خطوة جديدة نحو التفاهم مع إيران، وترويج دفاعي لتنفيذ الشق الاقتصادي من رؤية السعودية 2030، وهجوم ثوري على الأسس الدينية لنظام المملكة مع إعلان رسمي عن التخلي عن الالتزام بمرجعية الوهابية كمدرسة فقهية.. هكذا جاءت خلاصة الحوار الذي أجراه الإعلامي “عبدالله المديفر” مع ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان“، مساء أمس الثلاثاء، بمناسبة مرور 5 سنوات على رؤية السعودية 2030.
المحاور الثلاثة للحوار، الذي بثته قناة “روتانا خليجية” عبر برنامج “الليوان”، حرص فيه “ابن سلمان” على الظهور من موقع المثقف والمفكر، وليس فقط السياسي، في أول تناول إعلامي له من هذا النوع، وفيما توقع عديد المراقبين أن يكون الاقتصاد هو علامة الحوار البارزة، بحكم مناسبته، إذا بهذا الشق يأتي كأكثر محاور الحوار محافظة.
جاءت أغلب ردود “ابن سلمان” على “المديفر” في الشق الاقتصادي تبريرية أو دفاعية، زاعما أن رؤية 2030 “حققت معظم أهدافها”، رغم اعترافه ببعض السلبيات، لكنه عزاها جميعا إلى تأثير جائحة كورونا، وليس إلى قصور في إدارة الملف، خاصة فيما يتعلق بالتقدير غير السليم للسعر المتوقع لبرميل النفط في موازنة الدولة، ما أدى إلى انخفاض حاد في إيرادات السنوات الماضية.
ولأن النفط يمثل النسبة الأكبر (نحو 90%) من إيرادات الموازنة السعودية، فإن السبب الرئيس لمعاناة اقتصاد المملكة يعود إلى هذا الجانب الذي لم يسلط عليه “ابن سلمان” الضوء، واكتفى بالتركيز على ضرورة تنويع اقتصاد المملكة، مشيرا في هذا الصدد إلى أن الإيرادات غير النفطية ارتفعت من 166 مليار إلى 350 مليار ريال تقريبًا.
كما بدا “ابن سلمان” حريصا على تبرير حدة آثار الإصلاحات الاقتصادية على المواطن السعودي، عبر تأكيده على أن رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 15% مؤقت بسبب الجائحة، وأن معدل النمو الاقتصادي في القطاع غير النفطي ارتفع بحلول الربع الرابع من 2019 بحجم 4.5%، ولولا جائحة كورونا لاستمر إلى أكثر من 5%.
في الإطار ذاته، جاء تأكيد “ابن سلمان” على أن الحكومة السعودية ليس لديها أي خطط لاستحداث ضريبة على الدخل، وأن ضريبة القيمة المضافة قد يجري تخفيضها إلى ما بين 5 إلى 10% في غضون عام إلى 5 أعوام.
غير أن اعترافا ضمنيا بضغوط عجز الموازنة بدا واضحا في تصريح ولي العهد السعودي بشأن محادثات جارية حاليًا لبيع حصة 1% في شركة النفط السعودية العملاقة (أرامكو) إلى مستثمر رئيسي، وبيع حصة أخرى من الشركة ذاتها إلى مستثمرين دوليين في غضون العام الجاري أو العامين القادمين.
وهنا يشير المحلل الاقتصادي “جمال عبدالرحمن العقاد” إلى أن رؤية “ابن سلمان” للتقدم الاقتصادي القريب يعتمد على استمرارية دور النفط ليس في شكله التقليدي كبرميل “نفط خام” ولكن في الصناعات المستخرجة من النفط، ما يجعل قيمة البرميل أغلى بكثير، مشيرا إلى إعلان أرامكو تحويل 3 مليون برميل من النفط إلى صناعات تحويلية بحلول عام 2030، وفقا لما أوردته صحيفة “مال” السعودية.
غير أن الشركة، التي انتهى بها الأمر إلى طرحها في البورصة السعودية، بدلاً من البورصات العالمية، مع إعطاء ضمانات مالية بشأن أرباحها للمكتتبين، باتت تواجه مخاوف من سقوط في دوامة الديون، بعدما لجأت إلى أسواق الديون للمساعدة في تمويل التزاماتها تجاه الأفراد والجهات الذين اشتروا أسهما بها، بينما تتراجع العوائد بشكل كبير.
ولم تخل تعليقات “ابن سلمان” على الإمكانات الاقتصادية للمملكة من إشارات سياسية داخلية، إذ ذكر أن مدينة الرياض تحديدا تتميز بوضع متميز على مستوى البنية التحتية، وعزا ذلك إلى “تخطيطها بشكل جيد تحت قيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز” عندما كان أميرا لها.
