لم تحمل زيارة المبعوثَين الأميركي والأممي إلى مسقط أيّ جديد، بل كرّرت العروض القديمة نفسها، التي ترى قيادة صنعاء أنها تستهدف، بالدرجة الأولى، وقف تقدُّم قواتها نحو مدينة مأرب، وتخليص الإدارة الأميركية من الضغوط المُسلّطة عليها لوقف الحرب، بإلقاء مسؤولية تعطيل الحلّ السياسي على “أنصار الله”. ومن هنا، جدّدت صنعاء رفضها تلك العروض التي تعتقد أنها تستهدف مواصلة العدوان بأشكال أخرى، متمسّكة بمطلبَي وقف إطلاق النار وإنهاء الحصار قبل الدخول في بحث أيّ ملف عسكري أو سياسي
تبذل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والسعودية جهوداً سياسية ودبلوماسية لإيجاد تسوية تنهي الحرب على اليمن بشكلها الحالي، إذ إن استمرار الوضع الراهن لم يَعُد يصبّ في مصلحة أيٍّ من أولئك الأطراف.
على أن كلّ المبادرات التي قُدّمت في السابق، أو تلك التي أعاد طرحها المبعوثان الأميركي تيم ليندركينغ، والأممي مارتن غريفيث، أول من أمس في مسقط، تقوم على مبدأ استبعاد الأدوات العسكرية التي تتفوّق صنعاء في مجالها، وتفعيل أدوات اقتصادية وسياسية تكون لقوى العدوان اليد العليا فيها. أمّا الادّعاءات بأن الأطراف المشاركة في الحرب، بما فيها واشنطن، تبحث عن صيغة سياسية تراعي ما تَبقّى من هيبة سعودية وتحافظ على ماء وجه المملكة، فالوقائع السياسية ومجريات المفاوضات تدحضها جملة وتفصيلاً، إذ إن جوهر فكرة التفاوض الأميركي – السعودي قائم على الغلبة، والسعي إلى فرض ما عجزا عن تحقيقه في العمليات العسكرية، عبر المسار التفاوضي السياسي والدبلوماسي.
ورافقت انطلاق ليندركينغ إلى المنطقة حملةٌ إعلامية واسعة، تُروّج لمبادرة سياسية لوقف الحرب في اليمن. وركّزت الحملة على أن ما يُسمّى «المجتمع الدولي» يحشد طاقاته لوضع حدّ للنزاع، وأن الدول المؤثّرة في العالم والإقليم لن ترضى بعد اليوم باستمرار تلك المأساة. وقبل وصوله إلى مسقط، نشطت الدعاية الأميركية والخليجية بالادّعاء أن المبعوث الأميركي، ومعه غريفيث، سيركّزان في المباحثات على ضمان وصول السلع والمساعدات الإنسانية إلى أنحاء اليمن كافة بانتظام ومن دون عوائق، إلى جانب دعم وقف دائم لإطلاق النار وانتقال الأطراف إلى عملية سياسية.
إزاء ذلك، تعي قيادة صنعاء أن الجانبين الأميركي والسعودي يسابقان الزمن قبل وصول قواتها إلى مدينة مأرب، وأنهما يقومان بعمليات التفافية على جوهر المطالب اليمنية القاضية بفصْل الملفّ الإنساني عن الملفّات السياسية والعسكرية، ويراكمان من خلال ما تقدّم ذرائع وحججاً لقطع الطريق على تحرير مأرب.
واستباقاً للردّ المتوقّع من «أنصار الله»، والحال هذه، بدا أن الإدارة الأميركية التي تواجه ضغوطاً داخلية أبرزها من الكونغرس لوقف الحرب، تحاول التحلّل من تلك الضغوط بلصق رفض الحلول السياسية بصنعاء، وهو ما أنبأ به اصطحاب المبعوث الأميركي في زيارته السيناتور كريس ميرفي، رئيس لجنة الشؤون الأوروبية المتفرّعة من لجنة العلاقات الخارجية، والذي كان له دور كبير في حشد أعضاء آخرين في الكونغرس ضدّ الحرب وضدّ سياسة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الداخلية والخارجية.
