المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 11 رمضان 1442هـ 23-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
يقول الله “سبحانه وتعالى” في كتابه المبارك في القرآن الكريم:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 151-153]. صدق الله العلي العظيم. الآيات المباركة من سورة الأنعام.
في هذه الآيات المباركة قائمةً من المحرمات، وأيضاً يضاف إليها، وأتى من ضمنها، بعضٌ من الواجبات المهمة، والإلزامات الإيمانية، وأتت هذه القائمة، وأتى من ضمنها التأكيد عليها بقول الله “سبحانه وتعالى”: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}، فتكررت لثلاث مرات؛ مما يدل على أهمية ما ورد في هذه القائمة، وعلى ضرورة الالتزام به، الالتزام بترك ما نهانا الله عنه في هذه الآيات المباركة، والاهتمام بما أمرنا به “سبحانه وتعالى”.
في بداية هذه القائمة قوله جل شأنه: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، ونحن- إن شاء الله- سنتحدث في المحاضرات على ضوء ما ورد في هذه الآيات المباركة، ببعضٍ من الحديث، وإلا فالحديث على ضوء الآيات القرآنية عادةً هو حديثٌ واسعٌ جداً، وكما كررنا: القرآن الكريم هو بحرٌ لا يدرك قعره، ومعينٌ لا ينضب، وهديه واسعٌ جداً، يأتي التذكير على ضوء الآيات المباركة ببعضٍ من النقاط المهمة، على رأس هذه القائمة قوله “جلَّ شأنه”: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.
الشرك بالله هو أول وأكبر المحرمات، وهو ذنبٌ عظيم، وهو أكبر الذنوب، الشرك بالله هو تنكرٌ لأكبر حقٍ، وحجودٌ لأعظم حقيقة، الله “سبحانه وتعالى” ربنا، رب العالمين، رب السماوات والأرض، رب كل شيءٍ، وخالق كل شيء، هو وحده الإله الحق الذي لا تحق العبادة إلا له؛ لأنه “سبحانه وتعالى” الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء، والملك ملك السماوات والأرض، وهو رب العالمين، وهو “سبحانه وتعالى” ذو الكمال المطلق، ليس أحدٌ في كماله يرقى إلى مستوى أن يكون إلهاً إلا الله “سبحانه وتعالى”، هو ذو الكمال المطلق، فعندما تشرك في عبادتك بالله أحداً، فأنت هنا ترتكب أبشع وأعظم الكبائر والذنوب، وتتنكر لربك، لخالقك، لإلهك الحق، المنعم عليك، الذي بيده حياتك، وموتك، وإليه مصيرك، وبيده مستقبلك، وأنت تجعل أو تقدم ما ينبغي أن تقدمه له؛ لأنه من يستحق ذلك وحده من العبادة، أو ما يعبِّر عنها، تقدمه لغيره، أو تشرك معه غيره في ذلك، فأنت هنا ترتكب باطلاً كبيراً، وجرماً عظيماً، وتتنكر لحقٍ عظيم، وهذا أيضاً هو ظلمٌ عظيم، ظلمٌ للحق والعدالة، وظلمٌ لنفسك، ولهذا أتى التحذير من الشرك؛ لأنه تنكر للحق العظيم، لله “سبحانه وتعالى”، وتوجهٌ بما لا ينبغي أن نتوجه به إلا لله “سبحانه وتعالى”، لربنا، لإلهنا الحق، وعندما تتوجه بهذا إلى غيره، فأنت هنا تخطئ هذا الخطأ الجسيم، وترتكب هذا الذنب العظيم.
ومن أخطر ما في الشرك، ومن أسوأ ما يترتب عليه: أنه يصرفك عن الاهتداء بهدى الله “سبحانه وتعالى” عن هذه الصلة العملية بطاعة الله “سبحانه وتعالى”، وهذه مسألة خطيرة جداً؛ لأنك إن لم توحد الله “سبحانه وتعالى”، واتجهت إلى غيره، وأشركت به غيره، فهذا يؤثر على مدى استجابتك لله، مدى طاعتك لله “سبحانه وتعالى”، وهذا تأثيره عليك أنت؛ لأن كل ما يأمرنا الله به، ما يوجهنا إليه، ما يدعونا إليه، وما نهانا عنه، هو فيما هو مصلحةٌ لنا وخيرٌ لنا.
