قوة من قوة الله الجبار القوي ملك السماوات والأرض.
صحيحٌ أن صخب إعلان بن غوريون اتسع وامتد لما يقارب قرناً ، وصحيح أن الصهاينة وبدعم بريطانيا ورعاية أمريكا وتواطؤ بعض الأنظمة العربية وخيانتها، وخذلان الآخرين نكلوا بالشعب الفلسطيني وهجَّروا مئات الآلاف وقتلوا مئات الآلاف أيضاً واقتلعوا شعباً كاملاً من أرضه ، لكن الحقائق الكبرى أقوى من كل الرهانات، كل تلك المؤامرات والحروب والوحشية والإجرام والتنكيل وتلبيس الحق بالباطل والتضليل الثقافي والإعلامي وقلب الحقائق وتكريس الوعي المختل.
لم تغير من الحقيقة شيئاً ولم تغير من حق الأمة في قدسها ولا من حق الشعب الفلسطيني في أرضه، بل على عكس ذلك خلقت مقاومة جهادية صلبة هي أكثر تصميماً وثباتاً وتمسكاً بالحق وهي أكثر عزماً على تحرير فلسطين والقدس، ورسخت عميقاً القناعة بصوابية مواقفها وخياراتها في الجهاد ومقاتلة العدو بالسلاح، وبسقوط كل الرهانات على المفاوضات أو التعايش مع العدو الصهيوني.
اليوم ومن خلال ما نشهد من عمل بطولي مقاوم انتهجه الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة من غزة إلى القدس إلى كافة الأراضي المحتلة، يبقى السؤال عن ترامب وصفقة القرن التي أرادها الأمريكيون الخطوة الأخيرة؟ وكذا السؤال عن المقاومة الفلسطينية التي تَمضي لإنجاز استحقاق الشعب الفلسطيني في تحرير الأرض والمقدسات، وبكثير من الثقة والاقتدار على التوازي مع استكمال ما بَدأته في تكريس المعادلات وتحرير قطاع غزة، ودحر العدو الصهيوني عن كل فلسطين.
وما يضعه المشهد اليوم من حقائق ووقائع كلها تؤكد أن «إسرائيل إلى زوال» ، ففيما تمضي المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة وخلفها أحرار الشعب الفلسطيني وأحرار الأمة في ردع العدوان الصهيوني على القدس الشريف ، يمضي الشعب الفلسطيني من داخل الأراضي المحتلة في اقتلاع العدو الصهيوني من الأرض المحتلة بذات الثقة التي تندرج تحت اليقين بالانتصار وتحقيق اليوم الموعود، خلافاً لما توهمه الصهاينة ورعاتهم الأمريكيون والأوروبيون وحشد المنافقين والخونة الذين انخرطوا في التطبيع عبر أجهزة الاستخبارات ومراكز الرصد والجواسيس والعملاء، وخلافا لما أرادوه من وراء إشعال المنطقة بالحروب والحرائق الكارثية جندوا لها ملايين المرتزقة والعملاء والجماعات والأبواق والأنظمة والحكومات، التي ثبتت بالدليل أنها ذروة في الحسابات الخاطئة الواهمة.
في هذه الأثناء، لليوم السادس يحدث ما لم يخطر لمجرمي الحرب الصهاينة وأمريكا التي ترعاهم وبريطانيا التي تساندهم وما لم يخطر للخونة العرب، في القدس والنقب، في عكا وحيفا واللد والرملة نابلس جنين، على امتداد فلسطين المحتلة، الملاجئ مَملوءة بقطعان المستوطنين، صواريخ المقاومة لا تتوقف وحرائقها تشتعل، القبة الحديدية المزعومة صارت من كرتون الكيان الصهيوني يأمر جنوده بتغيير ملابسهم، وأراضي 48 تَكشف عن وجه فلسطيني أصيل، ليَبدأ كثيرون ربما طرحَ الأسئلة الأكثر أهمية على الصهاينة وداعميهم وما آلت إليه.
كشعب يمني لم نكن نبالغ بثقتنا ويقيننا بانتصار فلسطين وعودة المقدسات، فهذا وعد الله لعباده المؤمنين في محكم الكتاب، حتى لو فعلوا ما فعلوا، كنا وما زلنا على يقين أن قدرة شعوب الأمة وثقتها ويقينها ، جهاد المقاومين الشرفاء في غزة ، وحدة الأمة كلها خلف المقاومة الفلسطينية سيحقق لفلسطين النصر وللقدس الحرية، وستمزَّق الصورة إياها التي التقطها بن غوريون في مثل هذا اليوم 1948م، فجيش العدو يُقهر اليوم ويغير ملابسه تخفياً من استهداف المقاومة والمقاومين، وتحرير فلسطين وعودة المقدسات نعتبره أمراً ناجزاً بيقين وبكل ثقة، لدى المقاومة ما ترد به على الأعداء وبما يكفل تأديبهم وردعهم، ستحرر القدس وفلسطين، هذا يقيننا وهذه ثقتنا وإيماننا.
_________
عبدالرحمن الأهنومي