رافقت انطلاق ليندركينغ إلى المنطقة حملةٌ إعلامية واسعة تُروّج لمبادرة سياسية لوقف الحرب
الطرح الأميركي الذي قُدّم إلى وفد صنعاء من خلال الوسيط العماني لم يقدّم جديداً عن المرّات السابقة، وهذا ما عبّر عنه عضو الوفد، عبد الملك العجري، بالقول إن المبعوثَين الأميركي والأممي «عادا من مسقط بخُفَّي حُنين، والأصحّ أنهما جاءا بخُفَّي حُنين».
والجدير ذكره أن المبادرات المقدَّمة سابقاً وحالياً من قِبَل المبعوثَين الأميركي والأممي ترتكز إلى الموافقات المشروطة على فتح مطار صنعاء برحلات محدّدة إلى عواصم إقليمية مشاركة في العدوان، وكذلك السماح بتدفّق البضائع والمشتقّات النفطية إلى ميناء الحديدة بعد نيل التصاريح الخاصة من الأمم المتحدة والخضوع لآلية التفتيش المعمول بها راهناً. أمّا في المضمون السياسي لتلك المبادرات، فيمكن الحديث عن ثلاث ركائز رئيسة:
1- نقل السعودية من كونها قائدة للحرب إلى وسيط سلام بين الأطراف المحلية، مع ما في ذلك من تجاوز لوقائع الجرائم المرتكبة بحق اليمن وشعبه.
2- منع اليمن من استثمار مصادر قوته وموارده وتوظيفها في تنمية البلد وازدهاره؛ إذ إن المبادرات الحالية أو القرارات الدولية اللاحقة إن صدرت، ستُركّز على تحكّم دول العدوان، ومن ورائها واشنطن، بقرار السلم والحرب (أي البقاء في مرحلة اللاحرب واللاسلم)، وتقويض السيادة الوطنية للبلد من خلال السيطرة على المرافق الجوّية والبحرية والبرّية.
3- اعتبار تحرير مأرب من قِبَل قوات صنعاء دفناً للعملية السياسية، وتعقيداً لأيّ حلول مستقبلية في اليمن، بالنظر إلى ما سيعنيه تحريرها من انعكاس على مستقبل الحرب برمّتها، وسقوط ورقة ما يُسمّى «الشرعية» التي تتّخذ من مأرب مركزاً عسكرياً واقتصادياً رئيساً.
وعقب فشل المباحثات في مسقط، ومغادرة المبعوثَين الأميركي والأممي إلى الرياض مجدّداً مساء أمس، غرّد رئيس وفد صنعاء التفاوضي، محمد عبد السلام، على «تويتر» بالقول: «يتحدّثون عن معركة جزئية ويتركون اليمن محاصَراً، هذا اختزال للصراع لا يعالج مشكلة بل يفاقمها، ولا يفيد في تحقيق السلام بل يطيل أمد الحرب، وأيّ نشاط مستجدّ لمجلس الأمن لن يكون قابلاً للتحقُّق إلّا ما يلبّي مصلحة اليمن ويراعي حقّه في الأمن والسيادة».
بالتوازي مع ذلك، ذكرت أوساط إعلامية قريبة من التحالف السعودي – الإماراتي أن وفد صنعاء رفض بند وقف إطلاق النار الشامل الذي تشترطه المبادرة السعودية. كما رفض الإعلان الأممي المشترك.
وجدّد، في المقابل، مطالبته بوقف الغارات الجوية نظير وقف الهجمات بالطائرات المسيَّرة والصواريخ الباليستية في العمق السعودي فقط، رافضاً في الوقت نفسه الحديث عن الهجوم على مدينة مأرب.
وما تجدر الإشارة إليه، هنا، هو أن السياسة التفاوضية اليمنية قائمة على فصل المسار الإنساني عن بقية المسارات، ولذا فمن غير الوارد أبداً المقايضة على رفع الحصار كاملاً، بل إن الوفد اليمني ليس مُخوَّلاً الدخول في الحديث عن الجانب السياسي أو العسكري قبل الانتهاء من مسألة رفع الحصار من دون شروط.