إضافةً إلى أن الشرك هو ضياعٌ كبيرٌ للإنسان؛ لأن الذي تتجه به إلى غير الله “سبحانه وتعالى”، لن تنال منه ما ترجوه، نحن عندما نتجه إلى الله “سبحانه وتعالى”؛ لأنه الرب الحقيقي، الرب المالك، ذو الكمال المطلق، ولذلك عندما نرجوه، عندما نأله إليه، عندما نخاف من عقابه، فهذا الرجاء هو رجاءٌ في محله، في اتجاهه الصحيح، إلى حيث من يمتلك كل شيء، من بيده الخير كله، من هو على كل شيءٍ قدير، من إن يردك بخيرٍ فلا راد لفضله، عندما نخاف من عقابه، فنحن نخاف من عقاب من هو على كل شيءٍ قدير، من إن أرادنا بضرٍ، فلا يستطيع أحدٌ أن يكشفه عنا، ولا أن يرده عنا، ولا أن يدفعه عنا، ولا أن يحوله عنا، من هو القاهر فوق عباده، من هو بكل شيءٍ خبير، وعلى كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ محيط، وتنفذ قدرته على كل شيءٍ، وهو المهيمن على كل شيء، وهكذا، أما غيره فهم كلهم من خلقه، تحت سيطرته وقهره وهيمنته، وفي إطار ملكه، وتحت سلطانه، ولذلك يعتبر ضياعاً كبيراً، الشرك بالله، والتوجه إلى غير الله، بما هو حقٌ لله “سبحانه وتعالى”.
الشرك بالله له شكلان:
الشكل الأول: عقائديٌ، ويتبعه العمل:
من يعتقدون أن مع الله إلهاً آخر كعقيدة، ويشركون به من منطلق هذه العقيدة، ذلك الذي يظنونه، أو يتوهمونه، أو يزعمونه، إلهاً مع الله “سبحانه وتعالى”، وهذه الحالة كانت سائدة، ولا زالت منتشرة في واقع البشر، لا تزال كثيرٌ من الأمم من البشر لها هذه العقيدة: تعتقد مع الله إلهاً آخر، وتشرك به في العبادة، ومن منطلق عقيدة باطلة تعتمد عليها، أو تنطلق على أساسها، ويتبع ذلك- كما قلنا- العمل.
الشكل الآخر من أشكال الشرك: هو الشرك العملي:
فقد تكون في عقيدتك موحداً، وتعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده “سبحانه وتعالى” الإله الحق، ولكن على مستوى الواقع العملي، والالتزام العملي، والعبادة، والطاعة، تشرك به غيره، غيره من الآخرين من الأرض، من مخلوقاته، أو شيئاً آخر، كمثل الهوى، هوى النفس.
الحالة التي تعود إلى الشرك العملي يدخل فيها: الطاعة في معصية الله: عندما تؤثر طاعة أحدٍ، فيما هو معصيةٌ لله، فآثرت طاعته على طاعة الله، يعني: جعلت طاعته بالنسبة لك أقدم، وأهم من طاعة الله، فأنت عصيت الله، في مقابل أن تطيع ذلك الغير، هذه الحالة هي حالة من الشرك العملي.
