شهد هذا الشهر تطورات كبيرة ومتسارعة بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة» وهو الاسم الرسمي للاتفاق النووي الإيراني، حيث اجتمعت الأطراف المعنية به في فيينا بمباحثات ومشاورات حول كيفية إحيائه وعودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى العمل به، بعد رفعها للعقوبات عن طهران، وعودة الأخيرة إلى الامتثال ببنود الاتفاق، وقد حاولت «إسرائيل» خلالها عرقلة المفاوضات وضربها، مما أدى إلى ارتداد هذه الأفعال داخلياً عليها، وتحريك التناقضات بينها وبين الولايات المتحدة دون أثرٍ يذكر- حتى الآن- على سير المفاوضات، وإنما برزت تصريحات إيجابية من جميع الأطراف مؤخراً تشير إلى قرب إعلان عودة العمل بالاتفاق.
في التاسع من الشهر الجاري بدأت أُولى الخطوات الجدية باتجاه المباحثات بين أطراف الاتفاق في العاصمة النمساوية فيينا، حيث أكد المشاركون- وهم ممثلون عن إيران وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين- «عزمهم على المضي قُدماً في الجهد الدبلوماسي المشترك الحالي» بمسألتي رفع العقوبات الأمريكية عن إيران، وعودة طهران إلى تطبيق كافة التزاماتها النووية وفق الاتفاق،
وصرحت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، جالينا بورتر، بأن واشنطن تتوقع استئناف محادثات مجموعات العمل مع إيران، على الرغم من تأكيد الأخيرة رفضها أية محادثات ثنائية مباشرة مع الولايات المتحدة، وبنفس اليوم بدأ تداول توقعات وأخبار غربية غير رسمية تشير بأن الولايات المتحدة تعتزم رفع العقوبات غير المتوافقة مع الاتفاق النووي، دون أن يعني ذلك رفع جميع العقوبات الصادرة منذ 2017 (إنما ما يتعارض مع نصّ الاتفاق).
تدخل «إسرائيلي»
بعد تلك التصريحات والمؤشرات، أقدمت تل أبيب على خطوة متهورة عبر استهداف منشأة «نطنز» النووية الإيرانية عن بعد في 11 من الشهر وفق التصريحات الرسمية الإيرانية، مسببةً خللاً بالشبكة الكهربائية بها أدت إلى توقفها مؤقتاً ونشوء أضرار طفيفة.
تقف تل أبيب وواشنطن على طرفي نقيض فيما يخص موقفهما من الاتفاق النووي الإيراني، حيث أن واشنطن ومنذ أواخر فترة إدارة ترامب نفسها أصلاً، بدأت تُعيد حساباتها فيما يخصّ انسحابها الأحادي وما نتج عنه، من: زيادة في العزلة الدولية للولايات المتحدة. وتناقضات مع الاتحاد الأوروبي. وعدم نجاح سياسة العقوبات القصوى، وإعطاء طهران المبرر للخروج عن التزاماتها وتقوية صناعتها النووية، ورفع نسب التخصيب، ومنع المراقبين الدوليين من عملهم.
أما تل أبيب، ومن موقعها الإقليمي، كان وسيبقى هدفها محاولة حصار وإضعاف إيران بشتى الوسائل والأشكال، وعلى كافة المستويات داخلياً ودولياً، حمايةً لنفسها ووجودها إستراتيجياً (الذي يحذر من إمكانية استمراره الخبراء الأمنيون «الإسرائيليون» أنفسهم)، وبالتوازي مع الهجوم نشطت خطوات وتصريحات «إسرائيلية» تصعيدية بوجه طهران كان منها: إعلان أن «الكابينت» سيجري اجتماعاً لأول مرة منذ شهرين، لـ«بحث إيران».