يُذكر أن الجهود الرامية إلى وقف الحرب تكثّفت منذ ما قبل وصول ليندركينع إلى المنطقة، حيث قدّم في خضمّها السعوديون تنازلات وصلت إلى حدّ موافقتهم الكاملة على مبادرة رئيس «المجلس السياسي الأعلى» في صنعاء، مهدي المشاط، والتي طُرحت في خريف العام الماضي، في شأن مأرب (راجع «الأخبار»، عدد السبت 10 نيسان 2021).
على أن السعودية، ومن خلفها الولايات المتحدة وبريطانيا، لم تُقدّم بعد الضمانات اللازمة للسير في مبادرة المشاط أو أيّ مبادرة أخرى، الأمر الذي يثير الشكوك لدى صنعاء في صدقية نيّات التحالف السعودي – الإماراتي، وخصوصاً أن التجارب السابقة أظهرت تملّص الأخير من تعهّداته عندما تتحقّق مآربه.
خطط “الاستنقاذ” لا تؤتي نتائج.. مليشيا هادي على تراجعها
لم تيأس القوات الموالية للتحالف السعودي الإماراتي من إمكانية إعادة قلْب المعادلة في محيط مدينة مأرب. ولذا، فهي تُواصل هجماتها على الجيش و”اللجان الشعبية” في محاولة منها لاستعادة زمام المبادرة هناك. إلا أن تلك الهجمات لا تفتأ تؤتي نتائج عكسية، وهو ما تكرّر خلال الساعات الماضية في شمال المدينة، حيث استطاعت قوات صنعاء السيطرة على جبهة الجدافر، مُمهّدة لقطع جميع خطوط إمداد خصومها من شرق الجوف
تستميت القوات الموالية للرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، في استعادة ما أمكن من مكاسب عسكرية فقدتها في المواجهات التي درات بينها وبين الجيش و”اللجان الشعبية” في جبهات محيط مدينة مأرب.
فبعد فشلها في استعادة أيّ مكاسب في الطلعة الحمراء والعطيف والدشوش في الجبهتين الغربية والشمالية الغربية للمدينة، وفشل خطّة الإرباك التي نفّذتها في مختلف جبهات مأرب خلال الأيام الماضية، تزامناً مع تصعيد موازٍ في جبهات محافظتَي البيضاء والضالع، اشتدّت المواجهات بين الطرفين في ثلاث جبهات رئيسيّة في محيط مدينة مأرب، حيث شنّت قوات هادي عدداً من الهجمات على مواقع الجيش و”اللجان” في كلّ من الأطراف الشرقية للطلعة الحمراء ومحيط تبّة المصارية غرب المدينة، لتمتدّ المواجهات التي استُخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة إلى محيط حمّة الصيد والدشوش شمال غرب مركز المحافظة.
وبعد ساعات من انكسار تلك الهجمات، وتمكّن قوات صنعاء من تحويلها إلى هجمات معاكسة انتهت بسقوط المزيد من مواقع قوات هادي في اتجاه مناطق الميل شمال قاعدة صحن الجن الواقعة في الأطراف الغربية لمدينة مأرب، وفي محاولة لتحقيق اختراق على الأرض، شنّت قوات هادي، مسنودة بعناصر “القاعدة” و”داعش”، مساء الثلاثاء، هجمات مماثلة على مواقع الجيش و”اللجان” في جبهة العلم الصحراوية شمال مأرب، لتندلع مواجهات استمرّت قرابة عشر ساعات، وانتهت فجر الأربعاء بخسارة تلك القوات 80% من جبهة الجدافر الواقعة في منطقة العلم.
تمكّن الجيش و«اللجان» من إحراز تقدّم كبير في صحراء الجدافر الواقعة شمال محافظة مأرب
وجاء هذا التطوّر عقب ساعات من تمكُّن الجيش و”اللجان” من إحراز تقدّم كبير في صحراء الجدافر الواقعة شمال محافظة مأرب وشرق محافظة الجوف، حيث استطاعا قطع طرق إمدادات قوات هادي باتجاه شمال مدينة مأرب. وأكدت مصادر قبلية، لـ”الأخبار”، أن “الجيش واللجان شنّا هجوماً على مواقع قوات هادي في جبهة الجدافر الصحراوية مساء الاثنين، حيث استمرّت المواجهات قرابة 24 ساعة انتهت بسقوط 80% من منطقة الجدافر الاستراتيجية غربي منطقة العلم شمالي محافظة مأرب، وقتل عدد كبير من قوات هادي؛ من ضمنهم قياديان من العيار الثقيل، وأسر آخرين، واغتنام أسلحة ثقيلة ومتوسّطة”.