أيضاً من حالات الشرك العملي: الشرك في التشريع:
عندما يأتي من يشرع لك ما فيه مخالفةٌ لشرع الله، فيحرم عليك ما أحل الله، أو يحل لك ما حرم الله، ويقدمه لك كحلال، سواءً كان بعنوانٍ ديني، أم بغير عنوانٍ ديني، كالعنوان القانوني، والعنوان الدستوري، أو أي عنوان آخر، عنوان تنظيمي، أي عنوان آخر، ينتج عنه هذا المحذور: فيحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، فإذا قبلت منه ذلك، واعتبرت ما أحله لك من الحرام الذي حرمه الله، اعتبرته حلالاً؛ لأنه أحله لك، أو حرمت ما أحل الله؛ لأنه حرمه، فهذه حالةٌ من الشرك، أنت أعطيته ما ليس إلا لله، حق التشريع، والحق في التحليل والتحريم، هو لله “سبحانه وتعالى”؛ لأنه المالك لنا، والمالك لكل هذا العالم، والمالك للأرض، والمالك لكل ما استخلفنا فيه، المالك الحقيقي وهو “سبحانه وتعالى” العليم بكل شيء، والحكيم، والرحيم، والعدل، هو الذي يقرر ما هو حلال، وما هو حرام، هذا حقٌ خاصٌ به، فإذا تعاملت مع غيره على أن له هذا الحق، وقبلت منه ذلك؛ فهذه حالة من الشرك العملي. وهذه الحالة هي حالة خطيرة: الشرك العملي.
من حالات الشرك العملي: حالة الرياء، حالة الرياء: عندما تعمل عملاً من الأعمال التي هي عبادة، وطاعة، وقربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، وشرعها الله لتكون طاعةً له، وقربةً إليه، كالصلاة، كالصيام، كالجهاد، كسائر الأعمال الصالحة التي أمر الله بها وشرعها، وهي قربةٌ إلى الله “سبحانه وتعالى” نتقرب بالطاعة فيها لله “جلَّ شأنه”، فإذا أردت من أي عملٍ منها أن تتودد به إلى الآخرين، وأن تحظى بالقرب منهم، أو بالسمعة لديهم، أو بالذكر الحسن منهم، والإشادة، والذكر الجميل، أو أن يكون لك في نظرهم منزلة ومرتبة عالية، فهذه حالة من حالات الشرك.
الشرك العقائدي: هو شركٌ يخرج من الملة، يعني: من أشرك بالله “سبحانه وتعالى” من منطلق عقيدة، يعتقد في غيره أنه إله، فهذا هو شركٌ يخرج من الملة، شرك يعتبر شركاً كاملاً؛ لأنه انحرف بالإنسان بشكلٍ كلي، حينها لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً بالله “سبحانه وتعالى”، ومسلماً، هذا شرك يخرجه من الملة.
الشرك في الواقع العملي: أيضاً هو جرمٌ عظيم، وذنبٌ كبير، وهو في مقدمة الذنوب. الشرك في كل أحواله: على المستوى العقائدي وما تبعه من عمل، وعلى المستوى العملي، هو أكبر الذنوب وأعظمها، ولهذا يأتي في أول القائمة، في أول قائمة المحرمات، التي حرمها الله “سبحانه وتعالى”، وما يترتب عليه هو أشياء سيئة جداً.
في المقابل مبدأ التوحيد لله “سبحانه وتعالى”: هو أول وأكبر وأعظم المبادئ الإيمانية، والالتزامات الإيمانية، ويترتب عليه في الواقع العملي مستلزماته العملية، وهذا من أكثر ما يغيب عن ذهنية الكثير من أبناء الأمة (من المسلمين)، يغيب عن بالهم، وعن ذهنيتهم، ويغيب حتى في التثقيف الديني، والتعليم الديني، إلى حدٍ كبير، ثمرة التوحيد، الحديث عن ثمرة التوحيد، عن نتيجة التوحيد، عن نتيجة هذا المبدأ العظيم، عمَّا ينبغي أن يبنى عليه.ولأهمية هذا المبدأ العظيم، فهو من المبادئ الأساسية التي يجب الترسيخ لها، والتركيز عليها بشكلٍ مستمر، أن ترسخ هذا المبدأ بشكلٍ مستمر، طول مسيرة حياتك، كلما ترسخ أكثر؛ كلما كانت نتيجته في الواقع العملي أكبر وأهم.
