كرّر البطريرك الماروني في لبنان بشارة بطرس الراعي أخيراً تصريحاته التي يؤكد فيها على ضرورة “حياد” لبنان في شأن الصراع العربي الإسرائيلي. وهذه المرة أضاف إليها هجوماً شديداً على حزب الله وخاطبه قائلاً: “لماذا تريد إجباري على الذهاب إلى الحرب؟”. مع العلم أن أحداً لم يجبره على الذهاب إلى أي حرب وأن حروب حزب الله مع “إسرائيل” كلها كانت دفاعية عن لبنان واللبنانيين.
والبطريركُ ذاته وضّح قبل بضعة أشهر مفهومه لـ “الحياد” اللبناني عندما تحدث في لقاء حواريّ أقامته أكاديمية بشير الجميّل فقال إن “الحياد لم يولد نتيجة مبادرة من البطريركية، وإنما هو الكيان اللبناني الذي نستعيده”، وشدّد على “أهمية فكّ ارتباط قضية لبنان بقضية الشرق الأوسط”. وأضاف أن “موقع لبنان الجغرافي بين سوريا وإسرائيل هو مهمّ أيضاً، ولا سيما أن الدولتين لديهما أطماعهما في لبنان. لقد صمد لبنان في وجه مشروع إسرائيل الكبرى وسوريا الكبرى، ولذلك يريد الحياد ليكمل رسالته، وعلى الأسرة الدولية مساعدته”.
وهذا الموقف الداعي إلى سلخ لبنان عن انتمائه العربي ومساواته (الظاهرية) بين سورية العربية والكيان الإسرائيلي (في الحقيقة هو منحاز إلى الكيان) ليس جديداً على البطريركية المارونية، بل تعود جذوره إلى ما قبل تسعين عاماً. فمع ازدياد كثافة النشاط الصهيوني في فلسطين في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، بدأت الاتصالات والعلاقات في التشكّل والنموّ بين الكنيسة و”المارونية السياسية” في لبنان من جهة والوكالة اليهودية في فلسطين من جهة أخرى.
وهناك كتاب نُشر في أميركا سنة 1994 للباحثة لورا ايزنبيرغ يتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع اسمه “عدو عدوّي – لبنان في المخيلة الصهيونية المبكرة 1900 – 1948″، وهو مصدر المعلومات التي ستلي. وكتاب ايزنبيرغ هو في الأساس دراسة في وثائق الأرشيف المركزي الصهيوني في القدس مدعومة أيضاً بوثائق أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، ويخلو الكتاب من مصادر لبنانية أو عربية (بسبب إخفائها أو عدم توافرها أو عدم توثيقها من الأصل).
يسلط الكتاب الضوء على شخصيتين رئيسيتين من الكنيسة المارونية: البطريرك أنطوان عريضة والمطران أغناطيوس مبارك، اللذين كانا من أشد الداعمين والمتحمّسين للحركة الصهيونية ومشروع الدولة اليهودية في فلسطين، مع الفارق بينهما أن الثاني أعلى صوتاً وأكثر مجاهرة بمواقفه من الأول الذي كان يعبّر عن مواقفه على انفراد في اجتماعاته المتكررة مع المندوبين الصهاينة.
كان البطريرك بحكم منصبه يُراعي اعتبارات تتعلق بالعلاقة مع المسلمين في لبنان وأهمية عدم استفزازهم بمواقفه الصادمة والتي قد تسبب توتراً يضر بمصالح الموارنة وتصدرهم لقيادة البلد. وبالإضافة إلى رجُلَي الدين الكبيرين يكشف الكتاب هوية مجموعة من الشخصيات اللبنانية التي لعبت دوراً في تأسيس وترسيخ العلاقات مع الصهاينة، ومن أبرزهم محامٍ اسمه نجيب صفير (لا نعرف مدى قرابته من البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير) ورجل الأعمال الأرستقراطي ألبرت نقاش، والشاعر شارل قرم، إضافة إلى الرئيس اللبناني أيام الانتداب الفرنسي إميل إدّه.