قدم التصريح إشارة إلى تعزيز نزوع نموذج “ابن سلمان” في الحكم إلى المركزية، وهو ما وصفه مراقبون في السنوات القليلة الماضية بأنه أشبه بتأسيس ثالث للدولة السعودية يحصر إنجاز السلطة في “الفرع السلماني” من عائلة آل سعود، الأمر الذي دفع النظام الحاكم كافة وسائل الإعلام المحلية إلى الترويج له.
مبادرة جديدة
في شق السياسة الخارجية، بدا “ابن سلمان” وكأنه خطا خطوة إلى الأمام من مربع المحافظة والتبرير إلى مربع المبادرة الحذرة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع إيران.
أكد “ابن سلمان” أن السعودية تطمح إلى إقامة علاقة جيدة مع إيران باعتبارها “دولة جارة”، وعزا التوتر بين البلدين فقط إلى “إشكاليات” تعمل السعودية مع شركائها على حلها، وحددها بـ 3 عناصر، هي: البرنامج النووي، وعم المليشيات المعادية للسعودية وعلى رأسها جماعة أنصارالله اليمنية (انصار الله)، وبرنامج الصواريخ الباليستية.
وجدد ولي العهد السعودي، الذي يشغل أيضا منصب وزير الدفاع، عرضه بتقديم دعم اقتصادي لليمن، إذا قبلت “أنصار الله” وقف إطلاق النار، معربا عن عن أمله في أن يجلس الحوثيون إلى طاولة حوار مع الأطراف اليمنية بما يؤدي إلى اتفاق يضمن “أمن السعودية”.
وحدد “ابن سلمان” التواجد الحدودي للحوثيين جنوبي المملكة معيارا أساسيا لهذا الأمن، مشددا على أن “المملكة ترفض أن تكون هناك مليشيات مسلحة على حدودها”.
ولتحقيق هكذا أهداف، أشار “ابن سلمان” بوضوح إلى تعويل سعودي إلى تدخل “حلفاء المملكة” خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ولذا حرص على تأكيد وجود توافق سعودي مع إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بنسبة 90%، والتقليل من “هامش الاختلاف” معها، وحدد في هذا الإطار معيارا حاكما هو تجنب “التدخل في الشأن الداخلي للمملكة” في إشارة إلى الملفات الحقوقية التي طالما انتقدها “بايدن” قبل توليه السلطة، وعلى رأسها جريمة اغتيال الكاتب الصحفي “جمال خاشقجي”.
أهمية المبادرة السعودية الجديدة تجاه إيران لا تعود إلى تجديد تبني “ابن سلمان” لها فقط بل إلى توقيتها المتزامن مع خوض المفاوضين السعوديين والإيرانيين محادثات شاقة في العراق، وزيارة وزيرا خارجية البلدين قطر بشكل منفرد، الأسبوع الماضي.
نبذ الوهابية
انتقل الحوار من المبادرة الحذرة في شقه السياسي إلى الهجوم الثوري في شقه الديني، حيث أعلن “ابن سلمان” رسميا ولأول مرة أن المملكة “غير ملتزمة” بمدرسة شرعية محددة، وأن “باب الاجتهاد مفتوح إلى الأبد”، وأن الشيخ “محمد بن عبد الوهاب” كان سيعارض “تأليهه” أو “تضخيمه” لو خرج من قبره.
ويعد ذلك تخليا رسميا عن المدرسة التي تأسست عليها المملكة، التي قامت على ما يصفه المؤرخون بـ “تحالف آل سعود وآل الشيخ”، في إشارة إلى “محمد بن عبدالوهاب” و”عبدالعزيز آل سعود”.
لكن الأمر لم يقتصر على “توسيع” نطاق المرجعية الشرعية للسعودية، بل تجاوز ذلك إلى إشارات بإمكانية تجاوز باقي المرجعيات الشرعية الأخرى أيضا تحت عنوان “الالتزام بالقرآن”.
هنا تحدث “ابن سلمان” باستفاضة عن تفاصيل متخصصة، وانتقد المنهج السلفي التقليدي في الاعتماد على تصنيف السنة الوارد في كتب المحدثين القدامي، وعلى رأسها البخاري ومسلم، داعيا إلى التمييز الواضح بين “المتواتر” و”الآحاد” و”الأخبار” من الأحاديث النبوية.
قدم ولي العهد السعودي تعريفا للأصناف الثلاثة، ثم علق قائلا: “الحكومة في الجوانب الشرعية مُلزمة بتطبيق النصوص في القرآن، ونصوص الحديث المتواتر، وتنظر للحديث الآحاد حسب صحتها وضعفها ووضعها، ولا تنظر لأحاديث الخبر بتاتاً إلا إذا كانت تستند على رأي فيه مصلحة واضحة للإنسان”، مشيرا إلى أن الصنف الأخير (المرفوض) يمثل “النسبة العظمى من الأحاديث”.