ولهذا يأتي الخطاب للنبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وهو من هو في كمال إيمانه ويقينه، وهو من هو في توحيده لله “سبحانه وتعالى”، وإيمانه بالله “جلَّ شأنه”، فيقول له الله “سبحانه وتعالى”: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: من الآية19]، {فَاعْلَمْ}، هكذا يخاطب نبيه، ولم يقل: [قد أنا عالمٌ بذلك، وقد عرفت بهذا، ما هي الفائدة أن تقول لي ذلك]، {فَاعْلَمْ}؛ لأنه مهما بلغ إيمانك، مهما بلغ يقينك، مهما كنت في توحيدك لله “سبحانه وتعالى”، وفي بصيرتك تجاه هذا المبدأ العظيم، يجب أن ترسِّخ ذلك في قرارة نفسك أكثر فأكثر، وتجاه كل المستجدات في حياتك، تحتاج إلى هذا المبدأ العظيم، تحتاج إليه في مسيرة حياتك؛ لكي تتحرك بشكلٍ صحيح، لكي تستقيم، لكي تواجه به كل التحديات، التي قد تصرفك عن طاعة الله، وعن العبادة لله، وعن الاستجابة لله “سبحانه وتعالى” فيما هو من الأمور المهمة.
ولذلك نجد في القرآن الكريم التأكيد على مسألة الثمرة المهمة لهذا المبدأ العظيم، يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: الآية25]، لاحظوا، هذه ثمرة التوحيد: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}، يعني: إلَّا الله “جلَّ شأنه”، {فَاعْبُدُونِ}، النتيجة هي أن نعبده وحده، العبادة في كل معانيها، العبادة في كل ما يجسِّدها، من طاعةٍ كاملةٍ لله “سبحانه وتعالى”، من توجهٍ كاملٍ إليه بالرهبة، والرغبة، والرجاء، والمحبة، والطاعة المطلقة.
يقول “جلَّ شأنه” مخاطباً لنبيه محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[الأنبياء: الآية108]، هذه ثمرة التوحيد أن نسلم لله، وأن نستجيب له الاستجابة الكاملة، وأن نذعن له في كل أوامره وتوجيهاته، ألَّا يصرفنا عن ذلك هوى نفس، ألَّا يصرفنا عن ذلك مخاوف من الآخرين، ألَّا يصرفنا عن ذلك أطماع ورغبات فيما لدى آخرين، ألَّا يصرفنا عن ذلك توجس، فالإيمان بالله والتوحيد له يجعلك تحب الله فوق كل شيء، ترغب فيما وعدك به فوق كل شيء، تخشى من عقابه فوق كل شيء، فتتحرر من كل ما يمكن أن يصرفك، أو يعيقك، أو يؤثِّر عليك في مقام الاستجابة لله “سبحانه وتعالى” سلباً.
يقول “جلَّ شأنه”: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل: الآية51]، الجدير بأن نرهب من عقابه فوق كل شيء هو الله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي لا ينبغي أن يخيفك الآخرون، مهما كانت إمكاناتهم، مهما كان جبروتهم؛ لأنه لا شيء في مقابل جبروت الله “سبحانه وتعالى”، فلا يخيفوك، ولا يعيقوك عن الاستجابة لله، في أي أمرٍ من أوامره وتوجيهاته.
يقول “سبحانه وتعالى”: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: الآية2]، (فَاتَّقُونِ) هي ثمرة من ثمار ترسيخ مبدأ التوحيد، والإيمان بأنه (لا إله إلا الله وحده)، فهو الذي يجب أن تتقيه، فلا يصرفك الآخرون عن الاستجابة له في أي أمر، في أي توجيهٍ يأمرك به “سبحانه وتعالى”، عليك أن تطيعه الطاعة الكاملة، وأن تخشى من عقابه، أن تخشى من التفريط فيما أمرك به.