وفي سنة 1920 عُقدت أول اتفاقية مارونية – صهيونية وقّعها عن الجانب اللبناني نجيب صفير (ممثلاً لما يُسمى “المجموعة القومية في سوريا ولبنان”) وعن الصهاينة يهوشع حانكين (ممثلاً للمنظمة الصهيونية في فلسطين)، وكانت تتلخص في اعتراف الموارنة بحق اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في “أرض إسرائيل” وتأييدهم للهجرة اليهودية غير المحدودة في مقابل اعتراف الصهاينة بأنّ لبنان مسيحي مستقل ودعمه. ولكنّ هذه الاتفاقية لم تكن ذات مفعول أو تأثير حقيقي بسبب ضآلة مستوى من وقّعوها من الجانبين وإنما كانت بمثابة “خطاب نوايا” ومقدمة لما سيأتي.
وتتلخّص المحاور الأساسية لأفكار هذا الفريق الماروني المندفع بقوة باتجاه الصهاينة بما يلي : الموارنة ليسوا عرباً ولبنان يجب أن يعود إلى أصوله الفينيقية وأن يتخلّص من التأثيرات التي تركها الغزاة المسلمون العرب، وأن سيطرة الأكثرية العربية المسلمة تشكل خطراً مميتاً على كل الأقليات في المنطقة، وبالتالي فإن هناك جامعاً مشتركاً بين المسيحيين في لبنان واليهود في فلسطين كونهما أقلية في وسط عربي مسلم معادٍ ويصبح تعاونهما وتحالفهما أمراً ضرورياً ومفيداً لكليهما.
وحسب كلمات الرئيس إميل إده في أحد لقاءاته مع الصهاينة فإن “الثقافتين اليهودية واللبنانية (يقصد المسيحية) متفوّقتان على ثقافة العرب وتناضلان من أجل الهدف نفسه وهو تشييد جسر بناء بين الثقافتين الشرقية والغربية”. بل إن شارل قرم ذهب إلى حد تشبيه الموارنة باليهود، ممتدحاً الطريقة التي حافظ فيها الشعبان على خصائصهما المميزة، على الرغم من تأثيرات الأمم الغازية. ويتفق هذا التيار الماروني على فكرة التقسيم الديني للمنطقة: لبنان للمسيحيين، فلسطين لليهود وسوريا للمسلمين!
وفي يوم 30 أيار/مايو 1946 تم إبرام اتفاقية رسمية بين الوكالة اليهودية والكنيسة المارونية ووقّعها في القدس جوزيف عوّاد نيابة عن البطريرك عريضة وبرنارد جوزيف (مدير الدائرة السياسية بالوكالة) نيابة عن حاييم وايزمان. وكانت هذه الاتفاقية ذروة التعاون الماروني- الصهيوني وأضفت طابعاً رسمياً على العلاقات بين الجانبين اللذيْن اتفقا على إبقائها سرية. وجوهر هذه الاتفاقية هو الاعتراف والتبادل بالمطالب اليهودية في فلسطين وبالطابع المسيحي المستقل للبنان.
وقبل هذه الاتفاقية بعدة سنوات بُذلتْ مجهودات كبيرة لعقد اتفاقية لبنانية (وليس مارونية تحديداً) – صهيونية رسمية / كبلديْن جارَين. ولكنّ تلك المساعي المكثفة التي بذلها الرئيس إميل إدّه وحاييم وايزمان لإنجاز الاتفاقية فشلت وأُحبطت على يد رجلٍ مكروهٍ من كليهما، هو المندوب السامي الفرنسي، في قصةٍ تستحق أن تُروى تفاصيلها.
داميان دو مارتيل، منذ تعيينه مفوضاً سامياً لفرنسا في بلاد الشام سنة 1933، كان فعلياً يتحكّم بكل شيء في لبنان، آمراً ناهياً، يعيّن الرئيس ويشكل الحكومة، يصنع “الاتفاقيات” بين فرنسا ولبنان ويكتب الدستور، يسيطر على زعماء الأحزاب والطوائف، يحدد الحصص، يكافئ المطيع ويعاقب العاصي. وكان رجلاً واسع الاطّلاع في دوائر صنع السياسة الخارجية لفرنسا، قوياً وصعب المراس. كان دو مارتيل يتصرف بعقلية المستعمر القديم : لبنان من حصة فرنسا حسب اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكفى!
