تبدو القدس على أعتاب تحوّل مهمّ من شأنه كسر حالة الركود التي أصابت الشارع الفلسطيني منذ بدء جائحة كورونا. فمع اشتداد وتيرة الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، وتصدّر متطرّفين يهود تلك الاقتحامات، ووصول أعدادهم إلى المئات أسبوعياً، اشتعلت شرارة الأحداث منذ بداية رمضان. لكن الذروة كانت تحشيد المستوطنين لكسر التجمّع الفلسطيني الشبابي الليلي عند باب العمود،
لينفجر الشبّان في مشهد مهيب، لم يستطع فيه المستوطنون، الذين يحملون السلاح، الدفاع عن أنفسهم أمام الغضب الفلسطيني. وحتى محاولة إغلاق المسجد أمام المصلّين سقطت بحشد المقدسيّين وأهالي الـ 48 عشرات الآلاف للصلاة في الأقصى. ومَن لم يستطع الوصول، طوّق البلدة القديمة بصلوات أمام الجنود
تشهد منطقة باب العمود ومحيط البلدة القديمة في القدس المحتلة، منذ بداية رمضان، مواجهات يومية متصاعدة، تدحرجت يوماً تلو الآخر لتصل إلى إحراق مركبات مستوطنين إسرائيليين وضربهم، ورجم عناصر شرطة الاحتلال بالحجارة من مسافة صفر، ليصير من الواضح أن الحدث سيرتقي إلى هبّة جماهيرية على غرار هبّتَي البوّابات الإلكترونية وباب الرحمة وغيرهما، وقد تستمرّ لأسابيع. وتعود بداية «هبّة رمضان» إلى سلسلة اعتداءات للعدو في المسجد الأقصى والبلدة القديمة، بدءاً من اليوم الأول من رمضان،
حيث شرعت شرطة العدو في نصب حواجز في ساحة باب العمود وإغلاقها أمام الفلسطينيين ليلاً، في مسعىً لإخلاء الساحة التي يتجمّع فيها الشبان في جلسات سمر كتقليد رمضاني كلّ عام. وتزامن هذا الاعتداء مع اقتحامٍ إسرائيلي لمئذنتين في الأقصى وقطع أسلاك مكبّرات صوت الأذان بزعم «تشويش صوت إمام المصلّين على احتفالات الإسرائيليين بذكرى قتلى جيشهم في ساحة البراق»، وفق القناة الـ 12 العبرية.
الحادثتان شكّلتا الفتيل الذي أشعل المواجهات اليومية ضدّ شرطة العدو وحدها في البداية، لتستمرّ الاشتباكات في باب العمود ومحيطه على شكل كرّ وفرّ بين الشبان والشرطة.
وما هي إلا أيام حتى دشّن المستوطنون ومنظّمة «لاهافا» الإسرائيلية المتطرّفة مجموعات «واتساب» تدعو إلى قتل العرب و«استرداد الشرف اليهودي» في القدس، وكان يوم الحسم ليلة الجمعة، إذ تجمّع عدد كبير من المستوطنين في غربي القدس محاولين الوصول بمسيرات إلى باب العمود، لكن هذه الدعوات والاعتداءات قوبلت بأعنف مواجهات شهدتها المدينة منذ هبّة الشهيد محمد أبو خضير في 2014.
وبحسب إحصائية، نتجت من مواجهات ليلة الجمعة إصابة أكثر من مئة فلسطيني، وتحطيم ثلاث مركبات لشرطة الاحتلال ومركبتين للمستوطنين، فيما قالت قناة «كان» العبرية إن عشرين شرطياً إسرائيلياً أصيبوا بجراح خلال المواجهات، كما كشفت القناة الـ 20 العبرية عن إصابة قائد شرطة العدو شرقي القدس، إضافة إلى ضابط آخر مسؤول في لواء شرطة المدينة.
وسرعان ما توسعّت رقعة المواجهات ليلة الجمعة، لتمتدّ إلى أحياء جديدة من مثل مفرق قرية الطور وحيّ وادي الجوز وغيرها. ووثّقت فيديوات كثيرة مصوّرة شجاعة الشبان في التصدّي للمستوطنين، إذ يظهر في أحدها شبّان يدوسون بأقدامهم على مستوطن حاول الاعتداء عليهم، وفي آخر ضربُ شابّ شرطياً إسرائيلياً بحجر من مسافة صفر ومن ثمّ انسحابه.