والحديث المتواتر هو المروي عن عدد كبير من الرواة، بحيث يستحيل اجتماعهم على الكذب في هذا الحديث، أما حديث الآحاد فهو، ما لم يجمع شروط المتواتر، وله درجات مختلفة، أما حديث الخبر فهو من يرويه فرد في كل طبقات سلسلة الإسناد المرفوع إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم.
ما الإشكال في ذلك؟ هذه الرؤية تتضمن تعديلا جذرياً على المعتمد لدى علماء السلفية في السعودية، بل والسائد في الفقه الإسلامي عموما، إذ يفتح الباب أمام رد أحاديث وردت في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب المرويات، وما يترتب عليها من أحكام فقهية.
البخاري ومسلم تحديدا يحظيان بقيمة كبيرة لدى علماء المذهب السلفي، الذين يعتبرون كل منهما “كامل الصحة والقبول”، وبناء على ما ورد فيهما اعتمد نظام السعودية القانوني “حدودا” وعقوبات منها جلد شارب الخمر وقتل المرتد، رغم عدم ورود أيا منهما في القرآن.
تناقض واضطراب
اللافت هنا أن “ابن سلمان” لا يتخلى عن الوهابية لصالح “الجمهور الفقهي” المعتمد لدى أغلب علماء المسلمين، بل لصالح أفكار مدرسة تقع على يسار هذا الجمهور، وهو ما سبق أن دعا إليه علماء من أمثال “طه جابر العلواني”، وسبق أن نظر له “محمد الغزالي” في كتابه “السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث”، وهو الكتاب الذي لاقى انتقادات لاذعة من علماء السلفية في المملكة.
لكن باقي تصريحات “ابن سلمان” في الحوار أوقعته في تناقض مع ما دعا إليه من زاويتين، الأولى تأريخه لرواج فكر “التطرف” في السعودية بحقبة الستينات والسبعينيات، وهي الحقبة التي شهدت استضافة المملكة علماء من مدارس خارج الإطار السلفي (الإخوان المسلمون وغيرهم)، ما دعا مراقبون للتساؤل حول مصداقية هكذا تأريخ في ظل الاعتراف الضمني بأن “الوهابية” هي الإشكال الذي يسعى “ابن سلمان” لتجاوزه.
أما الزاوية الثانية فتمثلت في تأكيد ولي العهد السعودي على الإقرار بعقوبة “قتل الزاني المحصن” رغم عدم ورودها في القرآن والحديث المتواتر، إضافة إلى تأكيده على أن “أي شخص يتبنى منهجاً متطرفاً فهو مجرم مستحق للعقوبة حتى لو كان غير إرهابي”، ما يعني محاسبة المواطنين على “أفكارهم” وليس “ممارساتهم” وهو ما يتناقض مع كافة المبادئ القرآنية والحقوقية حول العالم.
فقد يعني تغيير مرجعية الحكم في السعودية تغييرا موازيا للطابع الثقافي والعلمي الذي قامت عليه مؤسسات المملكة الدينية والثقافية والتعليمية، وهي عملية لن تكون سهلة في ظل بيئة سلفية غالبة، ولذا حضور التلويح بالسلطوية يبقى “عصا” ابن سلمان التي يلوح بها في مواجهة أي معارضة محتملة.
هذا التناقض أثار سخرية الإعلامي “حافظ الميرازي”، الذي أشار إلى أن “المديفر” اكتفى “مضطرا”، بطرح رؤوس موضوعات وأسئلة أولية عامة على “ابن سلمان” دون تعقيب، وهو ما لا يصلح “إلا مع مدير شركة يجري معه مسئول علاقات عامة أسئلة للدعاية” حسب تعبيره.
وأشار “الميرازي” إلى نموذج “الاستبداد التنويري” الذي يود “ابن سلمان” تبنيه، لافتا إلى مفارقة كشفها حوار ولي العهد، تمثلت في إجراء المقابلة ضمن برنامج في قناة (روتانا خليجية) لم يعد استضافة صاحبها (الأمير الوليد بن طلال) ممكنا.
نوه الإعلامي المصري إلى الطريقة التي حصد بها “ابن سلمان” تأييد الأمير “الوليد” وغيره عبر اعتقالات طالت عشرات الأمراء والوزراء ورجال الأعمال في فندق “ريتز كارلتون” الشهير بالرياض، مشيرا إلى أن “رؤية 2030” شملت “الوليد” باستضافة في الفندق، أجرى خلالها مقابلته تليفزيونية، أكد فيها “حسن الضيافة وهو يشرب البيبسي”.