وأوضحت المصادر أن “تأمين قوات صنعاء لجبهة الجدافر سيوقف أيّ إمدادات عسكرية قادمة من شرق الجوف لقوات هادي، وسيُعجّل في حسم الجبهة الشمالية لمأرب”.
وعلى رغم فشل محاولاتها استعادة أيٍّ من المواقع الاستراتيجية الحاكمة الواقعة في تخوم مدينة مأرب والتي سقطت في الأسبوعين الفائتين، وتكبّدها جرّاء ذلك خسائر بشرية كبيرة، تُواصل قيادة قوات هادي الدفع بالمزيد من التعزيزات العسكرية، وتُكرّر هجماتها الانتحارية في مسعًى منها لنيل رضى قيادة التحالف السعودي ــــ الإماراتي التي هدّدت بإطاحتها وإحالتها إلى المحاكمة.
إلا أن الفشل الذي تواجهه وزارة الدفاع في حكومة الرئيس المنتهية ولايته تَعزّز بتمرّد عسكري في أوساط قواتها على توجيهات قيادة “التحالف” بإقالة قادة عدد من المعسكرات وقيادة المنطقة العسكرية الثالثة، واستبدال آخرين بهم. ووفقاً لأكثر من مصدر في قوات هادي في مأرب، فقد وجّه حزب “الإصلاح”، القيادات العسكرية المحسوبة عليه، برفض قرارات وزير الدفاع، محمد المقدشي، في هذا الإطار، كون القيادات البديلة مقرّبة من الإمارات وتابعة لرئيس الأركان صغير بن عزيز.
وفي السياق، أعلن قائد “اللواء 312 مدرّع”، العميد عيدروس الدميني، تمرّده على المقدشي، ورفضه قرار إقالته من منصبه، وإحالته إلى التحقيق على ذمّة خسائر قوات هادي في جبهة المشجح غربي المدينة، وتعيين العميد صادق معوضة بدلاً منه. كما عمد الدميني إلى طرد لجنة التسليم والتسلّم المُشكَّلة من وزارة الدفاع، وتمزيق وثائقها، وإشهار السلاح في وجه أعضائها.
وبالمثل، رفض قائد المنطقة العسكرية الثالثة التابع لـ”الإصلاح”، اللواء منصور ثوابة، قرار الإقالة، على رغم إيقافه عن العمل منذ أواخر آذار/ مارس الماضي. ولم تستبعد المصادر أن يعلن عدد من القيادات العسكرية الرفيعة التي حمّلتها قيادة “التحالف” مسؤولية الانتكاسة في محيط مأرب، ووجّهت بإقالتها وإحالتها إلى التحقيق والمحاكمة، الانضمام إلى قوات صنعاء.
وصل معين عبد الملك إلى مأرب في مهمّة لرفع معنويات قوات هادي
في هذا الوقت، وفي ظلّ فشل دعوات التعبئة والتحشيد التي أطلقها محافظ مأرب الموالي لـ”الإصلاح”، سلطان العرادة، أواخر الأسبوع الماضي، في إعادة قبائل مأرب إلى جبهات القتال، وصل إلى المحافظة رئيس حكومة هادي، معين عبد الملك، في مهمّة لرفع معنويات قوات هادي.
لكن زيارة عبد الملك، التي رافقتها تصريحات نارية مُكرّرة حول “تحرير” مأرب وصنعاء، كانت محطّ ترصّد القوة الصاروخية التابعة للجيش و”اللجان”، والتي استقبلتها بصاروخين باليستيين استهدفا، فجر الأربعاء، مقرّ قيادة المنطقة العسكرية الثالثة غربي المدينة.
الاخبار اللبنانية