يقول الله “سبحانه وتعالى” مخاطباً لنبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: من الآية6]، هذه هي ثمرة، ثمرة لهذا المبدأ العظيم، ليست المسألة أن تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) وانتهى الموضوع، لا تفصل هذا المبدأ عن العمل، عن مسيرة حياتك، عن أن تكون مسيرة حياتك بكلها طاعةً لله، وعبادةً لله، والتزاماً بمنهج الله “سبحانه وتعالى”، واستقامةً على أساس ما وجهك إليه، وسيراً إليه في طريقه وصراطه المستقيم، وأن تستغفره، وأن تستشعر تقصيرك نحوه، وأن تبادر بالتوبة عند الزلل، وعند التقصير، وعند التفريط، تبادر بالاستغفار إليه.
يقول الله “سبحانه تعالى”: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، هو وحده ربكم، المالك لكم، الخالق لكم، الرازق لكم، المربي لكم، المنعم عليكم، الذي حياتكم بيده، رزقكم بيده، موتكم بيده، مصيركم إليه، لذلك هو وحده الجدير بأن تحبوه فوق كل شيء، فوق كل محبة، أن تخافوا من عقابه فوق كل شيء، فوق كل عقابٍ وخوف، أن ترجوه وأن ترغبوا فيما وعد به فوق كل رغبةٍ ورجاء، وبالتالي أن تطيعوه الطاعة الكاملة، وأن تستجيبوا له الاستجابة الكاملة، وألَّا يصرفكم أحد، أو يعيقكم أحد، عن هذه الاستجابة الكاملة.
يقول الله “سبحانه وتعالى” مذكراً لنا بكماله العظيم، وأنه وحده الإله الحق، هو الجدير منا بالعبادة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة: الآية163]، هو وحده إلهنا الحق، وهو أرحم الراحمين، هو الرحمن الرحيم، من وسعت رحمته كل شيء، ليس إلهاً يتجبر، ويتكبر، ويظلم، ويبطش، ولا يرحم عباده، هو أرحم الراحمين، وكل توجيهاته لنا، وكل أوامره لنا، وفي كل ما نهانا عنه، إنما ذلك من منطلق رحمته بنا، ولذلك لا مبرر لنا أن ننصرف عن توجيهاته، أو أوامره، بحجة الرحمة بأنفسنا، ونتصور أننا أعرف، وأننا أرحم بأنفسنا، وأعرف بما فيه الخير لنا، عندما نتنكر لبعضٍ من توجيهاته وتعليماته بهذا الدافع، بدافع الرحمة والشفقة على أنفسنا، فنحن نخطئ بحق أنفسنا؛ لأنه أرحم الراحمين، وكل توجيهاته من منطلق رحمته بنا، مع علمه ما هو الخير لنا.
يقول “جلَّ شأنه”: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فهو “جلَّ شأنه” الإله الحق لا إله إلا هو العزيز الذي لا يقهر، أنت عندما تتولاه، أنت تتولى من لا يقهر، هو الجدير بأن تثق به، بأن تتوكل عليه، هو الجدير بأن تعتمد عليه، وأن تلتجئ إليه، وأن تعتصم به، الحكيم، كل توجيهاته وأوامره وتشريعاته حكيمةٌ لا عبث فيها، لا حماقة فيها، لا جهالة فيها؛ إنما هي بمقتضى الحكمة؛ فلذلك هو الجدير بأن تثق به، أن تعتمد عليه، أن تتوكل عليه.