أفضى التدخل «الإسرائيلي» بالمحصلة إلى نتيجة عكسية، وهو تسارع واشنطن بالعودة إلى الاتفاق بعد أن قامت طهران بالردّ على هجوم «نطنز» الذي وصفته بالـ «إرهاب النووي»، عبر رفع نسبة تخصيب اليورانيوم في الموقع نفسه إلى نسبة 60%! وهي النسبة الأعلى، والخطوة الأكبر، التي قامت بها طهران خارج نصّ الاتفاق حتى الآن، مما وضع الأمريكيين أمام ضغطٍ كبير بالعودة قبل أن «تصنع» و«تمتلك» إيران احتياطي جيد من «اليورانيوم المخصّب».
ارتداد في الداخل «الإسرائيلي»
بعد الهجوم الفاشل على منشأة «نطنز»، ودون تأثيره على سير مباحثات فيينا، جرى ويجري الاستفادة من الحدث داخل تل أبيب نفسها بتناقضاتها وأزمتها السياسية، حيث جرى أولاً: اعتراف بفشل الهجوم من قبل مدير المخابرات العسكرية «الإسرائيلية» السابق، عاموس يادلين، قائلاً: إن الحادث لن يقوّض برنامج طهران النووي، ومعتبراً أنّ حملة «الضغط الأقصى» على إيران لم تنجح.
وبعد يومين قال رئيس وزراء كيان العدوّ السابق، إيهود أولمرت، بتصريحٍ لافت ويعبر عن جزء طفيف من الأزمة داخل الكيان، حين قال: إن رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو «مستعد لبيع أمن إسرائيل من أجل تحقيق أمنه الشخصي»، ويعكس موضوعة ارتداد هذه الخطوة -وفق رؤيته بالطبع- بقوله: «في رأيي، يقوم نتنياهو عن قصد وعن قصد بأشياء يعرف أنها يمكن أن تضر بأمن إسرائيل بالفعل».
وبعد اجتماع «الكابينت الإسرائيلي» في 19 من الشهر، نقلت وكالات أخبار العدو تصريحات عن «مسؤول» وفق تعبيرهم، تفيد بأن واشنطن وطهران ترغبان بالعودة إلى الاتفاق، وأن النتيجة معروفة، وهي العودة إلى الاتفاق النووي المبرم في 2015، مشيراً أن هذه الصفقة على المدى البعيد «ستقوض حرية تصرف إسرائيل، وهذا أمر مثير للقلق البالغ».
وبعد بدء ظهور التصريحات الإيجابية من مباحثات فيينا والمشاركين بها مؤخراً، أفادت «هيئة البث الإسرائيلية» يوم الجمعة بأن «الإدارة السياسية أصدرت تعليماتها إلى المسؤولين الأمنيين الذين سيتوجهون إلى واشنطن لإبلاغها رفض إسرائيل الاتفاق المتبلور مع إيران» أي: إنه طلبٌ رسميّ بذلك.
مفاوضات بنّاءة وانفراجٌ يلوح في الأفق
ضمن أطراف الاتفاق نفسه تقف الولايات المتحدة الأمريكية وحيدة دون دعم، فعلى الرغم من وجود إيران والصين وروسيا كحلفاء، وقد جرى فيما بينهم عددٌ من الاجتماعات والتصريحات الهامة الداعمة لموقف طهران خلال المباحثات الجارية، إلّا أن ذلك لا يعني أن الأطراف الأوروبية تقف إلى جانب واشنطن، وإنما تسعى إلى تأمين توافقات انطلاقاً من مصالحها الخاصة المرتبطة بالعلاقات مع إيران من جهة، ورغبتها بألّا تمتلك طهران احتياطات يورانيوم مخصّب بسبب من التهور الأمريكي الأحادي السابق.
لا تزال غير واضحة الخطوات الأخيرة التي سيجري الاتفاق عليها لعودة واشنطن، إلّا أن الأخيرة قدمت ورقةً لطهران بقائمة العقوبات التي سترفعها قبيل عودتها، وتبرز من تصريحات إيران الأخيرة الإيجابية إشارات عن قبولها ورضاها عن هذه الخطوة، كما تشير تصريحات روسيا والصين والأوروبيين كذلك بأن المباحثات تمضي في طريقها الصحيح نحو إعادة إحياء الاتفاق.