في حلول عام 1936، كانت العلاقات الصهيونية مع الكنيسة والساسة الموارنة قد وصلت إلى مرحلة متطورة إلى الحد الذي دفع الوكالة اليهودية للتفكير باستغلال ذلك، وإضفاء طابع رسمي على علاقتها مع لبنان. وقد تشجّع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان بوجود فرنسي يهودي على رأس الحكومة في باريس (للمرة الأولى) وهو ليون بلوم الذي أبلغه بجاهزيته للمساعدة في ذلك الاتجاه.
وسرعان ما تولّى المهمة موشيه شرتوك، رئيس الدائرة السياسية، فأرسل الخبير بالشؤون اللبنانية الياهو ابشتاين إلى بيروت للقاء الرئيس إميل إده ويقترح عليه اتفاقية رسمية تنص على تعاون لبناني-صهيوني وثيق في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية. وفي التقرير الذي رفعه عن الاجتماع قال ابشتاين إن إده كان إيجابياً ومتحمّساً وكرّر قناعاته السابقة بأن الصهيونية تشكل قوة إيجابية في فلسطين وبأنه جاهز تماماً لإبرام معاهدة رسمية وعلنية بينهما. ولكنّ إده أضاف أنه لا بد من موافقة المندوب السامي الفرنسي في لبنان، وأنه لن يتخذ أي خطوة من دون تفويض منه.
والمشكلة أمام الطرفين، كانت أن دو مارتيل يعارض هذا المشروع معارضة تامة. والواقع أن المندوب السامي كان يشك في الصهاينة ومآربهم في لبنان ويعتبرهم عملاء أو أتباعاً لبريطانيا، وبالتالي كان مصمماً على عدم السماح لهم بالتمدد والعمل في لبنان الذي هو من حصة فرنسا!
لجأ وايزمان، بصفته رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، إلى أحد الأثرياء من يهود فرنسا، ايزاك كدمي ـــ كوهين، طالباً منه المساعدة في إقناع المندوب السامي بالموافقة على الاتفاقية المقترَحة. وبالفعل توجّه كدمي ـــ كوهين إلى بيروت حيث اجتمع أولاً مع الرئيس إميل إده الذي وجد عنده كل التأييد، ومن ثم انتقل للقاء المندوب السامي. كان اللقاء مع دو مارتيل عاصفاً وكارثياً بكل معنى الكلمة! تلقّى كدمي ـــ كوهين توبيخاً شديداً من دو مارتيل الذي اتهمه بأنه “يلعب لعبة مزدوجة”، ولم يلبث أن طرده من مكتبه! وفي تقريره عن الاجتماع الموجّه إلى وزير الخارجية الفرنسي في 13كانون ثاني/ يناير 1937، كتب دو مارتيل: “كلا. إن فرنسا لن تسمح بامتداد الصهيونية إلى هنا”.
عند تلك النقطة رأى الصهاينة أن يجربوا حظهم في العمل على تجاوز المندوب السامي والقفز مباشرة إلى رؤسائه الكبار في باريس، وخصوصاً صديقهم رئيس الحكومة ليون بلوم.
وبالفعل ذهب حاييم وايزمان وقابل ليون بلوم في باريس وشكا إليه أن دو مارتيل يقف عقبةً في وجه معاهدة صهيونية – لبنانية، وحاول إقناعه بنقض موقف دو مارتيل والسماح لإدّه بإبرام المعاهدة. ولكن ليون بلوم على الرغم من تأييده الشخصي لمعاهدة لبنانية-صهيونية إلّا أنه رفض مجابهة مندوبه السامي واعتذر إلى وايزمان!
كانت تلك نهاية الحكاية. انتهى الأمل الصهيوني في معاهدة رسمية وعلنية مع لبنان. قتله المندوب السامي الفرنسي بعناده وإصراره. لكنّ النشاط الصهيوني في لبنان لم يتوقف واتجه المجهود الصهيوني في مسارات أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتب حسام عبدالكريم