يقول “سبحانه وتعالى”: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: من الآية110]، الحالة التي ينصرف الإنسان فيها عن التوحيد لله في ثمرته العملية: هي اتخاذ الأنداد، أنداد من دون الله “سبحانه وتعالى”، عندما تعطي ما هو حقٌ خالصٌ لله، فتتوجه به إلى غيره، من الطاعة فيما هو معصيةٌ لله، من المخالفة لتوجيهات الله وأوامره، من خشيةٍ، أو رهبةٍ، أو رغبةٍ، أكبر مما هو لله، أو مساوي لما هو لله، وهذه الحالة أنت تجعل فيها نداً لله “سبحانه وتعالى”، وتعبِّد نفسك له، هذه حالة خطيرة جداً، ولهذا يقول الله “جلَّ شأنه في القرآن الكريم، بعد أن ذكر بنعمه السابغة والعظيمة علينا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية22]، يبين حال الكثير من الناس الذين يتورطون في ذلك، فيقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة: من الآية165]، الذين آمنوا أشد حبهم، وأقوى حبهم، وأعلى مرتبات محبتهم، هي لله “سبحانه وتعالى”، لا يعني هذا أنك لا تحب الله، أنت تحب أشياء كثيرة غير الله “سبحانه وتعالى”، ولكن يجب أن يكون حبك أكبر من كل حبٍ لأي شيءٍ آخر، حبك لله “سبحانه وتعالى”، أن يكون أكثر من محبتك لأي شيءٍ آخر؛ حتى لا يؤثر عليك أي شيءٍ آخر، فيصرفك عن الطاعة لله، وعن العبادة لله، وعن الاستجابة لله.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة: من الآية165]، سيتجلى ومن أكبر ما يتجلى فيه ذلك في الآخرة، في يوم القيامة، عندما تأتي جهنم، عندما تتجلى سيطرة الله وقهره فوق عباده في يوم القيامة، عندما يأتي الكل في مقام العبودية والخضوع التام لله “سبحانه وتعالى”، يتجلى كم أن الله هو القوي، وأن القوة كلها لله، أن القوة لله جميعاً، تجلى لكل الذين اتخذوا أنداداً من دون الله، أن من اتخذوهم أنداداً من دون الله، هم عبادٌ في غاية الضعف والعجز والاستسلام أمام الله “سبحانه وتعالى”، وجبروته، وقوته.
فمن كانوا ينبهرون بآخرين، سواءً أشخاصاً، أو قوى معينة، أو دول، أو جيوش، أو كيانات معينة، أنها ذات قوة متكبرة، ذات قوة كبيرة متجبرة، واندفعوا بهذا الدافع: بدافع الخوف منهم، فأطاعوهم في معصية الله، فلم يستجيبوا لله فيما أمر به من أجلهم؛ خوفاً منهم، يتجلى لهم يوم القيامة مدى خسارتهم، ومدى ما وصلوا إليه من الخسران والهوان، والعياذ بالله، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة: من الآية166]؛ لأنهم اتخذوهم أنداداً لله في هذا السياق: في سياق اتباع، يعني: على المستوى العملي، وليس فقط على المستوى العقائدي، هذا هو الشرك العملي، على المستوى العملي: اتبعوهم بدلاً عن منهج الله، بدلاً عن كتاب الله، بدلاً عن توجيهات الله وأوامر الله “سبحانه وتعالى”.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ}، رأوا العذاب، وهو مشهد رهيب جداً، ومخيف، ورأوا عجز أولئك الذين اتخذوهم أنداداً عن أن يعملوا لهم أي شيءٍ أمام ذلك العذاب، {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة: من الآية166]، لم يبق لهم أي وسيلة، ولا أي طريقة للخلاص من العذاب، أو لدفع العذاب عن أنفسهم، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: الآية167].
فنجد أن الثمرة الصحيحة لمبدأ التوحيد: هي الاستجابة العملية لله “سبحانه وتعالى”، العبادة بمفهومها الشامل، الذي فيه التسليم التام لأمر الله وتوجيهاته، وطاعةٌ كاملة، والتوجه بالرجاء، والرهبة، والمحبة، والخوف، إلى الله “سبحانه وتعالى”، فوق كل شيء، وهذا ما نحتاج إلى ترسيخه في واقعنا، وفي مسيرة حياتنا وبشكلٍ مستمر؛ لأنه من سيفيدك، وسيكون هذا المبدأ العظيم، هو الذي تواجه به كل من يبرز ليكون آلهةً لك، حتى هوى نفسك، حتى المطامع، حتى الرغبات، حتى الآخرين بكل جبروتهم وطغيانهم، هذا المبدأ العظيم سيحررك من أن تعبِّد نفسك لغير الله “سبحانه وتعالى” بكل أشكال التعبيد للنفس، في مقام الطاعة والعمل، أو في مقام الاعتقاد، أو في مقام الخوف والرجاء، فهو مبدأٌ مهمٌ جداً.
نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