وتلفت مصادر مطّلعة إلى أن معظم المتظاهرين الفلسطينيين في شوارع القدس هم من الجيل الجديد، مُبيّنة أن قسماً كبيراً من المعتقلين تراوح أعمارهم ما بين 15 ــ 22 عاماً، مؤكدة أن الهبّة الحالية شعبية بامتياز وبلا قيادة محدّدة. ولا تمتاز الهبّة الجارية بعفويتها وشعبيتها فقط، بل بانتشار واسع لتطبيق «تيك توك» في التفاخر الفلسطيني بالتصدّي للمستوطنين.
وسبق أن تحدّث مراسل قناة «كان» العبرية، قبل أيّام، عن وجود خشية لدى شرطة العدو من تصاعد حوادث مهاجمة المستوطنين في القدس وتوثيقها عبر «تيك توك»، وأن تلك الحوادث تشهد ارتفاعاً، في حين أن شرطة الاحتلال لا تستطيع الوصول دائماً إلى الفلسطينيين الذين يظهرون في هذه الفيديوات.
انقلبت ليلة «استعادة الشرف اليهودي» في القدس إلى هزيمة للمستوطنين
بعد انتهاء المواجهات ليلة الجمعة، أغلقت شرطة الاحتلال بوّابات الأقصى في وجه المصلّين عند الفجر، لكن وصول آلاف الفلسطينيين من القدس والأراضي المحتلة عام 1948، وتجمهرهم أمام البوّابات، أجبرا العدو على فتحها مجدداً، ليؤمّ الأقصى أكثر من 70 ألف مصلٍّ في الجمعة الثانية من رمضان، على رغم تشديد الاحتلال قيوده. في هذا الوقت، سارعت الفصائل الفلسطينية إلى إصدار بيانات تؤكد دعمها للهبّة، وإدانتها انتهاكات العدو الإسرائيلي، فيما وجّهت الأذرع العسكرية التحية إلى شباب القدس وأهلها.
وقالت «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لـ«حماس»: «نقول للعدو الذي يظنّ أنه يمكنه الاستفراد بأقصانا وأهلنا بأن لا يختبر صبرنا، فقدسنا دونها الدماء والأرواح، وفي سبيلها نقلب الطاولة على رؤوس الجميع، ونبعثر كل الأوراق»، مضيفة لأهل القدس: «الشرارة التي تشعلونها اليوم ستكون فتيل الانفجار في وجه العدو المجرم، وستجدون كتائبكم ومقاومتكم في قلب معركتكم، وتلقّن العدو الدروس القاسية وغير المسبوقة».
كذلك، قال القيادي في «الجهاد الإسلامي»، خالد البطش: «نحن معكم بسلاحنا وصواريخنا ودمنا، ولن نتخلّى عنكم، وسنظلّ نحمي الأرض والشعب والمقدسات»، فيما دعت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» إلى «تحويل الهبة البطولية إلى انتفاضة شعبية عارمة من أجل تأكيد هويّة وعروبة المدينة، والتصدّي لعمليات التهويد». كما شهدت محافظات قطاع غزة، بعد صلاة الجمعة أمس، عدداً من المسيرات والوقفات المساندة للقدس وهبّتها الشعبية، وهو ما تكرّر في مدن الضفة، لكن في فعاليات ليلية مماثلة.
هكذا، بعد عشرة أيام على انطلاق المواجهات، يُجمع مراقبون على أن المشهد يرتقي إلى «هبّة شعبية» جديدة لن تنتهي بفتح العدو منطقة باب العمود، بل يبدو أنها ستستمرّ لأسابيع، وخصوصاً مع دعوات أطلقها المستوطنون لاقتحام الأقصى في الثامن عشر من رمضان. وفي وقت متأخر أمس، عادت المواجهات لتتجدّد في باب العمود، ما يزيد احتمالية استمرارها، وخاصة في ظلّ مواصلة العدوّ ومستوطنيه الاستفزازات.
كذلك، انتقلت المواجهات إلى بعض نقاط الاشتباك في الضفة في حاجز «قلنديا» شمالي القدس، وبلدة عزون شرقي قلقيلية، والمدخل الشمالي لمدينة بيت لحم.